تؤثر الهجرة بشكل جليّ على الصلة بالتراب عموماً لما تحدثه من تأثيرات على انتماءات الفرد، ولما تفرضه من تحديات في البلاد المستضيفة وضرورة إنشاء روابط انتماء جديدة مع إمكانية القطع أو الحفاظ على الروابط القديمة مع البلد الأم. وبالنسبة للجيل الأول من المهاجرين على وجه التحديد يبدو من الصعب الغياب نفسياً وذهنياً عن الوطن، بل يبقى هذا الأخير حاضراً في الوجدان والذاكرة وحتى السلوك. في حالة الجيل الأول من المهاجرين السوريين الذين لم يعايشوا الانكسارات والانهزامات المؤلمة فحسب، بل عايشوا زمن الأحلام والآمال الكبرى يبدو هذا الحضور قوياً بشكل معذب بالنسبة للكثيرين.
فمنذ انطلاقة الثورة السورية قبل اثني عشر عاماً حتى الآن بنى المغتربون طوال هذه السنوات حياتهم كاملة خارج سوريا؛ استقروا في دول مختلفة ضمن شروط حياتية وقانونية متعددة، تعلموا لغات أجنبية، تخرجوا من جامعات عريقة، أحبوا، تزوجوا، أنجبوا أطفالاً، حصلوا على جنسيات جديدة تؤمن لهم وضعاً آمناً، ولكن عيناً لهم لا تغفل عما يحدث في البلاد البعيدة، يدأبون على مراقبة كل ما يحدث هناك وكأنهم منقسمون بين حياتين وعالمين لا يُعرف تماماً بأيهما يتصلون أكثر. أبتلك الحياة التي بنوها في الخارج بالجهد الجهيد والعثرات الكثيرة أم بحياة مرهونة بالبلاد وظروفها، وما يحصل على أرضها هو الذي يحدد مصائرهم ويُشكّل خياراتهم؟
كيف ينظر المغترب إلى ما يحدث في السويداء؟ هل يشعر أن مصيره لا يزال مرتبطاً بما يحدث في سوريا أم أنه بعد كل هذا الوقت أصبحت لديه حياة جديدة لا تتأثر بما يحدث هناك؟
مؤخراً، منذ بدء المظاهرات في محافظة السويداء منتصف شهر أغسطس/آب الفائت واستمرارها حتى الآن، تتزايد وتيرة التفاعل معها من قبل السوريين المقيمين خارج البلاد. وعلى الرغم من أن هذا التفاعل يختلف في شدته من شخص لآخر، إلا أن أي مراقب لصفحات السوريين في وسائل التواصل الاجتماعي سيراها تعج بالتحليلات والآمال والدعم من ناحية، والنقد أو الارتياب من ناحية أخرى.
مما لا شك فيه أن السوريين في البلاد يتحركون بناءً على وقائع حياتية معينة تطورت وتبدلت بمرور السنين، إنهم يقدرون هذه الظروف جيداً لما لها من تأثير مباشر على حيواتهم ويومياتهم فيتصرفون على أساسها. فهل يستطيع المغترب من موقعه البعيد قراءة وتقدير هذه الوقائع كما هي حقيقةً أم أن ارتباطاته الرومانسية بالبلاد تحتم عليه إضفاء أمنياته الخاصة عليها؟
كيف ينظر المغترب إلى ما يحدث في السويداء؟ وما الذي قد تعنيه هذه التطورات بالنسبة له؛ أي هل يمكن لها أن تؤثر على خياراته في موقعه ومكانه الجديد؟ هل يشعر أن مصيره لا يزال مرتبطاً بما يحدث في سوريا أم أنه بعد كل هذا الوقت أصبحت لديه حياة جديدة لا تتأثر بما يحدث هناك؟ وهل واقعه هو في البلاد أم في مكانه الحالي أم أنهما يتصارعان في داخله؟
عيون بعيدة على السويداء
عندما يتعلق السؤال بطبيعة المظاهرات في السويداء، لا تختلف الآراء حولها فحسب، بل كذلك الآمال المعلقة عليها. فإن كان البعض يذهب إلى عدها نواة لثورة حقيقية أو امتداداً للثورة السورية التي انطلقت عام 2011، يميل البعض الآخر إلى اعتبارها مجرد احتجاج على ارتفاع الأسعار وما ترتب عليه من صعوبات يومية مضنية، ويمكن لها أن تنطفئ سريعاً إذا ما تمت المساومة حول هذه المطالب والوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف. وإن كنّا قليلاً ما نجد مَنْ يبالغ في الأمل حولها، فإن كثراً تعلّموا كيف يقتصدون فيه وكأنهم باتوا يخافونه أو لعل التجارب المريرة جعلتهم يخفضون سقف التوقعات ما أمكن، فأصبحت معظم الآمال مقتصرة على الرجاء بزعزعة النظام وعدم استقرار سلطته وإقلاق راحته في أحسن الأحوال.
تميل ميس، صحافية سورية مقيمة في الإمارات، في حديثها لرصيف 22، إلى اعتبار ما يحدث في السويداء استمراراً للثورة التي بدأت عام 2011، رغم أنها لا تزال تفتقر إلى التنظيم حتى تصل إلى أهدافها في التغيير المنشود. إضافة إلى ذلك، ترجو أن تكون الشعارات الوطنية هي وحدها الحاضرة بدلاً من التعبير عن المطالب باسم الدروز على حد تعبيرها، حيث تقول: "حبذا لو أنهم يرفعون شعاراً باسمنا جميعاً، أي كل السوريين. فالتغيير الوحيد المرجو هو التغيير الشامل على امتداد سوريا".
بدوره، يؤكد الكاتب السوري محمد جلال، المقيم في ألمانيا، أن حراك السويداء، بطبيعة شعاراته ومطالبه التي تستهدف رأس السلطة، يتجاوز كونه مجرد احتجاج على واقع معيشي مزرٍ، وإن كان هذا الواقع ضمن المسببات، ولكنه - في نفس الوقت- يبدو حذراً في إطلاق مصطلح الثورة، إذ يقول: "رغم ذلك، فوصف الثورة بحاجة لامتداد الاحتجاجات لرقعة أكبر ومراكز أكثر ثقلاً على الخارطة السورية وهذا الأمر لم يحدث حتى الآن".
تسعى احتجاجات السويداء إلى توحيد صوتها، وهذا ما يبدو جلياً في طبيعة مطالبها التي تطورت بدءاً من المطالبة بتوفير الخدمات الأساسية وصولاً إلى مطالب شاملة تهدف إلى تغيير جذري وتطبيق القرار الأممي 2254 الذي يضمن انتقالاً سلمياً للسلطة
على الجانب الآخر، يصف إبراهيم منجي، كردي سوري يقيم في النمسا، المظاهرات في السويداء بأنها حدث عفوي ناتج عن ضغوط الحياة وظروف المعيشة القاسية، دون أن يغفل إمكانية تأثيرها على السلطة الحاكمة. هذا الرأي يوافق رؤية لينا (اسم مستعار)، إذ تقول: "أرى أنها احتجاجات على الأسعار والواقع المأساوي الذي وصل إليه البلد. وللأسف بعد كل ما حدث ليس لدي أمل بالتغيير".
منذ ذلك الوقت الذي أجريت فيه هذه الحوارات حتى الآن تسعى احتجاجات السويداء إلى تنظيم نفسها وتوحيد صوتها بشكل حثيث، وهذا ما يبدو جلياً في طبيعة مطالبها التي تطورت بمرور الوقت بدءاً من المطالبة بتوفير الخدمات الأساسية ورفع الظلم وصولاً إلى مطالب شاملة تهدف إلى تغيير جذري وتطبيق القرار الأممي 2254 الذي يضمن انتقالاً سلمياً للسلطة كما جاء على لسان حكمت الهجري، الزعيم الروحي لطائفة المسلمين الموحدين الدروز في محافظة السويداء.
فضلاً عن ذلك، من الواضح أن الحراك الشعبي في ساحة الكرامة لا ينفصل عن الشارع السوري بأطيافه كافة، بل يتفاعل بشكل كبير مع المخاوف من ناحية، والأمنيات التي يتم التعبير عنها من الأصوات السورية في الداخل والخارج ليطوّع شعاراته وأهدافه معها من ناحية أخرى، إذ يسعى إلى التأكيد على أن هذا الحراك لا يهدف إلى الحكم الذاتي أو الانفصال عن الجسد السوري أو أنه يتعلق بالسويداء وحدها، بل يحرص على وحدة سوريا وأهلها.
تأثيرات السويداء على اليومي
"أنا من السوريين الذين لا يعلقون حياتهم على ما يحدث في الداخل" هذا هو جواب محمد، عن سؤالي حول تأثير الأحداث في سوريا على حياته ويومياته في ألمانيا.
يبدو من غير الممكن للمغتربين أن يرهنوا حياتهم لما يحدث في البلاد مهما كان مدى تأثرهم وتفاعلهم معها. وإن كان لا يمكن إغفال تنوع خياراتهم ومصائرهم
"أنا من السوريين الذين لا يعلقون حياتهم على ما يحدث في الداخل". محمد، سوري، مقيم في ألمانيا
واختلاف درجة اهتمامهم بالسياسة أو بعدهم عنها، فكذلك لا يمكن التغاضي عن التنوع والاختلاف الباديين في درجة تأثرهم واتصالهم وعلاقتهم المركبة مع سوريا. فلا يصرف الجميع نفس الوقت في تتبع الأخبار والتطورات، هذا في حال كانوا يمتلكونه، إذ أن ضغوطات الحياة الجديدة والواجبات اليومية تحول دون ذلك بالنسبة للكثيرين ممن يواجهون دفق الحياة اليومية الغزير. وإن أحداً لا يمكنه أن يتجاهل حقيقة أن له الآن حياة أخرى جديدة لابد أن يلتزم بواجباته فيها. وهذا ما تؤكده لينا في حديثها، كأم لطفلة صغيرة وموظفة بدوام كامل، فإنها لا تمتلك الوقت لمتابعة تفاصيل ما يحدث، دون أن يعني هذا انفصالها عن حقيقتها كسورية أو عن شعورها بالانتماء لوطنها، لكنها لا تملك إلا أن تقبل بالأمر الواقع؛ الواقع الذي يقتضي أنها تعيش في السويد الآن، وهذا هو مكانها وعالمها وهذا ما عليها التعامل معه كونها لا تمتلك خياراً آخر في الوقت الحالي.
كمهتم بالشأن السياسي يحرص إبراهيم على متابعة الأخبار السورية بشكل دائم. ويؤكد أن: "كل خبر يتعلق بسوريا مهم بالنسبة له"، ويعبر عن حلمه بالعودة مهما طال الزمن، ولكن هذا الحلم يبقى مشروطاً بتحقق الأمان في المقام الأول فضلاً عن شروط لحياة إنسانية كريمة.
تحرص ميس أيضاً على متابعة مجريات الأحداث بشكل يومي لمدة ساعة أو ساعتين، ودائماً ما تصرّ على التواصل مع أصدقائها هناك للاطلاع على آخر المستجدات. ومعرفة ما إن كانت هناك إمكانية لولادة ثورة واضحة المعالم، فهي حتى اللحظة لا تتخلى عن الأمل بأن الأمور قد تأخذ المسار المرجو هذه المرة. وفي حين أنها تعبر بشكل واضح عن حنينها إلى دمشق وحلم العودة واستعادة الذكريات الذي لا ينفك يراودها، ولكنها تعي أن العودة مرتبطة بتحقق واقع اقتصادي وسياسي ما. وتؤكد أيضاً في سياق التأثير اليومي على حياتها أنه ليس هناك شيء يربطها بالبلاد في الوقت الحالي سوى أهلها الذين ما يزالون يعيشون هناك وتحرص على زيارتهم من وقت لآخر.
يبدو أن شكل العلاقة والارتباط بسوريا وأحداثها مر بفصول عديدة من الاتصال والانفصال لدى المغترب، صمد بعضها وانهار بعضها الآخر بمرور الوقت. ويمكن القول إن ما صمد من هذه الصلة يتجلى على مستويين... المستوى الأول واقعي ملموس، يتعلق بحقيقة تواجد الأهل أو الأصدقاء أو قسم كبير منهم في سوريا. الأمر الذي يترتب عليه التزامات معينة وقلق مشروع حول ظروف حياتهم الاقتصادية والأمنية، والحاجة إلى اللقاء ولم الشمل. والمستوى الثاني عاطفي رومانسي، تصبغه الذكريات بألوان دافئة، فتظل هذه العلاقة الإشكالية مربكة بالنسبة للكثيرين فلا تترك لهم مجالاً للنسيان، وتغذي فيهم أحلام العودة رغم معرفتهم باستحالة تحقق شروطها التي ينشدونها في الوقت الحالي. فالحنين في جزء كبير منه هو لعبة الذاكرة التي تحن لأيام شباب وطفولة انقضت، وقصص محببة في أزقة المدن العتيقة ذهبت على كل حال واسترجاعها ليس بمتناول أحد سواءً أكان ممن بقوا أو من أولئك الذين رحلوا.
يأمل الكثيرون تحول مظاهرات السويداء إلى ثورة شاملة تمتد على طول وعرض الخارطة السورية. ويبقى السؤال عن الأسباب التي تحول دون تحقق ذلك حتى الآن
ويأمل الكثيرون تحول مظاهرات السويداء إلى ثورة شاملة تمتد على طول وعرض الخارطة السورية . كما يبقى السؤال عن الأسباب التي تحول دون تحقق ذلك حتى الآن ـ رغم كل ما يبذله الحراك الشعبي من جهد في إيصال رسالة واضحة لكل السوريين أنه يتحدث باسمهم جميعاً دون أي تمييزـ مفتوحاً، وكأن عجز حراك السويداء على تحريك بقية الجغرافية السورية ليس مرهوناً بطبيعته وشعاراته فحسب، بل بقراءة المحافظات والمدن السورية له ولمسبباته وأهدافه وتفاعلها معه، هذه القراءة التي لا ترتبط بطبيعة شعارات السويداء وحسب، بل بحسابات أخرى طائفية وعرقية ومناطقية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين