شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"غودكا جليعو"... سجن حكومي يديره جهاديون تائبون في الصومال

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

في شهادته لرصيف22، يصف سجين سابق سجن "غودكا جليعو"، سيئ السمعة الذي قضى فيه أشهراً، وهو سجن في مقديشو تديره المخابرات، قائلاً: "هو مسلخ بشري؛ مكان لا حياة فيه ولا رحمة ولا يصلح للبشر".

يُعدّ سجن "Godka Jilicaw" أسوأ السجون التي عرفها الصومال منذ الاستقلال عام 1960، ويعود تأسيسه إلى عهد الرئيس الأسبق، الجنرال محمد سياد بري، الذي حكم البلاد بقبضة حديدية.

وكانت حكومة الرئيس السابق محمد عبد الله فرماجو، قد أعلنت في كانون الأول/ ديسمبر 2018، إغلاق السجن بعد إدانات دولية، لكن شهادات السجناء الذين أُطلق سراحهم بعد ذلك التاريخ، وتقارير منظمات إنسانية، كشفت أنّ الحكومة كذبت في تصريحاتها، وأنّ السجن ما يزال في الخدمة.

المسلخ البشري

يقع السجن في مديرية حمروين، على بعد أمتار من "فيلا صوماليا"، القصر الرئاسي، وهو من بين المباني الأشد تحصيناً في العاصمة مقديشو. ارتبط اسمه على مدار عقود بالانتهاكات التي طالت حقوق الإنسان، منذ حقبة الحكم العسكري السابق.

كان السجن ملحقاً بجهاز الأمن الوطني حتى انهيار الدولة المركزية عام 1991. في داخله ارتكب الجهاز انتهاكات واسعة النطاق بحق المعارضين، واتخذ منه مركزاً للتعذيب. وفي تقارير منظمات حقوق الإنسان في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، يرد اسم السجن مرات عدة، كما في تقرير منظمة العفو الدولية بعنوان "الصومال: أزمة طويلة الأمد لحقوق الإنسان". ويصف التقرير السجن بأنّه عبارة عن حفرة تحت الأرض، تُمارَس فيها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

يضم السجن أقساماً عدة، منها قسم الزنازين الانفرادية المخصصة للسجناء السياسيين المعارضين والصحافيين وعناصر التنظيمات المتطرفة، ويُعدّ القسم الأسوأ والأكثر فظاعةً؛ حيث يفتقر إلى جميع معايير السلامة. يرتبط هذا السجن في الذاكرة الصومالية بالكثير من الإعدامات تحت التعذيب والانتهاكات الجسيمة، ويطلق عليه سكان مقديشو سجن الموت أو معتقل الرحلة إلى الآخرة.

بعد سقوط الدولة المركزية عام 1991، أُغلق السجن ثم أُعيد افتتاحه مرةً ثانية عام 2007، في عهد الرئيس الانتقالي عبد الله يوسف أحمد، الذي كان عقيداً سابقاً في الجيش الصومالي قبل تفكك الدولة. قام عبد الله يوسف بإعادة تشكيل جهاز الأمن الوطني تحت اسم وكالة الأمن الوطني والمخابرات، وعُرف باسم "NISA"، وأعاد فتح السجن وإتباعه للجهاز، في تكرار لما كان عليه الوضع وقت الحكم العسكري. ولم يستجب الرئيس السابق لدعوات السياسيين والنخب بعدم تشكيل جهاز المخابرات السابق وفتح السجن، لتعود الانتهاكات المرتبطة بالجهاز والسجن مرةً أخرى في الصومال مع الحكومة الانتقالية (2004-2012)، ثم الحكومة الفيدرالية التي تشكلت منذ عام 2012.

وبرغم إدارة وكالة المخابرات لسجون عدة في مقديشو، إلا أنّ معظم الانتهاكات التي اتُهمت بارتكابها كان سجن غودكا جليعو مكان وقوعها، مثل التعذيب الجسدي، والصعق بالكهرباء والغمر بالمياه خلال الليل، بالإضافة إلى الجرح بالسكاكين والعنف الجنسي ضد النساء، وهو ما أكده السجين السابق، يوسف (اسم مستعار)، الذي تحدث إلى رصيف22، قائلاً إنّه تعرض للتعذيب بالغمر في المياه، وكاد يموت اختناقاً بعد إلقائه في خزان مملوء بالماء البارد في ليلة شديدة البرودة.

السجن في عهد الدولة الفيدرالية

في 2012، تم اعتماد الدستور الانتقالي في الصومال، وأُجريت انتخابات رئاسية وبرلمانية، وفاز الرئيس حسن شيخ محمود بولايته الأولى (2012-2017)، وفق نظام انتخابي يُنتخب الرئيس فيه عبر البرلمان الفيدرالي.

عُدّت تلك الفترة واحدةً من أسوأ الأوقات التي شهدت انتهاكات لحقوق الإنسان، ومنها حوادث وقعت في سجن "غودكا جليعو"، بحسب منظمات حقوقية محلية ودولية، لكن الانتهاكات لم تتوقف في عهد الرئيس التالي محمد عبد الله فرماجو (2017-2022)، الذي وظّف وكالة المخابرات والأمن الوطني لقمع الذين عارضوا مساعيه للفوز بفترة رئاسية ثانية.

من بين السجناء الذين تم تعذيبهم في سجن غودكا جليعو، صحافيون وناشطون ومعارضون سياسيون وموظفون حكوميون نالوا فيه التعذيب والضرب والصعق بالكهرباء والغمر بالمياه خلال الليل، بالإضافة إلى الجرح بالسكاكين والعنف الجنسي

ومن بين السجناء الذين تم تعذيبهم في السجن، صحافيون وناشطون ومعارضون سياسيون وموظفون حكوميون. عبد الله محمد نور، المسؤول السابق في ولاية جوبالاند والسياسي المعارض، تحدث إلى موقع "Hanoolaato Media" الإخباري عن تجربته في سجن غودكا جليعو، الذي اقتيد إليه بعد اعتقاله من مطار مقديشو الدولي عام 2019.

ذكر نور، أنّ رجالاً من وكالة المخابرات والأمن الوطني اصطحبوه من مطار مقديشو إلى مقر الوكالة داخل المطار، ثم وضعوه في عربة دفع عسكرية معصوب العينين، ووجد نفسه في زنزانة انفرادية، عرف أنّها تحت الأرض، وفي سجن غودكا جليعو.

وأضاف في حديثه عن معاناته في السجن: "عانيت أشد المعاناة في المعتقل، ومرضت ولم أجد أي رعاية صحية، لقد نقص وزني حتى وصل إلى 37 كيلوغراماً بعد أن كان فوق الثمانين. كبّلوا يديّ وقدميّ بالأصفاد حتى تلفت أعصاب أطرافي من الأصفاد".

روى السجين الذي تحدث إلى رصيف22، ويُدعى أحمد يوسف، تفاصيل اعتقاله التي وقعت عام 2019. وذكر أنّ وحدةً من وكالة المخابرات داهمت الحي الذي تعيش فيه عائلته، في أثناء زيارته لهم في مقديشو، وقاموا باقتياده في سيارة دفع رباعي إلى السجن. قال يوسف: "لم أكن أعرف شيئاً عن المعتقلات وطبيعة السجون في مقديشو، لكن الشيء الذي أقلقني دائماً سجن 'غودكا جليعو' لأنه اسم ارتبط بالكثير من الجرائم والانتهاكات".

وعن تجربته في سجن غودكا جليعو، قال: "وضعوني في زنزانة انفرادية ضيقة للغاية تحت الأرض، مطلية جدرانها بدهان لزج، وأغلقوا بابها الحديدي، ولم تكن تصلني سوى صرخات وآهات سجناء يتعرضون للتعذيب في الغرف المجاورة".

سجين آخر يُدعى أبشر غارني أدن، تحدث في فيديو على يوتيوب عن تجربة اعتقاله لمدة تزيد عن عام في السجن، قائلاً: "لقد ربطوا يديّ وقدميّ إلى الخلف، ثم ضربوني بالهراوات والعصي حتى فقدت الوعي. وفي مرات أخرى نزعوا ملابسي وضربوني".

أُودع أبشر السجن بتهمة الانتماء إلى حركة الشباب المصنّفة إرهابيةً، واعترف بالتهم المنسوبة إليه بعد انتزاعها منه تحت التعذيب، ثم قامت وكالة المخابرات بنشر اعترافه عبر تويتر

أُودع أبشر، وهو موظف في بلدية مقديشو، السجن بتهمة الانتماء إلى حركة الشباب المصنفة إرهابيةً. نفى تلك التهمة، ثم اعترف بالتهم المنسوبة إليه كلها بعد انتزاعها منه تحت التعذيب، وقامت وكالة المخابرات بنشر اعترافه عبر تويتر، في فيديو بتاريخ كانون الثاني/ يناير 2020.

كما ارتبط اسم السجن بقضية اختفاء عميلة المخابرات إكرام تهليل، ثم قتلها على يد وكالة المخابرات، كما ترجح العديد من المصادر.

جهاديون تائبون يعذبون السجناء

في مقابلة إعلامية، ذكر عبد الله محمد نور، أنّ القيادي السابق في مخابرات حركة الشباب زكريا إسماعيل أحمد حرسي، زاره في الأيام الأولى لسجنه، لإقناعه بالعمل معهم لتنفيذ خطة لنشر الفوضى في مدينة كسمايو حاضرة ولاية جوبالاند، بسبب الخصومة السياسية بين الرئيس آنذاك، محمد عبد الله فرماجو، ورئيس الولاية أحمد إسلام مدوبي. وذكر نور أنّ حرسي كان يستخدم لفظة "أخي"، وهي كلمة يستخدمها عناصر حركة الشباب في الحديث إلى بعضهم البعض.

خرج نور من السجن مصاباً بشلل جزئي في قدمه بسبب التعذيب، ويعتقد أنّ المسؤولين عن تعذيبه كانوا عناصر سابقين في حركة الشباب المصنّفة إرهابيةً، انضموا إلى الحكومة بعد استسلامهم، وقال: "هناك وحدة عسكرية من قوات المخابرات جميع عناصرها كانوا مسؤولين سابقين في حركة الشباب، وهذه العناصر تتصرف بوحشية وعنف، ويفعلون ما يحلو لهم دون رقيب أو مساءلة". ذلك التعاون أقرّ به نائب المدير السابق للوكالة في آب/ أغسطس 2020.

"هناك وحدة عسكرية من قوات المخابرات جميع عناصرها كانوا مسؤولين سابقين في حركة الشباب، وهذه العناصر تتصرف بوحشية وعنف، ويفعلون ما يحلو لهم دون رقيب أو مساءلة"

بدوره، صرّح الأمين العام لنقابة الصحافيين الصوماليين الذي سُجن سابقاً لدى جهاز المخابرات، عبد الله مؤمن، في مقابلة تلفزيونية، بأن غالبية الجلادين الذين يقومون بتعذيب السجناء هم أعضاء سابقون في حركة الشباب الإرهابية، دُمجوا في وكالة المخابرات، ويرتكبون انتهاكات وجرائم بحق المدنيين.

وبشكل عام، ينضم العديد من المسؤولين السابقين في حركة الشباب إلى الحكومة الفيدرالية بعد استسلامهم، ومن هؤلاء وزير الأوقاف الحالي مختار روبو، الذي كان نائباً لزعيم الحركة، وغيره من المسؤولين رفيعي المستوى.

تقنين انتهاكات المخابرات     

في ظل المخاوف الكبيرة من انتهاك وكالة المخابرات والأمن الوطني وغيرهما من المؤسسات الأمنية، لحقوق الإنسان في الصومال، ولّد التصديق على قرار ينظّم عمل المخابرات في البلاد، مخاوف من تقنين القمع والتشجيع على الإفلات من العقاب.

في شهر شباط/ فبراير 2023، أقرّ البرلمان الصومالي بالأغلبية مشروع القانون الذي أعدّته وكالة المخابرات والأمن الوطني. وبحسب تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش، فإنّ القانون يمنح الوكالة صلاحيات أوسع للاعتقال والاحتجاز والمراقبة. وكانت المنظمة قد دعت الرئيس حسن شيخ محمود، إلى عدم توقيع المشروع كونه يعطي الضوء الأخضر لجهاز المخابرات لارتكاب مزيد من الانتهاكات والاعتداءات ضد المدنيين، لكن شيخ محمود وقّع المشروع ليصبح نافذاً. في السياق ذاته، أبدى الكثير من الخبراء في مجال حقوق الإنسان، قلقهم حيال المشروع الجديد، كما ذكر الخبير القانوني والناشط في المجتمع المدني، علي حسن لرصيف22.

بدوره، توقّع الناشط الحقوقي من مقديشو، عبدي جيدي، في حديثه إلى رصيف22، أنّ انتهاكات وكالة المخابرات بحق المدنيين ستزداد خلال السنوات في ظل ما يوفره القانون الجديد من صلاحيات واسعة وحماية كبيرة للوكالة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard