شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
التدفئة والطهو بالجمر... الفحم في بيوت اليمنيين قاتل صامت

التدفئة والطهو بالجمر... الفحم في بيوت اليمنيين قاتل صامت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بيئة ومناخ

الثلاثاء 22 نوفمبر 202210:45 ص
Read in English:

Heating and cooking with coal: A silent killer in Yemeni homes

يأتي الشتاء محفزاً للمرض، ومعيقاً لحركة اليمنيين في الشوارع ليلاً، وفي ساعات الصباح الباكر، حيث الطقس البارد مع موجات صقيع، في ظل عدم جاهزية الناس في بلد يعيش معظم سكانه تحت خط الفقر المدقع، ويكاد لا يخلو بيت فيه من "الفحم".

فاطمة عاطف، جدة لأحد عشر حفيداً، تعيش في منطقة الروضة في صنعاء، وهي إحدى النساء اللواتي اضطرتهن قسوة الظروف المعيشية إلى شراء الفحم. تقول لرصيف22: "تغيرت صنعاء. أصبح صيفها حارقاً وشتاؤها أشبه بثلاجة موتى. يحزنني أن يمرض أحفادي فيما الفحم مشتعل للطهو والمداعة، لذلك تساءلت: لماذا لا نستغله في التدفئة شتاءً؟". والمداعة وسيلة تدخين قديمة محلية الصنع، يفضّلها كبار السن، وتحوي تبغاً مزروعاً يُسمى التتن.

لا تدرك فاطمة خطورة الفحم، وتقول: "كنا نشعل الخشب في مواقد الحجر يومياً، وكنا بصحة جيدة. اليوم يتحول الفحم إلى جمر فور احتراقه، ويزيد الهواء من سرعة اشتعاله".

يحزنني أن يمرض أحفادي فيما الفحم مشتعل للطهو، لذلك تساءلت: لماذا لا نستغله في التدفئة شتاءً؟

وبالرغم من حضور الفحم للطهو في منازل اليمنيين، إلا أن التدفئة به ما تزال تجربةً يشوبها الخوف من الحريق والاختناق بالدخان. تسترجع نعيمة عبده، مأساتها في إحدى قرى منطقة حراز في محافظة صنعاء: "قبل ثلاثين سنةً، كنت نائمةً مع طفلتَيّ ليلاً، وكان الطقس بارداً، مطر وضباب استمرا لأيام، فأخذت مجمر النار من الدهوة، أي زاوية الطهو بالحطب والفحم، وأدخلته إلى غرفتي. كنّا على وشك الموت اختناقاً، ولم أستيقظ إلا حين كسر الباب في ساعة متأخرة من الصباح".

وبالرغم من توفر وسائل تدفئة وتبريد عصرية، إلا أن الكلفة المادية للأجهزة الكهربائية شراءً واستهلاكاً، والخوف من حدوث ماس كهربائي، والتحذير من الانبعاثات الحرارية للمدفأة الكهربائية، وازدحام البيوت بأفراد العائلة لتقليل كلفة الإيجار في ظل انعدام الدخل في زمن الحرب والبطالة، كل ذلك جعل من فكرة شراء المدفأة الكهربائية ترفاً خطراً، ليكون البديل أحياناً دخان الحطب والفحم في غرف مزدحمة وضيقة وبلا تهوية.

اليوم نرى أن الخطر المحدق وحالات التحسس الرئوي نتيجة استخدام الفحم داخل البيوت في تزايد، وكثيراً ما نسمع عناوين تتصدر نشرة الأخبار: "أرادت الأم تدفئة صغارها فماتوا"، وفي الشتاء الفائت توفيت أم ورضيعها وابن عمه الطفل ونُقل زوجها إلى العناية المركزة إثر تعرضهم لدخان موقد يحتوي على كمية كبيرة من البخور والفحم استخدموها لتدفئة غرفة صغيرة جداً في حي بيت بوس في صنعاء.

استخدام الفحم للطهو في اليمن

المناخ والحاجة إلى الفحم

في بلد معتدل الحرارة صيفاً، يمتد شتاء اليمنيين بين أيلول/ سبتمبر ونيسان/ أبريل، وسط ثقافة الخوف من البرد بالرغم من حرارة الشمس كل أيام السنة، إذ يسود اعتقاد بأن المرض -أي مرض- يأتي من نافذة مفتوحة بجانبك، فضلاً عن ميل اليمنيين إلى الطقس الدافئ.

ويُعدّ المناخ في اليمن متنوعاً، لموقعه الجغرافي المطل على بحرين، واختلاف تضاريسه ما بين جبل وسهل وساحل وصحراء، لكنه أقرب إلى البرودة ليلاً ومعتدل نهاراً، بعيداً عن تأثيرات الاحتباس الحراري.

يعود عدم شعور الشخص بخطورة غاز أول أكسيد الكربون المتصاعد في البيت إلى كونه غازاً بلا رائحة، ويترافق مع تسرب ووصول الكربون إلى الدم تدريجياً، فيحل بديلاً من الأكسجين ويؤدي إلى استرخاء الشخص وشعوره بالنعاس، قبل أن يدخل في غيبوبة

وتحذر الأرصاد الجوية سنوياً من موجات الصقيع، إذ يمرض الناس لعدم ارتدائهم ملابس شتويةً، ويؤدي سوء التغذية إلى ضعف المناعة وتالياً زيادة فرص الإصابة بأمراض خطيرة. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من نصف سكان اليمن يواجهون خطر الجوع الحاد، كما أن نصف الأطفال دون سن الخامسة، أي أكثر من مليوني طفل، معرضون لخطر الإصابة بسوء التغذية الحاد والوخيم نتيجة الصراعات السياسية والحرب وتداعياتها منذ عام 2011.

ثقافة التهوية غائبة

يلجأ الناس إلى وسائل التدفئة شتاءً، طمعاً في الحصول على طقس دافئ مساءً، ما يدفعهم إلى شراء كمية من الفحم لإحراقه، وتبقى جمرات النار مشتعلةً حين ينام أهل البيت، مع ما يعنيه ذلك من خطورة تمتد من الحريق إلى الموت اختناقاً بغازي أول وثاني أكسيد الكربون.

يزيد الطين بلةً ضعف ثقافة التهوية، إذ لا تمثل أهميةً لدى كثير من الناس في فصل الشتاء، مع عدم الاكتراث للأدخنة والغازات المتصاعدة من الفحم والتنور الذي يُصنع فيه الخبز، واللجوء إلى التنظيف اليدوي بمكانس القش، ما يجعل حالات تحسس الرئة والإصابة بالجلطة الدماغية والسكتة القلبية في تزايد مخيف حتى بين الأطفال.

وينبئ الصداع والغثيان وصعوبة التنفس والدوار بعدم وصول الأكسجين إلى الدم، ونرى اليوم أن حالات الاختناق ومضاعفات استنشاق غاز أول أكسيد الكربون "القاتل الصامت"، أكثر من أن تُحصى أو تُنشر في وسائل الإعلام، ما دفع الحكومة لبعث رسائل توعية SMS في تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، تدعو فيها إلى "توخّي الحذر عند استخدام أدوات التدفئة كونها تسبب الاختناق".

يأتي الفحم في اليمن مكافحاً للجوع بعد أن وصلت أزمة الغاز إلى ذروتها.

ويُرجع الدكتور حمدي عبد الولي، أخصائي الجهاز التنفسي وتحسس الرئة، عدم شعور الشخص بخطورة غاز أول أكسيد الكربون المتصاعد في البيت إلى كونه غازاً بلا رائحة، ويترافق مع تسرب ووصول الكربون إلى الدم تدريجياً، فيحل بديلاً من الأكسجين ويؤدي إلى استرخاء الشخص وشعوره بالنعاس، قبل أن يدخل في غيبوبة تودي به إلى سكتة قلبية أو تلف في الدماغ أو سرطان الرئة، ويتعرض الأطفال للخطر أكثر من البالغين إذ يتنفسون بمعدل أسرع.

الفحم والظروف المعيشية

يأتي الفحم في اليمن كذلك، مكافحاً للجوع بعد أن وصلت أزمة الغاز إلى ذروتها، إذ جمع اليمنيون في الأعوام الخمسة الأخيرة أغصان الشجر والكراتين والورق من الطرقات وطلبوا جمر الحطب من المخابز، ما دفع ربّات البيوت إلى شراء الفحم لإطالة زمن استهلاك أسطوانة الغاز، ودفنه في الرماد ليدوم طويلاً.

يقول عبد العزيز مفتاح، وهو أحد بائعي الفحم في سوق باب اليمن في صنعاء القديمة: "قبل الحرب استغنى اليمنيون عن الحطب في المدن مع توفر الغاز المنزلي، وكانت الأسطوانة تباع بـ750 ريالاً، أي ما يوازي أقل من دولار ونصف، والآن تباع الأسطوانة في السوق السوداء بخمسة وعشرين دولاراً، وتوزَّع بالدور لعدم توافرها".

استخدام الفحم للطهو في اليمن

لكن لأن الفحم متعلق باستخدام "المداعة" مع القات بهدف الكيف، وتفضيل اليمنيين خبز تنور الحطب، ظل سوق الحطب في حالة نشاط تجاري، واليوم بعد أزمة الغاز المنزلي وارتفاع ثمنه والغش في تعبئته، وعدم إضافة غاز الرائحة وإهمال صيانة الأسطوانة، أصبح الفحم بديلاً، كما يقول البائع، ويكلّف شوال الفحم الذي يزن 25 كيلوغراماً عشرة آلاف ريال (18 دولاراً).

ويمتد خطر الفحم النباتي إلى البيئة، إذ إن التحطيب الجائر للأشجار يستنزف الغطاء النباتي، ما يعني تناقص الأكسجين وازدياد معدل الغازات الدفيئة الناتجة عن الاحتراق والتلوث، والتي تتسبب في تغير المناخ والاحتباس الحراري.

وينتج الفحم النباتي عن حرق خشب الأشجار في درجات حرارة عالية، ليفقد الماء مكوّنيه الأكسجين والهيدروجين، لذا حين يشتعل الفحم الأسود ينبعث منه غاز أول ثاني أكسيد الكربون السام بتركيز عالٍ.

يلجأ الناس إلى وسائل التدفئة شتاءً، طمعاً في الحصول على طقس دافئ مساءً، ما يدفعهم إلى شراء كمية من الفحم لإحراقه، وتبقى جمرات النار مشتعلةً حين ينام أهل البيت، مع ما يعنيه ذلك من خطورة تمتد من الحريق إلى الموت اختناقاً بغازي أول وثاني أكسيد الكربون

التدفئة الآمنة

وللتدفئة طرق بديلة من حيل الجدات، كتعريض الأغطية والملابس للشمس ثم الاحتفاظ بها مطويةً إلى الليل، وخياطة كيس من قماش للنوم، وتغطية البطانية بملاءة سرير، ووضع ستائر ثقيلة للنافذة مع ترك باب الغرفة موارباً لتجديد الهواء، وتغطية منطقة الصدر والعنق، وتدليك اليدين والقدمين بالزيوت الطبيعية لإيصال الدم، على أن رفع مناعة الجسد وممارسة الرياضة وارتداء الملابس الثقيلة أساس مواجهة صقيع الشتاء.

ويحذر الدكتور عبد الولي من تناول أدوية السعال ومضادات التحسس من دون وصفة طبية، وينصح بالتعرض للشمس في الصباح الباكر للحصول على فيتامين D، والإكثار من المشروبات الساخنة، وأخذ فيتامين C والكالسيوم، وفتح النوافذ لدخول الشمس والأكسجين.

وحتى لا نواجه الإنفلونزا بأمراض أخرى خطيرة ومزمنة وقاتلة، يجب عدم اللجوء إلى الفحم إلا للضرورة القصوى وفي أضيق الحدود، بعد استنفاد كل وسائل وحيل الطبخ والتدفئة الصحية، مع الأخذ باحتياطات الأمن والسلامة، كإشعال الفحم خارج البيت بكمية قليلة إلى أن يختفي الدخان المنبعث، وفتح منافذ للتهوية، فالهدف في نهاية المطاف الحصول على الدفء وإنضاج الطعام، لا الغازات السامة المتصاعدة في محيط غرفة صغيرة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image