شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"سجن شاركتُ في صنعه".. كيف تحررت أنا وأطفالي من قلق الانفصال؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والطفولة

السبت 11 نوفمبر 202312:16 م

لا أذكر تحديداً متى بدأت أُصبب بقلق الانفصال عن أطفالي. لم أدرك حقيقة الأمر إلاّ أخيراً، أظن أنه شيء ولد مع ولادتهم وأخذ يكبر مع الأيام. لاحظته أيضاً في عيون صغاري خلال عامهم الأول، فكلما اختفيت عن عيونهم يبكون كعادة الأطفال في ذلك العمر، ولكن بدلاً من أن يختفي القلق مع مرور الأيام تحول إلى أزمة حقيقية في علاقتي مع طفلي الأوسط بشكل تستحيل معه الحياة، وللأسف تطلب الأمر سنوات قبل أن يتخلص كلانا من قلق الانفصال.

حين أنجبت طفلي الأول لم أكن من الأمهات شديدات القلق والتوتر، لا سيما أنه كان متعلقاً بأبيه، وأن أمي وشقيقاتي شاركنني عبء العناية به ومجالسته كلما اضطررت لتركه، لكن المتاعب بدأت بعد أن رزقت طفلي الثاني نتيجة حمل غير مخطط لازمني الاكتئاب خلاله، ثم ولادته بمتاعب صحية في الرئة تطلبت حجزه في قسم الحضّانات في المستشفى لفترة طويلة، ومنذ وصول الصغير إلى البيت كان القلق يساورني طيلة الوقت حتى لو كنت داخل البيت نفسه على بعد أمتار قليلة منه، فأتفقد تنفسه خلال الساعة الواحدة عدة مرات، وينام إلى جواري في الليل خشية أن يتوقف عن التنفس مرة أخرى وأفقده إلى الأبد.

قبل أن يبلغ عامه الأول اختل توازن طفلي ليسقط أمام ناظري من على عربة الأطفال أثناء قيامي بغسل الصحون وطهي الغداء، فيغرق في دمائه ويتطلب قطباً جراحية في ذقنه، لذا تعاظمت مخاوفي أكثر فأكثر، ولا سيما حين تم تشخيصه فيما بعد باضطراب طيف التوحد، فلم يعد كلانا يفارق الآخر للحظة واحدة، نستيقظ معاً ونخلد إلى النوم معاً. يلتصق بي بينما أعمل عن بعد على حاسوبي، وبينما أطهو وأقوم بالأعمال المنزلية، وحتى حين أدخل إلى الحمام.

وازداد الأمر سوءاً بعد انتقالنا من منزلنا، وفي كل مرة كنت آخذه في زيارة عائلية، كان مجرد إغلاقي للباب لثوان أو دقائق كفيلاً بدخول طفلي الذي كان قد تجاوز الخامسة من عمره في نوبات هلع وغضب، وكأنه يظنني سأخترق الجدار وأهرب أو أختفي إلى الأبد.

يُفترض أن يختفي بعمر سنتين

عادة ما يأتي قلق الانفصال "Separation anxiety" كمرحلة طبيعية من مراحل النُّمو، فيبدأ عندما يكون عمر الأطفال حوالى 8 أشهر وتزداد شِدَّته بين عمر 10 إلى 18 شَهراً، ويستمرُّ قلق الانفصال حتى بلوغ الأطفال 24 شهراً تقريباً، قبل أن يختفي تدريجياً. خلال هذه الفترة يصاب الأطفال بالقلق عندما يتمُّ فصلهم عن أبويهم أو مُقدِّمي الرِّعاية الرئيسيين.

أما إذا أصاب الأطفالَ الأكبر عمراً؛ فيشخّص بـاضطراب قلق الانفِصال، والذي يتضمن القلق المستمر والشديد حول الابتعاد عن المنزل أو الانفصال عن أشخاص يتعلق بهم الطفل، وعادةً تكون الأم هي المعنيَّة. ويرفض هؤلاء الأطفال في الغالب الذهاب إلى المدرسة أو الروضة، كما قد يؤثِّر الاضطراب في النموِّ الطبيعي للطفل. 

المتاعب بدأت بعد طفلي الثاني وولادته بمتاعب صحية في الرئة تطلبت حجزه في قسم الحضّانات لفترة طويلة. ومنذ وصل الصغير إلى البيت كان القلق يساورني طيلة الوقت، فأتفقد تنفسه خلال الساعة الواحدة عدة مرات

يرى خبراء علم النفس أن أسباب قلق الانفصال تعود للعوامل النفسية والاجتماعية المحيطة بالطفل، كشعور الطفل بعدم الأمان نتيجة للحماية الزائدة والاعتماد على الكبار، أو المشاكل والصراعات الأسرية التي تثير خوف الطفل من فقدان أحد الأبوين أو انفصالهما، وعند بعض الأطفال يأتي نتيجة تعرضهم لموقف معين، كموت أحد الأقارب، أو الانتقال إلى سكن جديد أو مدرسة جديدة، وفي بعض الحالات قد تكون أسباب هذه المشكلة وراثية؛ حيث أظهرت دراسات أجريت على أطفال لديهم قلق الانفصال أن آباءهم كانوا يعانون منه أيضاً.

سجن أعجز عن التحرر منه

أصبحتُ كلما خلدت إلى النوم تراودني الكوابيس بشأن سلامة طفلاي، وإذا حلمت بأنهما ليسا معي أستمر في الصراخ والبكاء والبحث عنهما، كنت أعمل وكليهما بجواري، وإذا اضطررت لظرف قهري لتركهما مع والدهما أو برفقه أمي تستمر الهواجس الشريرة في ملاحقتي بأن مكروهاً قد يصيبهما، وفي ذات الوقت كانت فكرة الهروب بعيداً والتحرر من المسؤولية تراودني.

شعرت بأنني في سجن حقيقي، سأحيا فيه لبقية حياتي، وأنني ربما شاركت في صنع سجني بنفسي وأعجز عن التحرر منه؛ فصار من الضروري والحتمي وضع حد لهذا التعلق المرضي، والتحرر من قلق الانفصال، بقطع الحبل السري الذي أجلت القيام به لسنوات. 

يرى خبراء علم النفس أن أسباب قلق الانفصال تعود للعوامل النفسية والاجتماعية المحيطة بالطفل، كشعور الطفل بعدم الأمان نتيجة للحماية الزائدة والاعتماد على الكبار.

وفقاً لدراسات نفسيّة حديثة فإن مخاوف الانفصال لدى الأطفال سرعان ما تتلاشى عند نهاية السنة الثالثة من العمر، ولكنها أحياناً لا تختفي بسهولة لدى الطفل بل تظهر عند الأم أيضاً.

ويرتبط قلق الانفصال الأمومي بشعور الأم بالقلق أو الحزن أو الذنب أثناء الانفصال قصير المدى عن طفلها، ويصيب اضطراب قلق انفصال الأم عن الطفل، الأمهات اللواتي تتصف شخصياتهن بالقلق والحذر. فيبدأ الاضطراب في سنّ ما قبل المدرسة أو الحضانة، وبخلاف البكاء والقلق والخوف والعصبيّة فإن بعض الأمهات المصابات به يعانين من عوارض فسيويولوجية مثل الدوار، والإغماء، وتسارع ضربات القلب، والصداع، والغثيان، وآلام المعدة.

أول يوم دراسي

كانت فكرة دخول طفلي الأكبر للمدرسة مقلقة بالنسبة لي. لذا تأخرت عاماً كاملاً في تسجيله برياض الأطفال حتى يصبح أكبر سناً وأكثر قدرة على التكيف الاجتماعي والتصرف بعيداً عن أبويه، واخترت له أقرب مدرسة من بيتنا، وبدأت في تجهيزه نفسياً قبل أيام من دخول روضة الأطفال من خلال شرح ما الذي سيفعله في المدرسة ومن سيعتني به، وتشجيعه والحديث معه على أنه أصبح طفلاً كبيراً.

وبعد محاولات لبث الطمأنينة في نفسي ونفس طفلي، رحت أنا ووالده ومعلمة الفصل نشجعه، وبعد حفلة استقبال نظمتها المدرسة لأطفال الروضة، مر اليوم الأول من الدراسة بسلام، لا سيما أننا رافقناه أنا ووالده وشقيقه إلى بوابة المدرسة حتى دخوله إليها، ولم نطل فترة الوداع، وكنت في انتظاره أمام البوابة قبل موعد الانصراف؛ لذا لحسن الحظ لم يعاني طفلي من "رهاب المدرسة" أو الخوف من الذهاب إلى المدرسة، والذي يعاني منه حوالى 5 ٪ من طلاب المدارس في مرحلة رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية.

وحين التحق ابني الأكبر بتدريبات كرة القدم في النادي الرياضي ساعده وجودنا في المدرجات لمشاهدته وتلويحنا له من وقت لآخر على تجاوز قلقه.

علاج قلق الانفصال

كان الأمر أسهل بكثير مع طفلي الأكبر مما حدث مع شقيقه الأصغر سناً، الذي تعذر إلحاقه بالروضة أو حصوله على جلسات تخاطب وتنمية مهارات دون وجودي معه في نفس الغرفة، وهو الأمر الذي رفضه بشدة غالبية مختصي التخاطب؛ فقد تطلب هذا مني الاعتراف بالمشكلة والتحرر من قلقي تدريجياً ثم الكثير والكثير من الصبر وقوة التحمل لإكسابه الثقة المتبادلة وتعزيز ثقته بنفسه وشعوره بالأمان.

شعرت بأنني في سجن سأحيا فيه لبقية حياتي، وأنني ربما شاركت في صنع سجني بنفسي، صار من الضروري والحتمي وضع حد لهذا التعلق المرضي، والتحرر من قلق الانفصال، بقطع الحبل السري الذي أجلت القيام به لسنوات 

كان عليّ الاستعانة بآراء خبراء في التربية وعلم النفس، واللجوء إلى العلاج المعرفي السلوكي لجعل طفلي يشعر بالأمان والطمأنينة والبدء في الاعتماد على النفس، إضافة إلى العلاج الأسري للمشكلة والذي بدأ منذ اقتناعنا وتفهمنا لهذا الاضطراب النفسي الذي يتجاوز مفهوم "الدلع"، والعمل على علاجه عبر التفهم والصبر بدلاً من الغضب والشدة، وهذا لم يكن بالأمر السهل، إنما ما ساعد طفلي على تجاوز تلك المرحلة العسيرة هو بناء علاقة عاطفية مع الأبوين والمحافظة على التماسك الأسري.

بشكل عام، فإن جمع العلاج السُّلُوكي والعلاج النفسي الفردي والعائلي هو الحل الأمثل لمعالجة اضطراب قلق الانفصال، كما يوصي الخبراء، ولكن عندما يكون الاضطراب شديداً، قد يلجأ الطبيب النفسي لإعطاء الطفل الأدوية التي تحد من القلق، ولحسن الحظ لم نضطر للخيار الدوائي.

في المرحلة التالية بدا طفلي أكثر تقبلاً لفكرة الانفصال عني، فلم يعد يدخل في نوبات هلع أو غضب إذا أغلقت باب الغرفة أو الحمام وتركته خارجاً، وأصبح يبدي تفهماً إذا خرجت من المنزل لشراء بعض الحاجيات وتركته برفقة أبيه وشقيقه الأكبر، حتى أنه خرج معهما بضع مرات دون أن يبكي لابتعاده عني.

حينها أدركت أن طفلي أصبح جاهزاً للذهاب إلى الروضة، ومهدت له الأمر وأخذت أشجعه، وهناك شرحت لمديرة الروضة حالته، فتعاملت والمعلمات وعاملات الرعاية معها بتفهم، وجعلوه يحب المكان أولاً وخاصة "منطقة الأطفال"، وحين اندمج في اللعب وشعر بالأمان انسحبت بهدوء لأترك له الفرصة للاندماج في مجتمع الأطفال، وهي الخطوة التي أخّرها الخوف والقلق وقلة ثقتي في قدرات طفلي على التكيف الاجتماعي، ولحسن الحظ مر الأسبوع الأول من الحضانة بسلام دون صراخ وقلق، واليوم أشعر بأنني تحررت أخيراً من السجن الذي علقت فيه مع أطفالي. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نفكر بالأطفال من أجل اليوم والغد

"هيك متعودين. هيك كانوا يعاملونا أهلنا"، وغيرها من الإجابات الجاهزة، تؤدي إلى تفادي التغيير.

المستقبل المشرق، هو أن يعيشوا في أيامنا هذه حياةً سليمةً.

كيف؟

عبر تسليط الضوء على قصصهم، وما يؤثر في حيواتهم، والمطالبة بحقوقهم وحسن تربيتهم.

من خلال التقارير والمقالات والحوارات، يمكن للإعلام أن يدفع نحو تغييرات في السياسات التربوية، وأن يعزز الحوار الاجتماعي حول قضايا الأطفال.

معاً نطرح القضايا الحساسة المتعلقة بسلامتهم النفسية والجسدية والبيئية والمجتمعية.

حين نرفع أطفالنا على أكتافنا، نرى الغد بعيونهم كما لو يكون الآن.

Website by WhiteBeard