منذ ثلاث سنوات، لدينا مجموعة أصدقاء فاعلة على واتساب، أصدقاء التقينا بمحض الصدفة في إسطنبول، بينما كنا نقيم جميعاً هناك بشكلٍ مؤقت، حتى ننتقل إلى المرحلة التالية من حياتنا في البحث عن مكان آمنٍ بعض الشيء لاستكمالها، لأنه وبشكلٍ عام، لا مكان آمن للإنسان الغزّي، لا مكان في العالم يقبله بكليته، مع مشاكله وهمومه وكل الظروف المحيطة به.
منذ أيام قليلة، نضحك بشكلٍ مستمر أنا وصديقي معتصم على الهموم التي كنا نتبادلها بالسابق على مجموعتنا، ونتمنى لو أننا أوليناها اهتماماً كافياً، ولم نضعها في سلة الضحك والكوميديا السوداء.
من أكثر القصص التي ظللنا نردّدها، هي مشكلة أحد أصدقائنا المقيمين في قطر، والذي يشكو لمعتصم من إحدى الشركات التي يعمل بها كمطوّر للموقع، من كونه اشترى "فرّامة ثوم" بسعرٍ أعلى من الطبيعي، ويطالبه باسترداد ثمنها المتبقي، لأنها في غزّة بشيكل، فكيف له أن يصارح أمه أنه اشتراها بسعر مضاعف كهذا في قطر؟
في المرة الأولى التي التقيتُ فيها أصدقاء كريم بإسطنبول، كنا نستأجر بيتاً من تطبيق AIRBNB بمنطقة "بلاط" المشهورة، لتصوير أحد المسلسلات فيها، حيث نافذة المطبخ تطلّ على خليج البوسفور، ولا تبعد عنه سوى أمتار قليلة. يجلس حسن رفقة كريم في المطبخ ويتحدّثان بشؤونٍ غزّية لم أعرف معناها آنذاك، ولماذا تشغلهم إلى هذه الدرجة، فأنا وأصدقائي من الداخل الفلسطيني، لا نتحدّث بكل هذه المشاكل الوجودية في أيامنا العادية.
يقول الجميع قبل الوصول لنقطة الأمان: لن نعود لهناك. لكنهم مع أول صاروخٍ ينزل من الطائرات الإسرائيلية، يستنفرون كخلية نحل، يهزمهم الحنين إلى الأماكن كلها، وتتغير اللهجة الحادة والسخط تجاه المكان المغلق إلى حب مطلق بدون شرط أو قيد
خرجت من غرفة النوم أبكي لأن شاحن حاسوبي المحمول توقف عن العمل، قائلةً إن حياتي ستنتهي إن لم يعمل الشاحن! ما زلت أسمع شخرة حسن في أذني، تلاها قائلاً: "حب، أنا دافع تنسيق ألف دولار ومتشحشط 3 أيام بالطريق من معبر رفح، وقاعد في تركيا عشان قطر مش راضيين يفوتوني بسبب كورونا، وجاي تحكيلي شاحن حاسوبك!".
كان حسن محقاً، لم أنتبه قبل ذلك اليوم إلى حقيقة أن الغزّي يخرج من غزّة محمّلاً بآلامٍ من الصعب على الآخر أن يفهمها، لأنها ليست "العادي" للعالم، بينما هي "العادي" والروتيني والمكرّر له.
أن أراهم مرة أخرى فقط
يسكن ماجد صديقنا في إسطنبول أيضاً منذ سنواتٍ ثلاث، خرج مع كريم في ذات اليوم من المعبر، متجهين إلى مطار القاهرة الدولي آنذاك. لم يعتقدا أن الحياة في المدينة الصاخبة ستجعل منهما رفيقينِ مقربين. منذ سنة ونصف غادرت إسطنبول رفقة كريم إلى أوروبا، ولم أرَ ماجد بعدها. زرته في أيام الحرب الأولى كمحطة عبور سريعة، وكان الحديث يتمحور حول كيف تمرّ الأيام على عائلته في غزّة.
لدى ماجد زوجة وثلاثة أبناء تركهم خلفه في غزّة، قدّم استقالته من سلك التربية والتعليم، وانطلق خارج القطاع باحثاً عن حياة، ربما أكثر أماناً للمستقبل لأبنائه، بحيث يتيح لهم ما لم يُتح له خلال حياته، وقد اقتربت الآن السنة الثالثة على الانتهاء، وهو لم يرهم خلال هذا الوقت أبداً.
قد يستغرب البعض كيف يخرج شخص ما من بلده ولا يعود كل هذا الوقت، لكن هذا هو الشيء العادي أمام الغزّيين إجمالاً. الخروج والدخول من وإلى هناك لا يشبه الخروج والدخول لأي مكانٍ آخر، في السجن البشري الكبير والأخير على وجه الأرض، يتحكّم المصريون بدخول الناس وخروجهم. ثمة قوائم معدّة مسبقاً للممنوعين أمنياً على سبيل المثال، وهذا الممنوع أمنياً ليس بالضرورة أن يكون عضواً فاعلاً في حركة حماس، بل يكفي ألّا يعجب اسمُه الضابطَ المصري ليلحقه بالقائمة، أما ثمن الخروج من هذه القائمة فهو ما يعادل ثلاثة آلاف دولار للشخص الواحد، فكيف إذا كانت عائلة؟
الأشياء المسموح إدخالها وإخراجها من هناك محدودة أيضاً، ومعدة بقوائم تتوزع على المواطنين بشكلٍ دوري، فالممنوع اليوم مسموح غداً والممنوع غداً مسموح اليوم.
أما على معبر إيرز من الجانب الإسرائيلي، فمعظم الناس ممنوعة من الدخول والخروج منه، والمسموح والممنوع إدخاله وإخراجه من هناك أكثر بكثير من الجانب المصري. ويحتاج الأمر تصريح دخول لإسرائيل، ثم تصريح عدم ممانعة للأردن. هذا الأخير يثير الضحك كلما تحدّثت عنه، أي إنسان غزّي يولد في هذه اللحظات تحت الحرب الطاحنة والإبادة الجماعية في غزّة، ممنوع من دخول الأردن لأنه غزّي، وعليه، إذا قرّر دخولها، استخراج هذا التصريح من السلطات الأردنية.
لذلك، عندما رأيت ماجد قبل ثلاثة أسابيع، قال: "بدّي أشوف أولادي ومرتي، مش متخيّل يصيرلهم اشي وأنا بعيد".
مرفوض آبي
جلسنا في مقهى تانيا في أحد الشوارع المتفرّعة من شارع تقسيم، بداية شهر أيلول من السنة الماضية، يعطي جميع الجالسين نصائح لأحمد حول كيفية التقديم لتأشيرة الدخول لإسبانيا. كانسانٍ غزّي، من أصعب التأشيرات التي يمكن الحصول عليها هي تأشيرة الشنغن، أو الدخول لأي بلدٍ أوروبي بشكلٍ عام، وكان أحمد يضحك قائلاً بأنه "مرفوض آبي"، بالتأكيد سترفضه السفارة كونه من غزّة ويقدم طلب الدخول من تركيا.
بعد سفرنا بأيام قليلة، اتصل أحمد بنا صباحاً ليقول متفاجئاً بأنه حصل على تأشيرة الدخول إلى إسبانيا، وبالتأكيد لن يعيد ذات الخطأ الذي ارتكبه عندما زار أمريكا قبل سنوات، وعاد بعدها إلى غزّة لينهي مساق حفظ القرآن في جامعة الأزهر، ويحصل على الشهادة الجامعية.
في كل مرّة كانت تغلق الطرق أمامه، يتذكّر بأنه وصل أمريكا ولم يقدم طلب لجوءٍ هناك، يقول بأن أيامه وحياته ربما تغيّرت كلها لو بقي في تلك القارة الكبيرة ولم يعد أدراجه إلى الشرق الأوسط.
قد يستغرب البعض كيف يخرج شخص ما من بلده ولا يعود كل هذا الوقت، لكن هذا هو الشيء العادي أمام الغزّيين إجمالاً. الخروج والدخول من وإلى هناك لا يشبه الخروج والدخول لأي مكانٍ آخر
ناي أيضاً، تعيش نفس التجربة اليوم، قبل بدء الحرب، بدأت بإجراءات التأشيرة للخروج من تركيا، بعد قضائها خمس سنوات في البلد لم ترَ خلالها عائلتها، عندما جاءت إليها لدراسة الصحافة والإعلام. اعتقدت بأنها نجت للأبد، لكنها ومع ازدياد العنصرية والتضييق الخناق على الفلسطينيين والسوريين بشكلٍ عام، قرّرت البدء من جديد مجدّداً للبحث عن مكان أكثر استقراراً.
استقرار بلا عودة
يقول الجميع قبل الوصول لنقطة الأمان: لن نعود لهناك. لكنهم مع أول صاروخٍ ينزل من الطائرات الإسرائيلية، يستنفرون كخلية نحل، يهزمهم الحنين إلى الأماكن كلها، وتتغير اللهجة الحادة والسخط تجاه المكان المغلق إلى حب مطلق بدون شرط أو قيد.
منذ بداية الحرب وأنا أشتاق للمشاكل العادية لأصدقائي الغزّيين، للاكتئاب العادي الخاص بهم، حول الخروج من المكان والتعلّق به والذاكرة الجمعية التي لا تنسى الشوارع ولا المحلات ولا أماكن اللقاء. حتى المخيمات تبدو في نظرهم أكثر حباً وتقديراً خلال هذه الأيام.
ننتقل طيلة الوقت من مجموعات التليغرام إلى الجزيرة، أتابع الأخبار العبرية وأترجمها لهم، يسألونني عن مدى صحّة الأخبار المترجمة، وعن الرأي العام الإسرائيلي بكل ما يحدث، وعند سقوط صاروخ بالقرب من بيت أحدهم نستنفر لنعرف ماذا جرى وأين العائلة.
في اليوم الذي فقدنا فيه هديل، شقيقة كريم، وكل أفراد أسرتها، نقص شيء فينا، وتضاعف الخوف أضعافاً، وصرت، على الصعيد الشخصي، أسأل نفسي عن الأيام المقبلة، كيف ستمرّ، كيف سنتجاوز ونتقبل ونرضى بهذا الفراق الأبدي الذي لم نختره، بينما اختارته طائرات الاحتلال فوق سماء غزّة؟
ترى هل تدور الأيام ونعود لنحكي عن المشاكل العادية في مجموعة واتساب أو عند لقائنا في عواصم العالم المختلفة، أم أن الحرب قضت حقاً على رغبتنا في الاستمرار حقاً؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون