شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
أين تُستقبل التعازي يا هبة؟

أين تُستقبل التعازي يا هبة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الاثنين 30 أكتوبر 202304:40 م

أفهم يا هبة معنى أن يرثي الإنسان شخصاً يحبّه، أفهم أن المشاعر ستتولى الأمر وسترتصّ الكلمات إلى جانب بعضها، مشكّلة موعداً مؤجّلاً. أفهم تماماً معنى أن يحدث ذلك، ولكن ما لا أفهمه يا هبة، هو أن أراك تحملين حقيبة الكلمات وتخرجين من الباب، لا تقولين وداعاً ولا تلوّحين، تلقين نظرةً أخيرة على حبيبتك غزة، وبنظرة واحدة تقولين كل شيء.

ما لا أفهمه يا هبة، هو كيفية رثاء الشعراء والكتّاب والمثقفين، وقد كنتهم كلّهم معاً، كأنك أدركت منذ زمن بعيد أن الحياة لن تمنحك إلا القليل، فكتبت: "ألا يكفي أن نكون من غزة ليكون سبباً كافياً للمغادرة؟"، وقد امتلكت أسباباً كثيرة يا هبة، وكان في عينيك أمل لموعد آت لم أعرفه حينها، ولكنك أدركته جيداً حين قلت: "الموعد الآتي قريب بيننا، البدء منك/ البدء منّي، البدء من أبريل". ما عليك 

البدء من أبريل

لو أنك فقط رحلت في أبريل يا هبة، لربما كان الحزن أقلّ وطأة والخطى أكثر اتزاناً، لكنا قادرين على الأقل، نحن أصدقاءك، أن نودّعك، أن نمشي في جنازتك الممتدة من غزة إلى بيت جرجا، وأن نمنح الأكسجين للموتى ليستطيعوا الحياة مرّة أخرى ولو لثانية، ولكن الطيار الإسرائيلي قرّر أن يقلّص ضوء عينيك بلا رحمة، فأطلق الصاروخ الذي لم يقتلك فقط، ولكنه قتلنا جميعاً في العشرين من أكتوبر، فتوقفت قدماك عن المشي في طريق الثالثة والثلاثين، ولكنّ يديك ما زالتا هنا، تلفّ شوارع المدينة شارعاً شارعاً، وتكتب عن الحب والحرب والأمل، تواسينا في ليالي غزة الطويلة وتمسح آثار الأقدام الغريبة من أزقتنا.

لن يفتقدك الأطفال المبدعين فقط يا هبة، بل سيفتقدك أطفال فلسطين من "الميّ للميّ"، على أيّ حال عليك أن تعودي يا هبة، فالشعراء يعودون دائماً، يبعثون على شكل أصابع أو أصوات أو غضب

ألست من قلت: "وغادر والمدى شعر، وموسيقى من الشريان تتبعه، وظل قصيدة أبداً يضيء، كشاعر قتلوه لكن لم تمت يوماً أصابعه".

لن تموت يوماً أصابعك

لن يفتقدك الأطفال المبدعين في "مركز رسل" فقط يا هبة، بل سيفتقدك أطفال فلسطين من "الميّ للميّ"، ولن يكون اسمك مجرد اسم عابر حين يمرّ عليهم في منهاج دراسي عندما يكبرون، وسوف يظلّ دائماً على ألسنتهم، وإن كنت لا تصدقين ذلك، فعليك أن تعودي بعد سنتين أو ثلاثة أو عشرين سنة، لتري ذلك بنفسك. على أيّ حال عليك أن تعودي يا هبة، فالشعراء يعودون دائماً، يبعثون على شكل أصابع أو أصوات أو غضب.

سنفتقدك نحن أيضاً يا هبة، أصدقاءك. وسنبكي غيابك دموعاً وحزناً وكلمات، واعذرينا إن تطاولنا على جملتك التي تقول: "ستنظر إلى جرحك ذات يوم وتقول: لم يكن جرحاً، كان درساً"، لنثبت لك أن غيابك لن يصبح درساً، بل سيظلّ جرحاً مفتوحاً إلى الأبد على البلاد، جرحاً يحمل بين كفيه روايتك الأولى والوحيدة: "الأكسجين ليس للموتى"، وقصائدك التي أخذت غزة في نزهة ثمّ أخذتك هذه النزهة، جرحاً يروي لنا قصصاً كثيرة، كتبت نهاية بعضها وتركت بعضها الآخر طعاماً للأيام التي انتظرتها ولم تأت.

اليوم هو اليوم الثالث والعشرين للحرب يا هبة، لم يختلف شيء، فما زلنا نموت

يا وحدنا

اليوم هو اليوم الثالث والعشرين للحرب يا هبة، لم يختلف شيء، فما زلنا نموت. تجاوز عدد من قتلتهم إسرائيل إلى الآن 7 آلاف إنسان والعالم يتفرّج. لم يختلف شيء يا هبة، لم يتحرّك أحد من أجلنا كما دائماً، وما زال الأطفال يموتون فرادى وجماعات، بين أحضان آبائهم وأمهاتهم وبعيداً عنهم، في البيوت والشوارع وأزقة المخيمات، في المشافي والعيادات والأحلام، ولم تسمع الأمهات إلى الآن أغنية "يام الشهيد نيالك" في وداع أبنائهنّ، لأنهنّ أصبحن شهداء أيضاً.

ما زال "معتم ليل المدينة إلا من وهج الصواريخ، صامت إلا من صوت القصف، مخيف إلا من طمأنينة الدعاء، أسود إلا من نور الشهداء". الاختلاف الوحيد الذي حدث بعدما قتلتك إسرائيل يا هبة، هو أنك أصبحت نوراً، وقد كنت تعرفين ذلك عندما أخبرتنا قبل ساعات من رحيلك أننا "نحن في غزة عند الله بين شهيد وشاهد على التحرير، وكلنا ننتظر أين سنكون"، ورغم كلّ الدماء التي ما زالت تسيل، لم يتوقف الشهداء عن الصّعود إلى السماء، ولم تنته الحرب، وما زلنا نردّد بعد كلّ ليل طويل، كما علمتنا: "يا وحدنا! ربح الجميع حروبهم، وتركت أنت أمام موتك، عارياً".

عليك أن تعودي

لم تنته الرحلة يا هبة، عليك أن تعودي، لتكملي خطوات الطفلة التي كتبت أوّل بيت شعري وهي في الصّف الخامس، لتذهبي بعيداً في حبّ البلاد التي تأمّلت خارطتها كثيراً بحثاً عن بيت قديم في ذاكرة الجدّة، لتسافري إلى حلمك، ليس هرباً من البلاد ولكن رغبةً في اكتشاف الحياة.

كان على العالم ألا يشهد على مجيء يوم 20 أكتوبر الذي رحلت فيه، على الصاروخ الذي كتب آخر لحظة لك في الحياة أن يتحوّل إلى وردة، حتى لا يصير غارة إذا أمر الجنرال، بل يصبح حديقة وهو في طريقه إلى حيّ المنارة في خانيونس، كان على الجنوب أن يصبح حديقة لأجلك يا هبة

كان على العالم - كل العالم - ألا يشهد على مجيء يوم 20 أكتوبر الذي رحلت فيه، على الصاروخ الذي كتب آخر لحظة لك في الحياة أن يتحوّل إلى وردة، حتى لا يصير غارة إذا أمر الجنرال، بل يصبح حديقة وهو في طريقه إلى حيّ المنارة في خانيونس، كان على الجنوب -كل الجنوب- أن يصبح حديقة لأجلك يا هبة، أنت التي تركت الشمال أملاً في النجاة فكانت نجاتك الوحيدة في الرحيل.

أن يكتب على الصواريخ

كتبت مرة يا هبة "ألا يجب أن يُكتب على الرصاص: "يحفظ في مكان ناء ومرتفع بعيداً عن وجوه الأطفال وقلوبهم". لكنّ أحداً لم يكتب، لأن العالم لا يشغله موتنا، حتى عندما يداعب الرصاص الأطفال الذين تعلّقت بهم كثيراً خلال سنوات عملك في مجال العلوم، وأحببتهم أكثر من أيّ شيء وكلّ شيء، فالعالم ينظر إلى الأمر على أنه لعبة، وطالما أن إسرائيل مستمتعة فلا بأس.

ولأنك كنت طفلة الوطن يا هبة، كان يجب أن يكتب على الصاروخ الإسرائيلي الذي قتلك في منزل نزوحك بالجنوب: "يُحفظ في مكان ناء ومرتفع بعيداً عن وجوه الكتّاب وقلوبهم، ويتحوّل إلى برد وسلام عند أوّل هدنة". ورغم أنه لم تأت أيّ هدنة إلى الآن، إلا أننا سنقول كما علمتنا: لا بأس، "قصفوا المكتبة، لا بأس، نحن الكتب! هدموا التاريخ، لا علينا، نحن التاريخ".

نهايات حزننا الممتد

لم نر صورة من جنازتك، رغم ذلك مشينا في كلّ شوارع العالم نشيّعك. لم نعرف طريق قبرك بعد، لكننا قرأنا عليك السلام من جميع العواصم. لم ينقل التلفاز مراسم الدفن ولم يشجب الرئيس ولم يعلن الحداد، ولكننا علقنا الشرائط السوداء على جبين الصفحات البيضاء إلى الأبد. لماذا رحلت هكذا يا هبة؟ ألم يكن ممكناً أن تنتظري قليلاً ريثما نعود إلى البلاد، ليس إلى الشمال... بل إلى البلاد، كلّ البلاد؟

بعد قليل سنعود إلى البلاد يا هبة، ولا أقول ذلك إيماناً بأنه سيحدث، ولكني أستند على شغفك في الرجوع إلى البلاد. بعد قليل يا هبة، سنعلّق لك صورة كبيرة وسط بيت جرجا، وسنعقد أمسية شعرية -لن تتأخري عنها كعادتك- يحضرها أولئك الذين كتبت عنهم: "نحن في الأعلى نبني مدينة ثانية، أطباء بلا مرضى ولا دماء، أساتذة بلا ازدحام وصراخ على الطلبة، عائلات جديدة بلا آلام ولا حزن، وصحفيون يصورون الجنة، وشعراء يكتبون في الحب الأبدي، كلهم من غزة كلهم".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard