"كل يوم في المساء، أنظر إلى أبنائي، وأحمد الله لأن الخطر بعيد عنهم. ولكن في أوقات أخرى، أتخيل أن هناك شيئاً ما يحدث وأسمع أصواتاً غير حقيقية، وعندما أحاول النوم تطاردني الكوابيس المزعجة؛ أرى نفسي في خطر أنا وعائلتي"؛ هكذا تصف سماح، وهي من محافظة كفر الشيخ في مصر، الأحاسيس التي تشعر بها منذ بداية الحرب على غزة.
وتكمل سماح لرصيف22: "من الصعب ألا نشاهد الفيديوهات، ومن المستحيل أن نشاهدها ولا نبكي، وتتأثر نفسيتنا ونشعر كما لو كنا عاجزين. في أحيان أخرى أبكي لفترات طويلة عندما أشاهد فيديوهات الأطفال، وهم يُقتلون، وذلك ينعكس على خوفي على أبنائي فأحتضنهم وأبكي".
تشعر سماح (31 سنةً)، المتخصصة في آداب علم نفس، بأن متابعة الأحداث يمكن أن تخلّف وراءها الكثير من الاضطرابات النفسية لدى الأفراد دون دراية منهم. تقول: "الموضوع مؤلم بطريقة غير محتملة، وما يحدث هناك هو نوع من الجنون غير المبرر، أعتقد أننا جميعاً أصبحنا نعاني من الاكتئاب".
في الواقع، إن متابعة مشاهد قتل الأطفال والأبرياء في غزة على مدار الساعة، ولأكثر من ثلاثة أسابيع، لها أثر كبير على الصحة النفسية للأشخاص كونهم معرضين للإصابة باضطرابات نفسية إلى جانب الأرق والتوتر وفقدان الإحساس بالأمان.
فما الذي يمكن أن نفعله لنحافظ على صحتنا النفسية وسط كل هذه المشاهد القاسية؟
فقدان الأمان
تعاني هدى (26 عاماً)، من عدم القدرة على النوم منذ بداية الحرب على غزة، وتشرح لرصيف22، أنها تنام ساعات قليلةً كل يوم، وتفتقد إحساس الهدوء والاطمئنان كعادتها، فخلال ساعات نومها القليلة ترى الكثير من الكوابيس غير المنطقية تماماً: "آخر ما أشاهده قبل النوم هو ما يحدث في غزة، وأول ما أفعله في الصباح هو البحث عمّا حدث هناك ليلاً. أشاهد كل حسابات الناس الذين أعرفهم هناك، وأراقب ما يحدث على مواقع التواصل الاجتماعي، ثم ليلاً وفي أثناء النوم يرتد عليّ كل ذلك فأرى نفسي وسط الأنقاض، وذات مرة رأيت والدتي وكنت أصرخ ولا أستطيع نجدتها".
"من الصعب ألا نشاهد الفيديوهات، ومن المستحيل أن نشاهدها ولا نبكي، وتتأثر نفسيتنا ونشعر كما لو كنا عاجزين. في أحيان أخرى أبكي لفترات طويلة عندما أشاهد فيديوهات الأطفال، وهم يُقتلون، وذلك ينعكس على خوفي على أبنائي فأحتضنهم وأبكي"
في هذا السياق، ووفقاً لما تقوله جمعية القلق والاكتئاب الأمريكية، فإن مشاهدة الشخص المتكررة وتحققه المستمر من كل ما يُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي ومتابعته لكل جديد وقت الحرب، "تسبب له نوعاً من الراحة ولكنها تكون قصيرة الأجل، فيشعر في البداية أنه يستطيع السيطرة على حياته بالحصول على أكبر قدر من المعلومات، ولكن يهاجمه التوتر والقلق في ما بعد".
وذكرت الدكتورة أماندا سبراي، وهي أخصائية إكلينيكية في قسم الطب النفسي ومدير مركز ستيفن أ. كوهين العسكري للأسرة في جامعة نيويورك لانجون هيلث، أن استهلاك الأخبار بشكل متطرف يضرّ بالصحة العقلية للفرد وقد يؤدي مع الوقت إلى تشخيص الحالة بـ"اضطراب ما بعد الصدمة".
من هنا، ينصح الخبراء في موقع webmed، بتقليص أنواع معيّنة من التغطية الإخبارية أو إيقافها مؤقتاً أو الابتعاد عنها، إذا كانت الأخبار تؤثر علينا كثيراً، والحدّ من الوقت المستغرق في استهلاك الأخبار المتعلقة بالحرب باستخدام الهواتف الذكية، وبتقبل الشخص أنه في الحروب عادةً لا توجد أخبار مؤكدة، وأنه من الصعب توقع أيّ من الأحداث.
ويضع أطباء علم النفس مجموعةً من الأعراض التي تدلّ على أن الشخص يعاني من مشكلة نفسية، وعليه أن يطلب المساعدة ومنها: "الشعور بالغضب والصداع وآلام المعدة، الإكثار من النوم أو الإقلال منه والإحساس بالشعور بالذنب دون سبب، نقص الطاقة، والتدخين بشراهة وعدم التواصل مع الآخرين".
من جهتها، تقول المعالجة النفسية الدكتورة منى قابل، لرصيف22، إن مراقبة ما يحدث في غزة له مخاطر وتأثيرات كبيرة على الجهاز العصبي للإنسان، ويؤثر على نفسيته بشكل خطير: "هذه المشاهد لا تمر على البصر والعقل مروراً عابراً مثل أي مشاهد أخرى، ولكنها تؤثر على الجهاز العصبي والسلامة النفسية للإنسان، وتبث التوتر والشعور بالقلق والحزن الشديد، إلى جانب تسببها في ظهور أسوأ المشاعر ومنها انعدام الأمان والخوف على الأبناء/ البنات، وتأتي في الغالب على هيئة كوابيس ومن ثم يشكو البعض من اضطرابات النوم، ومن أن أحلامهم مفزعة، ويصاب البعض الآخر بالأرق، وقد يشاهد أو يسمع أصوات الأطفال، مثل الذي يشاهد موتهم كل يوم".
وتضيف قابل: "حتى يخرج الشخص من هذه الأزمة بأقل الخسائر النفسية، يحتاج إلى أن يكون هناك وقت خاص له يفصل فيه ويبتعد عن مشاهدة هذه الفيديوهات قليلاً ويمكن وقتها أن يمارس هوايةً ما، أو أن يخرج لاستنشاق الهواء، وأن يشاهد التلفزيون، وأن يجلس مع أصدقاء مقربين للحديث في موضوعات أخرى دون التطرق بأي شكل إلى القضية أو ما يحدث هناك، ومن ثم يقوم بكسر عملية تركيز الانتباه ويتخلص من الألم الشعوري الذي يظهر في صورة حزن أو اكتئاب".
في السياق نفسه، تقول دكتورة الصحة النفسية، عنتر سليمان، إن مواجهة الشخص للحقائق من أفضل الوسائل لتغلّبه على أي أزمة نفسية: "على كل شخص الآن أن يفهم القضية جيداً، وأن يقوم بدور كبير في توعية الشباب والأطفال بقضيتهم، وأن يقوم كل فرد بدوره وفي مجاله بصورة تمكّنه من مواصلة دعم القضية".
تتابع سليمان لرصيف22: "ليس بالضرورة أن يكون الدعم والمشاركة من خلال مشاهدة الفيديوهات. الأهم أن يقوم كل فرد بدوره، فهناك من يتبرع، وهناك من يتظاهر لدعم القضية"، مشددةً على ضرورة أن يعلم الشخص أن هذا الظلم ستكون له نهاية وأن ما يقوم به العدو هو نوع من الهزيمة، ومن ثم الاتصال الروحاني والإيمان والقوة إذ تجعله هذه يصل إلى مرحلة قوة تمنع عنه الاكتئاب أو فقدان الأمل".
إحساس بالذنب؟
أكثر ما يشعر به محمود (32 سنةً)، هو الخوف من أن يشاهد مثل هذه الكوارث في مصر، وفق ما يقول لرصيف22: "نعمة الأمان والبيت لم أكن أشعر بأهميتهما من قبل إلا عندما شاهدت فيديوهات لأهل غزة وهم ينتقلون من مكان إلى آخر بحثاً عن الأمان ودون مأوى مناسب لهم ولأسرهم... كل ما أخشاه أن يحدث لنا ذلك".
ومن أصعب الأحاسيس التي يمكن أن تحدث في هذه الأوقات، إحساس الفرد بالذنب عندما يمارس حياته بشكل طبيعي، وهذا ما يحدث مع المواطنة المصرية ليلى (26 سنةً)، التي تقول لرصيف22: "أشعر بالخيانة عندما أجد نفسي أمارس حياتي بصورة طبيعية وأذهب لأي مناسبة اجتماعية مع عائلتي... لا أرى أن من حقي أو من حق أي إنسان أن يفرح الآن بينما هناك أشقاء لنا على الحدود يموتون كل لحظة ظلماً".
وتضيف ليلى: "هذا الإحساس أشعر به أنا والكثير من الأصدقاء عندما نتناقش في بعض الموضوعات العادية والمشكلات اليومية. نشعر بأننا تركنا القضية ونسينا أهلنا في غزة وهذا ليس حقيقياً".
تعليقاً على هذه النقطة، تحذّر الدكتورة منى قابل، من هذا الشعور الذي وصفته بالشعور المتطرف غير المثمر والذي لا داعي له: "الإحساس بالذنب يأتي للأشخاص المسؤولين والقادرين على التغيير وليس للشخص العادي صاحب القدرة المحدودة، ولذلك جلد الذات مرفوض ولو تمادى في هذا الإحساس سيقصر في واجباته وعمله".
"أشعر بالخيانة عندما أجد نفسي أمارس حياتي بصورة طبيعية وأذهب لأي مناسبة اجتماعية مع عائلتي... لا أرى أن من حقي أو من حق أي إنسان أن يفرح الآن بينما هناك أشقاء لنا على الحدود يموتون كل لحظة ظلماً"
وعليه، تؤكد قابل على أهمية أن يقوم كل شخص بدوره وفقاً لإمكاناته، فيمكن للبعض أن يعبّروا عن غضبهم على السوشال ميديا، أو مثلاً أن يشاركوا في مسيرة يرفضون فيها ممارسات العدو، أو أن يقوموا بترجمة بعض هذه التصرفات، ولكن المغالاة وتعذيب النفس مرفوضان تماماً.
نصائح مهمة
في مقال كتبته شيشيرا سرينيفاس، في موقع webmed، يضع خبراء الطب النفسي مجموعةً من النصائح ليلتزم بها الفرد في أثناء متابعة الأحداث وقت الحروب والأزمات والتي تدور حول كيفية الاعتناء بالنفس:
أولاً: تناول طعام صحي ومفيد قدر الإمكان.
ثانياً: الحصول على قسط كافٍ من النوم وشرب كميات كبيرة من الماء.
ثالثاً: إذا كان المرء يعاني من حالة نفسية مثل القلق أو اضطراب ما بعد الصدمة أو الاكتئاب، فإن مشاهدة الكثير من الأخبار قد تؤدي إلى تفاقم الحالة ومن ثم يتعيّن عليه مراجعة المعالج/ ة النفسي/ ة دون تردد.
كما ينصح الخبراء الشخص المعني بممارسة الكثير من التمارين الرياضية ليفرغ الشحنات السلبية التي في داخله والقيام بأنشطة مختلفة مع الأصدقاء المقربين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...