كلما شنّت إسرائيل عدواناً عسكرياً على قطاع غزة، أو توحّشت في ممارسة نظام الفصل العنصري في الضفة الغربية والقدس، يتجدد السجال في لبنان حول مسألة التضامن مع الفلسطينيين.
سرعان ما ينقسم المشهد بين فئة ليست متضامنةً فحسب، بل متلاحمة مع القضية الفلسطينية، وفئة تعلن تضامنها الإنساني الخالي من أي دوافع وأبعاد سياسية. ثمة فئة أخرى تجاهر بحياد قد يكون مخادعاً، الهدف منه عدم الكشف عن موقف كامن مؤيد لإسرائيل. وهناك فئة من اللبنانيين لا تخفي رفضها التضامن مع الفلسطينيين ولا حقدها عليهم، ليس لأنها مؤيدة بالضرورة لإسرائيل، بل لأن نظرتها إلى ما يجري اليوم في الأراضي المحتلة وغزة تتأثر بماضي العلاقات اللبنانية-الفلسطينية الملتبسة وحرب الـ1975، وما رافقها من تجاوزات ومجازر (متبادلة)، تركت آثاراً لا تُمحى في الذاكرة الجماعية، خصوصاً الذاكرة الجماعية لمسيحيي لبنان فضلاً عن فئة ترى في حماس امتداداً للمشروع الإيراني في المنطقة.
يتعلق الأمر إذاً بمشكلة لا يمكن تجاهلها، كما لا يمكن تحليلها ثم معالجتها من خلفية مانوية تُقَسِّم الناس بين محورَي الخير والشر، بل من خلال محاولة فهم هذا العداء والحقد وتقبل الرأي الآخر بدلاً من شيطنته، فقط.
اللا تضامن
ظاهرة اللا تضامن مع الفلسطينيين، بدأت تعبّر عن نفسها في تعليقات ومحادثات على مواقع التواصل الاجتماعي، اعتباراً من السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، إثر عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركة حماس في غلاف غزة، والتي ترافقت مع ارتكاب بعض عناصر الحركة "جرائم حرب، مدانةً ومرفوضةً، ضد مُحْتَلِّين إسرائيليين مدنيين". وبرزت الأصوات غير المتضامنة كردود فعل على كثرة المتضامنين والمتعاطفين مع الفلسطينيين الذين يتعرضون لإبادة جماعية على يد الاحتلال الإسرائيلي في غزة، الذي اتخذ من عملية "حماس" ذريعةً لتحقيق "حلمه" بنقل سكان غزة إلى سيناء في مصر، وسكان الضفة الغربية إلى الأردن.
هناك فئة من اللبنانيين لا تخفي رفضها التضامن مع الفلسطينيين ولا حقدها عليهم، ليس لأنها مؤيدة بالضرورة لإسرائيل، بل لأن نظرتها إلى ما يجري اليوم في الأراضي المحتلة وغزة تتأثر بماضي العلاقات اللبنانية-الفلسطينية الملتبسة وحرب الـ1975، وما رافقها من تجاوزات ومجازر (متبادلة)، تركت آثاراً لا تُمحى في الذاكرة الجماعية، خصوصاً الذاكرة الجماعية لمسيحيي لبنان فضلاً عن فئة ترى في حماس امتداداً للمشروع الإيراني في المنطقة
سُلّطت الأضواء على هذه الظاهرة أكثر فأكثر، بعد التظاهرة التضامنية مع غزة في ساحة بلدة عوكر في 17 تشرين الأول/ أكتوبر، في ساحل المتن الشمالي، حيث مقر السفارة الأمريكية، وحيث تحوّل الاحتجاج السلمي إلى مواجهات مع الجيش والقوى الأمنية اللبنانية، ما أدى إلى حصول تعدّيات على أملاك خاصة للسكان في المنطقة وحرق إحدى المؤسسات التجارية.
كان يمكن لحدث كهذا أن يمر مرور الكرام في سياق الحرب على غزة، لو كان مكان الحدث وسط بيروت أو شارع فردان أو الرملة البيضاء أو البربير. لكن حصوله في ساحل المتن الشمالي، الذي يُعدّ من المناطق التي تضم أكثريةً مسيحيةً، أدى إلى تحوّله إلى أزمة سياسية ذات بعد طائفي. أحد سكان المنطقة لم يتردد في الدعوة إلى تسليح عناصر شرطة البلدية في بعض بلدات المنطقة للتعامل بقسوة وحزم مع "المخربين" الذين أتوا للتظاهر هناك. وفي مخيلة هذا الشخص وعدد كبير من الناس، فإن هؤلاء "المخربين" هم مسلمون، ويساريون، وفلسطينيون، قدموا من مناطق كانت "معاديةً" للمسيحيين، خلال حرب 1975-1990، مثل "بيروت الغربية" والمخيمات الفلسطينية.
استحضار الماضي
يعتقد البعض، خصوصاً من الأجيال التي عاشت تجربة الحرب في بداياتها، أن التخريب الذي تسببت به تظاهرة عوكر، يشبه ولو بدرجات متفاوتة جداً، التجاوزات التي أقدم عليها آنذاك الفلسطينيون، المدعومون من حلفائهم اللبنانيين، المسلمين واليساريين. وهذا ما دفع بعض الأفراد إلى نشر صور عن مجازر راح ضحيتها المسيحيون، مثل مجزرة الدامور، التي أتت في سياق جولات عنف دامية بين المتحاربين في عامي 1975 و1976، مع رسائل مكتوبة موجهة خصوصاً إلى المتضامنين مع ضحايا العدوان على غزة، مفادها: لن ننسى، أو تذكروا ما فعله بنا الفلسطيني أيضاً. وهو ما فعله حفيد الرئيس الراحل كميل شمعون، قبل أن يعود ويمحو التدوينة بعد الانتقادات الكثيرة التي تلقاها.
كذلك، ثمة أفراد يعيدون الترويج للسردية الإسرائيلية والغربية، ومفادها أن حركة حماس تشبه تنظيم "داعش" الإرهابي، وهم يعتقدون أيضاً أن صدام الأحزاب المسيحية مع الفلسطينيين في حرب لبنان كان صداماً مع "دواعش". وذهب البعض إلى حد الشماتة، عادّاً أن سكان غزة يلقون مصيراً مشابهاً لمصير ضحايا الميليشيات الفلسطينية في حرب لبنان، والمقصود هنا هم المدنيون المسيحيون ومسلحو الميليشيات المسيحية، كالكتائب والأحرار.
صحيح أن مواقف كهذه تسمح بالتساؤل عن مكانة قيم التضامن كجزء من القيم الإنسانية الكونية، لدى أعداد كبيرة من الأفراد، لكن انعدام التضامن الإنساني في وقت الحروب وأعمال العنف لا ينحصر في بعض مسيحيي لبنان. فالمشهد، في السنوات الأخيرة، مليء بمواقف أفراد عرب ومسلمين غير متضامنين مع ضحايا عمليات إرهابية في الغرب، وكذلك بمواقف أفراد أوروبيين وغربيين غير متضامنين مع ضحايا القصف الهمجي الإسرائيلي ضد المدنيين والأطفال الفلسطينيين اليوم مثلاً.
نتائج عكسية ونعي للتعايش
بهذا المنحى، تكون تظاهرة عوكر قد أدت إلى نتائج عكسية. فبدلاً من أن تساهم في تعزيز الحملة التضامنية مع الفلسطينيين في غزة، أعادت إحياء هواجس مسيحية قديمة من جهة، وتحوّلت إلى مادة سجال سياسي طائفي لبناني-لبناني، من جهة أخرى. إذ راح عدد من المعلقين يشددون على ضرورة حياد لبنان، قاصدين التعبير ليس فقط عن رفضهم فتح جبهة جنوب لبنان من قبل حزب الله والفصائل الفلسطينية، بل أيضاً عن رفضهم الضمني لإعادة إدخال المسألة الفلسطينية كمكوّن أساسي من مكونات السجال السياسي اللبناني الداخلي.
عدد من المعلقين يشددون على ضرورة حياد لبنان، قاصدين التعبير ليس فقط عن رفضهم فتح جبهة جنوب لبنان من قبل حزب الله والفصائل الفلسطينية، بل أيضاً عن رفضهم الضمني لإعادة إدخال المسألة الفلسطينية كمكوّن أساسي من مكونات السجال السياسي اللبناني الداخلي
وأصحاب هذا الرأي يرون أن مسؤولية تكريس حياد لبنان تقع على مسلمي لبنان، السنّة والشيعة، المدعوين، في نظر أحد المعلّقين، إلى التعلم من تجربة الحرب اللبنانية، "وإلا سيكون من الصعب العيش معاً في لبنان تحت كذبة التعايش". المعلّق نفسه يستنكر تحوّل القنوات التلفزيونية "السيادية"، المحسوبة في القاموس اللبناني على المسيحيين، كمحطة "أم تي في" خصوصاً، إلى منصة تضامنية مع الفلسطينيين، لا سيما مع برنامج الإعلامي مارسيل غانم، "صار الوقت". وهذا يُظهر بوضوح أن التفاعل مع المسألة الفلسطينية في لبنان سرعان ما يتحول إلى مادة سجال طائفي، يحرّك العصبيات الطائفية ويكاد يهدد الوحدة الوطنية، على غرار ما حصل في العام 1975
ماذا عن التضامن مع الفلسطينيين؟
على الرغم من كل ذلك، تبدو ظاهرة المجاهرة بعدم التضامن مع الفلسطينيين محصورةً في أفراد ينتمون إلى جيل الحرب. لا شك في أن ذاكرة هؤلاء تساهم في تكوين الذاكرة الجماعية لغالبية المسيحيين في لبنان، ولا شك في أن الأجيال الشابة في الأوساط المسيحية، تتأثر بسرديات الحرب ولا تستسيغ الدور الذي لعبته "منظمة التحرير الفلسطينية" في لبنان. لكن ثمة تفاوتاً، على ما يبدو، بين رد فعل أجيال الحرب وأجيال التسعينيات والألفين، حيال المأساة الفلسطينية التي تتخذ اليوم طابعاً خطيراً، أمام أعين العالم.
قبل المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل بقصفها مستشفى المعمداني في غزة، وبعدها، وقبل استهدافها الكنائس في غزة وبعده، تشير حركة التعليقات عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى وجود شبّان مسيحيين يعلنون تضامنهم وتعاطفهم مع الفلسطينيين، لأنهم يرفضون القصف الهمجي، أو لأنهم يتضامنون تلقائياً مع الضحية ضد الجلاد، أو لأن هناك وعياً جماعياً واسع النطاق بأن للشعب الفلسطيني الحق في تقرير مصيره والحق في دولة مستقلة قابلة للحياة، وبأن الحكومات الإسرائيلية المتطرفة هي التي أجهضت حل الدولتين ونسفته.
تتجسد ظاهرة التضامن هذه إما من خلال المشاركة في الحملة الإعلامية التي تصوّر رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على كمجرم حرب، والتي تدعو إلى محاكمته، أو من خلال مواقف تؤكد دعم نضال الفلسطينيين من داخل أرضهم، بشرط عدم استخدام أرض لبنان وانتهاك السيادة اللبنانية.
إذا كان من شأن ظاهرة اللا تضامن مع الفلسطينيين، أن تتمظهر على شكل انقسام طائفي داخلي، يتّسم بإعادة انتشار الخطاب الذي يشكك في إمكانية التعايش بين المسيحيين والمسلمين في لبنان، فهل يمكن أن تساهم ظاهرة التضامن التي تشمل فئات لا يستهان بها من المسيحيين، في التخفيف من حدة هذا الانقسام، أو في تحفيز مشروع إعادة بناء دولة جامعة لكل اللبنانيين على تنوعهم؟
سخط على الغرب
أكثر من ذلك، ثمة شبان مسيحيون تستوقفهم ازدواجية المعايير في الغرب، فيستنكرون صمت الغرب حيال عدوان إسرائيل مقابل إدانته لعدوان روسيا في أوكرانيا، مثلاً. وهي سياسة الكيل بمكيالين مطبقةً في الشرق الأوسط، كما يلاحظ شاب مسيحي يعيش في باريس، متسائلاً: "أين هي الأصوات الغربية التي كانت تشجب وتدين تهديدات واعتداءات تنظيم داعش الإرهابي ضد مسيحيي الشرق، بينما تصمت اليوم عن استهداف جيش الاحتلال الإسرائيلي لكنائس غزة وللمسيحيين في القدس؟".
كل هذا يعني أن السردية المبنية على القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي وعلى القيم الإنسانية باتت تطغى على سردية حرب 1975، لكن من دون أن تفككها أو تطمرها. أما انحسار تأثير سردية الحرب على مواقف وسلوكيات الأجيال الشابة، فيمكن تفسيره أيضاً من خلال "تراجع تأثير تروما التجاوزات الفلسطينية في الحرب، من جيل إلى جيل، إذ من الطبيعي أن يكون شباب اليوم أقل تأثراً بهذه التروما من الذين كانوا شباباً بين 1969 و1982"، كما يقول الناشط السياسي، جوني داغر، وهو طالب ماستر في كلية الحقوق والعلوم السياسية، الفرع الثاني، جل الديب، في الجامعة اللبنانية.
ويضيف أن "نوعاً من النوستالجيا الإسرائيلية التي كانت برزت من جديد بسبب ممارسات حزب الله ومحور الممانعة في لبنان، قد خفتت في الآونة الأخيرة، خصوصاً أن كثيرين يعتقدون بأن إسرائيل كانت وراء تفجير مرفأ بيروت الذي دمّر مناطق مسيحيةً".
لكن إذا كان من شأن ظاهرة اللا تضامن مع الفلسطينيين، أن تتمظهر على شكل انقسام طائفي داخلي، يتّسم بإعادة انتشار الخطاب الذي يشكك في إمكانية التعايش بين المسيحيين والمسلمين في لبنان، فهل يمكن أن تساهم ظاهرة التضامن التي تشمل فئات لا يستهان بها من المسيحيين، في التخفيف من حدة هذا الانقسام، أو في تحفيز مشروع إعادة بناء دولة جامعة لكل اللبنانيين على تنوعهم؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...