شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
عندما تصبح القارة العجوز سجناً مرفّهاً للأفكار…

عندما تصبح القارة العجوز سجناً مرفّهاً للأفكار…

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!
Read in English:

Freedom of expression: A western broken promise

في تشرين الأول/ اكتوبر عام 2013 زرت لأول مرة الأراضي السويدية بحثاً عن الأمان الذي سلبتنا إياه الحرب في سوريا. هذا الأمان الذي عبروا عنه كثيراً للمهاجرين الجدد تحت مسمى "حرية التعبير"، وأقاموا الدروس الطويلة حول ما يعنيه أن تنتمي لمجتمع حر. 
بدأت السنون بالمرور سنة تلو أخرى، في طريقٍ متعرج سريع لا يتوقف. خلال هذه الفترة في بلاد الشمال شهدتُ على أربع حروب آخرها هي هذه التي نخوضها الآن مع أنفسنا أولاً ومع المجتمعات "الحرَّة" ثانياً.

في البداية كانت حربنا حرب لغة، وبما أننا نعيش في مجتمعات تتشدق بحرية التعبير فكان لا بد من أن نوصل معاناة شعبنا "بالطريقة التي يفهمونها" بعيداً عن الشعارات التي تنتهك السامية (حسب قولهم), كتلك التي كانت تجمعنا في مخيمات اللجوء في البلاد العربية. 
خلال حربنا الضروس في القارة العجوز فوجئنا نحن الذين أتينا إلى بلاد الشمال بردة فعلهم الأخيرة. إذ أصبح الساسة في الحكومة اليمينية السويدية يتسابقون لطرح وجهة نظرهم من خلال إعلامهم الموجه نحو لوم الضحية. ولم يسلم التيار اليساري السياسي السويدي الذي كان حليفاً للقضية الفلسطينية عبر تاريخه الطويل من سهام النقد من ساسته العرب من حَمَلَةِ الجنسية السويدية، وخاصةً الذين ينتمون للحزبين الاشتراكي الديموقراطي واليسار، جراء رأي قادة الحزبين حول لوم الضحية وإظهار الجلاد بمظهر المدافع عن حقه.

أصبحت الشرطة أكثر وحشية لتذكرنا بالقمع الذي لاحقنا جميعاً وهربنا منه، ليتغير مفهوم حرية التعبير ليصبح… إن خرجت في مظاهرة بلا تصريح، سنسحب منك حق الجنسية والإقامة ونعيدك من حيث هربت

كنت أعلم علم اليقين أننا في حرب قذرة تقودها الدول العميقة في بلاد "حرية التعبير", فقادت فرنسا وألمانيا وبريطانيا الحرب على كل من يرفع شعاراً ينادي بحرية فلسطين ويعاقب كل من يرفع شعاراً أو عَلَمَاً مناهضاً لعملية التطهير العرقي التي تنتهجها دولة الاحتلال حالياً. فأصبحت الشرطة أكثر وحشية لتذكرنا بالقمع الذي لاحقنا جميعاً وهربنا منه، ليتغير مفهوم حرية التعبير ليصبح… إن خرجت في مظاهرة  بلا تصريح، سنسحب منك حق الجنسية والإقامة ونعيدك من حيث هربت. بما معناه، إن ديمقراطيتنا لها إطار محدد، لا وسائل تواصل، لا مقالات رأي ولا مناظرات. أي رأي يناهض الرأي الجمعي الذي حددته الحكومات "الحرَّة" سيعاقب عليه الفرد بسحب حقه في التعبير عن رأيه. 
مثالاً على ذلك ما فعلته شركة ميتا عندما أصبحت تقيد المحتوى الفلسطينيّ وتقلل ظهوره للمستخدمين، وهذا ما أطلق عليه النشطاء والمؤثرون على وسائل التواصل فيما بعد اسم “Shadow Ban” أو التغييب الإلكتروني. وفي نفس السياق، أصبحت صفحات وسائل الإعلام الغربية على وسائل التواصل الاجتماعي تغلق التعليقات على منشوراتٍ معينة تطرح أفكاراً جدلية بين طرفيّ الصراع وترجح دوماً كفة سردية الاحتلال على الوقائع المصورة.  
مع ازدياد الحرب اشتعالاً، أصبح السخط على الشرطة الألمانية والفرنسية والبريطانية، أشد وضوحاً لأن هذه البلدان تعتبر "حرية التعبير" جزءاً من الدستور الأوروبي الذي وقعت عليه دول الإتحاد جمعاء. فلم تحرك صور الأطفال وأشلاء الضحايا "الإنسانية" التي حكت عنها القارة العجوز عندما استقبلتنا، فأصبحنا نمتلك جنسيةَ بلاد تغفل القانون الأول الذي كان السبب في هروبنا من القمع في بلادنا، وهو الحق في حرية التعبير. لا مكان لصوتنا، لا قيمةً لدماءِ أطفالنا، وإن امتلكنا الحظ في التعبير مرة أو مرتين واجهتنا الشرطة بالاعتقالات والتهديد بالترحيل.

ما فعلته شركة ميتا عندما أصبحت تقيد المحتوى الفلسطينيّ وتقلل ظهوره للمستخدمين،أطلق عليه النشطاء والمؤثرون على وسائل التواصل اسم “Shadow Ban” أو التغييب الإلكتروني.
 ومن هنا، أريد أن يصل سؤال حقيقي للمجتمع الأوروبي: ما هو الحد الدولي للدفاع عن النفس؟ إن اعتبرنا أن هجوم المقاومة كان إرهابياً، ولا يرتبط بـ 75 عاماً من الاحتلال والاضطهاد والتعتيم. ما الذي سيشفع لأُمٍ جمعت أشلاء طفلها في حقيبة ظهر؟ ما هو الشيء الذي سيمحو صورة الطفل المصدوم عندما خرج من تحت الردم وكل أعضائه ترتجف؟ هل تحمي الشرطة المجتمع "الحرّ" من رفض الاضطهاد؟ هل تحمي الشرطة مواطنيها من مظاهراتٍ لرفض جرائم الحرب؟
وخلال هذه الفترة أيضاً ازداد السباق سرعةً وجنوناً كي يشمل مقدميّ البرامج الإذاعية ليأخذوا نصيبهم من كعكة الألم الذي نعانيه، فاستضاف بيرس مورغان السفير الفلسطيني في لندن حسام زُملُط ليسأله سؤالاً واحداً: "هل تدين حماس؟". ثم جاء بمقدم البرامج المصريّ باسم يوسف الذي قدم برنامج "البرنامج" سابقاً ليسأله عن رأيه "كإنسانٍ عربي" عن الحرب الدائرة هناك. ليجيبه باسم بذكاء وصرامة، كونه لجأ للكوميديا السوداء ولغة السخرية من الرواية الصهيونية الهشة التي بثتها في وسائل الإعلام الغربية. بيد أن الخوف الآن أصبح أن تتحول آلام وأحزان ودمار غزة موضوعاً لكسب الجمهور لا أكثر، فبالرغم من النجاح الهائل الذي حققه باسم جماهيرياً على الصعيدين العربي والغربي، كونه وضع واحداً من ألمع إعلاميي بريطانيا في خانة الصمت المطبق، إلا أنه طالب بلقاء حصريٍّ آخر في الأستديو مما يزيد التكهنات حول محاولة باسم تحويل القصة إلى "ترند". وأنا هنا لست في موضع الناقد فكل من يستطيع تقديم شيءٍ ما لتسليط الضوء على الفاجعة التي نحن في خضمها فهو مشكور، لكنني أحاول صوغ مشاعر العجز والغضب والحزن التي رأيتها في عيون الناس الذين فقدوا أحبةً وهم هنا لا يستطيعون تكريمهم بجنازة. ومن باب الصدفة، أُذيع قبل يومين اللقاء الثاني الذي جعل سردية الشعب الفلسطيني أكثر قوةً وتكلم فيها باسم يوسف بلسان مواطن عربي مغترب، لا بلسان مقدم برامج ساخر. فأصبحت القصة أكثر انتشاراً "ترند" بين الناطقين باللغة الإنكليزية، وأكدت على الوجود التاريخي للفلسطينيين من خلال مجازيات بسيطة قام بها باسم أثناء المقابلة، وهذا ما لاحظناه عندما تغيرت نبرة بيرس مورغان قليلاً تجاه السردية الصهيونية، فأصبح أقرب قليلاً لفهم الصورة كاملة. وتتالت التغييرات في النبرة عند مختلف الشخصيات المشهورة أمثال أنجيلينا جولي، التي نادت في بداية الحرب على لوم حماس وحماية المستوطنين "المدنيين" حسب قولها. إلا أنها تراجعت وغيرت نبرتها مع إقدام الطيران الصهيوني على مجزرة مخيم جباليا التي راح ضحيتها 400 شهيد. 

ما الذي سيشفع لأُمٍ جمعت أشلاء طفلها في حقيبة ظهر؟ ما هو الشيء الذي سيمحو صورة الطفل المصدوم عندما خرج من تحت الردم وكل أعضائه ترتجف؟
ختاماً، عندما تغادر المخيم فأنت تغادر فلسطين مرتين، مرة من خلال قصص الجدات اللواتي توفين بعد النكبة، ومرة عندما يتدمر المخيم الذي يحمل في كل حارة منه اسم منطقة في فلسطين. في مخيم اليرموك مثلاً خرجنا كثيراً إبان الحرب على غزة في عاميّ 2006 و2009. أشعلنا الشموع، وهتفنا للشهداء، وملأنا شوارع المخيم بالغضب. بيد أن شعور التنويم الذي تنتهجه الحكومات العربية جعلنا نشعر بالرضا الزائف، مُحَوِلاً تضامننا المستميت آنذاك لشعورٍ بالعجز عندما وصلنا إلى أوروبا، فنحن ظننا أن تلك المظاهرات كانت تعبيراً عن الرأي، وصدمتنا حكومات الحريات بالمعنى الحقيقي للرأي. إن الرأي حسب معتقدها هو عدم مخالفة الأطر وعدم المساس بطفل أوروبا المدلل، لأنه خلال الحروب الثلاث الماضية كان الفلسطيني هو الضحية فيها، فبدا تضامنهم خجولاً… عبارات شجب، قمم أممية، وإبر تخدير دبلوماسية "حتى لا يخالفوا الأطر الإنسانية" دون تأثير واضح. وعلى النقيض تماماً عندما استحال الفلسطينيُّ مهاجماً مدافعاً عن حقٍ عمره 75 عاماً. أُجبِرَت الحكومات الأوروبية عن نزع قناعها الإنساني وإظهار تحيزها الواضح، مما قادنا لحرب داخل حرب، حرب الهوية وحرب الدفاع عن الرأي. وهكذا اختلطت مشاعر الحزن بالغضب والعجز. طاردةً إيانا من حظيرة "التحضر".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard