شاهدت مؤخراً الفيلم الفرنسي "سانت أومير" (Saint Omer) خلال فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي. جلست لمدة ساعتين أتعرّف على قصة المرأة الشابة التي تركت طفلتها ذات الخمسة عشر شهراً على شاطئ البحر، تجرفها المياه وتموت وحيدة، وعلى الرغم من كون الأعمال التي تتناول الأطفال والأمومة في العادة تلعب على وتري الحساس وتؤذيني نفسياً، لكني لم أتأثر بهذا الفيلم نهائياً، الأمر الذي أثار استغرابي ومن حولي الذين اعتادوا على بكائي الحار.
بعد العرض، قال صديقي الناقد الذي ناقش بطلة الفيلم، إن سرّ خصوصية العمل وإبهاره هو أن المشاهد في منتصفه تبدأ وجهة نظره بالتبدّل في الشخصية الرئيسية، لا يراها وحشاً قاتلاً بل ربما تكون ضحية. أنارت جملته مصباح المعرفة في رأسي، لهذا لم أتأثر بالفيلم. أنا لم أرها وحشاً منذ البداية!
في البدء جاءت الوحدة
يستعرض فيلم "سانت أومير" محاكمة البطلة التي تحضرها كاتبة لتسجلها في كتاب، وهو الأمر الذي حدث بالفعل عند محاكمة الشخصية الحقيقية المبني عنها العمل، والتي حضرتها المخرجة آليس ديوب، وهي حامل، فسجلتها في هذا الفيلم السينمائي الروائي الأول لها بعد أعمالها التسجيلية السابقة، وخلال هذه المحاكمة نتعرّف على ماضي الأم الذي أدى بها إلى هذا القرار القاتل، الوحدة التي عانتها خلال حملها وأمومتها كمهاجرة بعيدة عن أهلها، تعيش بلا زواج في منزل رجل عجوز لا مبال، يداريها كالفضيحة لمكانته الاجتماعية المرتفعة، علاقتها المتوترة بأمها التي لم تخبرها حتى بحملها وقد حطمت آمالها العالية بها.
لم أحتج المحاضرة بعد نهاية الفيلم ولا تفسيرات الممثلة لأفهم مأساة الشخصية: ما فعلته ليس سوى حالة متقدّمة من اكتئاب ما بعد الولادة.
لم أحتج المحاضرة بعد نهاية الفيلم الفرنسي "سانت أومير" ولا تفسيرات الممثلة لأفهم مأساة الشخصية: ما فعلته ليس سوى حالة متقدّمة من اكتئاب ما بعد الولادة، وأنا كنت هناك
لقد كنت هناك في هذه الأرض الموحشة لاكتئاب ما بعد الولادة، ناجية ربما، أو لازلت أسيرة، أرى كل من حولي ضحايا محتملات.
يقولون للشابات اللواتي يعانين من الوحدة بعد الزواج لانشغال الزوج: "انجبي طفلاً، سيملأ فراغ حياتك". جملة لم أفهمها أبداً، فأنا لم أكن أكثر وحدة مما كنت وأنا حامل وبعدها أم لرضيعة.
ظلمة تعيشها الأم كما يعيشها الجنين في الرحم، حيرة وقلق على كائن صغير تتحمل مسؤوليته كاملة حتى قبل أن يولد، ثم عزلة وحشية، أيام لا تعلم نهارها من ليلها. أتذكر بكائي ليلاً بجوار صغيرة تصرخ بلا سبب واضح، لا أعلم، هل أبكي خوفاً عليها أم إرهاقاً وتعباً من الليالي المتصلة بلا نوم التي أعيشها.
أسترجع انقطاعي عن كل الأشخاص الطبيعيين الذين يستيقظون نهاراً وينامون ليلاً، فلا يفهمون إرهاقي ولا وأواكب تفاصيل حياتهم الاعتيادية. أيام قضيتها بلا حديث مع شخص ناضج، إلا كلمات عابرة من الشكوى، ثم نصائح حول تغيير الحفاضات ومواعيد الرضاعة وأسباب الغازات لدى الصغيرة وطريقة تحميمها الصحيحة.
أتذكر غضبي العارم على زوجي، الذي حمل لقب أب مثلما أحمل أنا لقب أم ولكن بلا ألم مماثل لما أكابده يومياً، على كل من يحاول التخفيف عني قائلاً: "تلك الأمومة وتلك هي مصاعبها"، على كل من لم يحذرني قبلها، على ابنتي التي لم أفهم من قبل كيف تعطي لشخص كل هذا الحب ويكون المقابل كل هذا الألم، على نفسي لأني لا أستطيع أن أتحمل سعيدة مثل باقي الأمهات.
حلقة في سلسلة الأمهات الوحيدات
سأل بعض الحضور الممثلة التي قدمت الشخصية الرئيسية عن رأيها في سبب الجريمة، قالت كلاماً كثيراً مفاده أن تكوني أماً لابنة يعني أن تكوني حلقة في سلسلة من الأمهات، بإرث ثقيل يتم تبادله من جيل لآخر. تفترض الممثلة أن الأم ربما لم تكن لتقوم بجريمتها لو أنجبت ابناً بدل ابنة، فهي كسلسلة وسيطة لم تحتمل أن تورث ابنتها عللها التي ورثتها من والدتها، لم تستوعب أن تعاني مثلها عزلتها كطفلة وكامرأة.
في أحد المشاهد بالفيلم، تضع الكاتبة التي تستلهم من القضية كتابها القادم يدَها على بطنها التي تحمل جنينها وتتذكر طفولتها، أمها الوحيدة والحزينة غير القادرة على التواصل معها. لا يحتاج المشاهد لحوار ليعرف أنها خائفة من أن تصبح تكراراً لهذه الأم.
لقد زرت تلك المنطقة القاتمة للأمهات اللواتي يقمن بأفعال مجنونة هرباً من حزن واكتئاب ما بعد الولادة، بعضهن يؤذين أطفالهن مثل بطلة الفيلم، ولكني أذيت نفسي، جلدتها يومياً
بالمثل، أتذكر ما قالته لي أمي الشجاعة منذ عام أو عامين عن اكتئابها بعد ولادتي أنا وأختي، قليلاً ما تعترف أمهات من جيلها بإصابتهن بهذا الاضطراب النسائي، أخبرتني عن وحدتها معي وبكائها طويلاً، عن بعدها الإجباري عن أفراد عائلتها، ومرض والدها الذي لم تستطع زيارته. شعرت وقتها أن تلك صلة أقوى تجمعنا. لقد أجابت أمي بحديثها عن هواجسي: هل كنت معيبة لأني شعرت بالوحدة حتى في ظل وجود ابنتي الرضيعة معي؟ هل كانت أمومتي ناقصة لأني غير سعيدة؟ آه لو أخبرتني أمي بذلك قبل إنجابي لابنتي وليس بعدها بثمان سنوات، ربما لتغير الكثير وقتها، ربما وعيت أن هناك ضوءاً في آخر هذا النفق الطويل.
لهذه الأسباب كلها فهمت لماذا لم أتفاعل عاطفياً مع فيلم "سانت أومير"، لقد افتقدت الدهشة التي ربما شعر بها أغلب المشاهدين. تلك المفاجأة عندما اطلعوا على الأسباب الخفية وراء الجريمة لم تكن بالنسبة لي مفاجأة، لقد زرت تلك المنطقة القاتمة للأمهات اللواتي يقمن بأفعال مجنونة هرباً من حزن واكتئاب ما بعد الولادة، بعضهن يؤذين أطفالهن مثل بطلة الفيلم، ولكني أذيت نفسي، جلدتها يومياً على ذنوب لم تكن في الحقيقة ذنوباً، كرهتها لتوقعات عالية أمدني بها المجتمع عن الأمومة، من دفء منتظر وونس وملاذ لم أجدهم، بل فقط صحراء من الوحدة في ليل طويل لم يطلع له نهار إلا بعد شهور، ولم أستوعب حتى بهاء النور لأني كنت دفينة نفسي.
شاهدت منذ أيام فيديو عابراً لطبيب نفسي يجيب عن سؤال: كيف نحمي أولادنا من الصدمات النفسية أو التروما، فقال: لا يمكن أن نحمي أحداً من الأحداث السيئة التي تمر بشكل طبيعي في حياة كل إنسان، ولكن الصدمة النفسية لا تحدث نتيجة لهذه الأحداث، ولكن للوحدة والعزلة مع المشاعر السلبية خلال المرور بها. ربما لم يبهرني فيلم "سانت أومير" ولكن احترمته لأنه كشف أوهاماً تقع الكثير من السيدات أسيرة لها، نحتاج كل يوم صوت جديد يقول إن الأمومة ليست علاجاً للوحدة، الأمومة قد تكون هي الوحدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.