شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
تقسيط الكتب… هل يكفي لإنعاش الثقافة في مصر؟

تقسيط الكتب… هل يكفي لإنعاش الثقافة في مصر؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحريات العامة

الخميس 26 أكتوبر 202311:16 ص

يبدو الاهتمام بالقراءة ورفع معدلاتها هدفين مصريين، أوّليين ومحوريين، كما هو معلن، لإنعاش الثقافة العامة الراكدة، واستعادة القوة الناعمة كحضور داخلي محلي تنويري وكتأثير خارجي إشعاعي، على الأصعدة العربية والإقليمية والدولية.

على أن تنمية عملية القراءة وتحسينها نوعيّاً وتوسيع نطاقها كمّياً بين الشرائح والطبقات المجتمعية والفئات العمرية المختلفة، من الغايات صعبة المنال، والبعيدة عن التحقق حتى هذه اللحظة، وذلك لأسباب كثيرة متشابكة، الأمر الذي يدفع في محصّلته إلى وصف القراءة في مصر بأنها تعيش أزمةً حقيقيةً، متجذرةً ومستعصيةً وكارثيةً.

ضربات داخلية وخارجية

ومن هذه الأسباب التي تعوق اقتراب القراءة في مصر من معدلاتها المأمولة، سوء حالة التعليم الرسمي والمدارس والجامعات الحكومية، وارتفاع نسبة الأمية. وتشير أحدث بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، قبل أسابيع قليلة، إلى أن نسبة الأمية في مصر تتحرك انخفاضاً ببطء ما بين نحو 26% إلى نحو 18% خلال السنوات الخمس الأخيرة، وتصنَّف مصر في المرتبة السابعة عربيّاً في معدلات الأمية.

وجدت وزارة الثقافة المصرية ذاتها ملزمةً بمحاولة التصدي بشكل فاعل لأزمة القراءة المستفحلة على نحو متسارع. ونشأت فكرة مبادرة "الكتب بالتقسيط"، إبان معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الأخيرة 

وهي ليست من الدول العربية التي نجحت في خفض نسبة الأمية إلى أقل من 10%، كالأردن والبحرين والكويت وقطر وفلسطين على سبيل المثال، وذلك على الرغم من أن محو الأمية من أبرز القضايا القومية التي أدرجتها الدولة ضمن "رؤية مصر 2030"، وفي إطار ضمان التعليم الجيّد، المنصف والشامل، لجميع أفراد الشعب.

ومن معوّقات القراءة الأخرى في مصر، والكثير من دول الوطن العربي والعالم كله، هذه السلسلة المتصلة الحلقات من الظروف الصعبة والملابسات القاسية التي تحيط بصناعة النشر، خلال الآونة الأخيرة. فقد أدت الأزمة المالية العالمية عام 2008، إلى تقليص مبيعات الكتب بنسبة 50% في معرض القاهرة الدولي للكتاب ومعظم معارض الكتب العربية. وتراجعت حركة النشر بشكل كبير مرةً أخرى مع أحداث ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011، في مصر وما بعدها من تداعيات واضطرابات.

ثم أصيبت صناعة النشر في مقتل، مصريّاً وعربيّاً، في فترة جائحة كورونا التي توقفت فيها تقريباً كل معارض الكتب العربية ما بين 2020 و2022، وانكمشت مبيعات الكتب بنسبة 75%، وتوقف قرابة 75% من الناشرين العرب عن العمل بصورة نهائية، وانصرف أكثر من 30% من العاملين في صناعة النشر عن المجال، وتجاوزت خسائر دور النشر المصرية نسبة 80%، على حد تصريح سعيد عبده، رئيس اتحاد الناشرين المصريين، والبيانات الرسمية التي أصدرها اتحاد الناشرين العرب برئاسة محمد رشاد.

وازدادت الأمور قسوةً مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022، حيث تعاني صناعة النشر إلى يومنا هذا من أضرار بالغة جرّاء هذه الحرب وتداعياتها المتعددة، من أزمة اقتصادية دولية كبرى، وارتباك حركة التجارة العالمية، وارتفاع سعر الورق والحبر ولوازم الطباعة، إلى زيادة تكلفة النقل والنفط واستيراد المواد الخام بالعملة الصعبة، الأمر الذي يضعف فرصة القراءة بشكل كبير، لتعذّر إنتاج الكتب اللازمة وتوفيرها على نطاق واسع بسعر مقبول. كما أن قراءة الكتب الإلكترونية والاستماع إلى الكتب الصوتية، من الأمور التي لا تزال تجري في حيّز ضيّق للغاية.

القراءة أزمة برلمانية

وسط هذه الأجواء، صارت القراءة في مصر معرضةً للاندثار، فهي لم تكن في أفضل أحوالها أصلاً قبل هذه المستجدات المأساوية في مصر والعالم العربي، إذ ذكر تقرير التنمية البشرية الشهير، الصادر عن "اليونسكو"، قبل نحو عشرين عاماً، أن كل ثمانين مواطناً عربيّاً يكادون يشتركون في قراءة كتاب واحد على مدار العام، بينما يقرأ المواطن الأوروبي الواحد نحو 35 كتاباً سنويّاً في المتوسط.

ومن ثم، فقد صارت أزمة "تراجع معدلات القراءة في مصر"، خصوصاً بين الأجيال الشابة، محوراً للنقاشات البرلمانية في مصر. وقد تقدمت عضوة مجلس النواب المصري هناء أنيس رزق الله، بطلب إحاطة مؤخراً إلى رئيس المجلس بشأن هذه القضية، وخاطبت النائبة وزيرة الثقافة المصرية د. نيفين الكيلاني، مطالبةً إياها بتفسير الظاهرة ودراستها وإيجاد حلول لها، مشيرةً إلى الأرقام المتدنية التي تسجلها قصور الثقافة والمكتبات العامة في مصر حول معدلات استعارة الكتب، وقد بلغت نسبة الاستعارة والقراءة "صفراً في المئة" في بعض المكتبات التابعة للوزارة!

وهكذا، وجدت وزارة الثقافة المصرية ذاتها ملزمةً بمحاولة التصدي بشكل فاعل لأزمة القراءة المستفحلة على نحو متسارع. ونشأت في ظل هذه التداعيات كلها فكرة مبادرة "الكتب بالتقسيط"، إبان معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الأخيرة الرابعة والخمسين لهذا العام 2023.

وهذه المبادرة "اشترِ براحتك، وسدّدْ على مهلك!"، يضطلع بها اتحاد الناشرين المصريين بالتنسيق مع الهيئة المصرية العامة للكتاب، التابعة لوزارة الثقافة، وهي الجهة المنظمة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب. وتتيح المبادرة بيع الكتب للجمهور بالتقسيط على تسعة أشهر أو على مدار عام من دون فوائد، ومن دون رسوم فتح حساب، من خلال بنك مصر، مع توزيع ماكينات فيزا على الناشرين، ومنح المشتري تخفيضاً بقيمة 20% في حالة الدفع الفوري.

جعجعة... ولا طحين

وثمة مبادرة أخرى، لا تخلو أيضاً من الصخب والدعائية، أطلقتها وزارة الثقافة على مدار العام الجاري 2023، بأكمله تحت عنوان "الثقافة والفن للجميع". وتهدف مثلما هو معلن إلى بيع الكتب بأسعار مخفضة، تبدأ من جنيه مصري واحد إلى 20 جنيهاً (الدولار الأمريكي يعادل 30.5 جنيهات مصرية تقريباً).

ولكن هذه المبادرة لم تقدّم المردود المرجو منها في إنعاش حركة القراءة في مصر، إذ تكاد تقتصر المبادرة على بيع إصدارات الوزارة وهيئاتها الرسمية المختلفة فقط، مثل الهيئة المصرية العامة للكتاب، والمركز القومي للترجمة، والهيئة العامة لقصور الثقافة، والمجلس الأعلى للثقافة، وسلاسل النشر الحكومية، وتالياً فإنها لا تسهم بشكل كبير في سد الفراغ القائم، ولا تتمكن من تحقيق شعارات الوزارة "العدالة الثقافية، الكتاب للجميع بسعر بسيط، الكتاب مسؤوليتنا الدائمة... إلخ".

 إحالة اقتناء الكتب إلى "التقسيط"، يربط الكتب أكثر فأكثر بكونها سلعةً تجاريةً بحتةً، وليست منتجاً خدميّاً، تثقيفيّاً وتنويريّاً، في المقام الأول، مثلما يُفترض أن يوجّه الناشرون ووزارة الثقافة رسائلهم وإستراتيجياتهم

أما مبادرة "تقسيط الكتب"، فلعل طبيعتها بحد ذاتها تُصدّر للجميع وجود إشكالية مخيفة أكثر من أنها تسهم في حلها. فهي تقرّ بأن مجرد شراء كتاب صار أمراً متعذراً على المواطن المصري، الذي لم يعد يملك قيمته ليدفعها بشكل فوري! وهذا أمر مُربك، ويدفع بعملية القراءة إلى خانة الاستطاعة المادية، ويوحي بأن الثقافة باتت من مظاهر الترف والرفاهية للأثرياء، الذين يملكون وحدهم القدرة على اقتناء كل شيء بالدفع الفوري، في حين يلجأ غيرهم إلى التقسيط أو الاستدانة!

التسليع... ونفض اليد

وكذلك، فإن إحالة اقتناء الكتب إلى "التقسيط" بهذه الصورة المباشرة، يربط الكتب أكثر فأكثر بكونها سلعةً تجاريةً بحتةً، وليست منتجاً خدميّاً، تثقيفيّاً وتنويريّاً، في المقام الأول، مثلما يُفترض أن يوجّه الناشرون ووزارة الثقافة رسائلهم وإستراتيجياتهم. ومثل هذه الصيغة المادية البحتة، التي تنطوي عليها آلية التقسيط البنكي، تكاد ترسّخ ضمنيّاً لحقيقة نفض الدولة يدها من الدعم الثقيل للثقافة وعناصر القوة الناعمة ومفرداتها، واتجاهها نحو تسليع الثقافة وتحويلها إلى منتج استهلاكي ضحل، يهدف إلى الربح كغاية أولى، ويهدر القيمة المجردة.

وتتجلى مظاهر هذا "النفض" وهذا "التسليع" في الكثير من سياسات الوزارة وأبجدياتها الأخرى، ومنها إدارة معرض القاهرة الدولي للكتاب نفسه، على سبيل المثال. فالمعرض القاهري العريق، الذي أضيفت إلى برمجياته مؤخراً ماكينات فيزا تقسيط الكتب، لم يعد معرض البرنامج الثقافي الزاخم والحافل بالأنشطة الفكرية والإبداعية الحرّة والندوات المتعمقة الدسمة وقراءة الكتب ومناقشتها، وتالياً الحضّ على اقتنائها، وإنما صار المعرض الحالي في مكانه النائي بالقرب من تجمعات الأثرياء شرق القاهرة، ملتقى سياحيّاً ترفيهيّاً يشبه المولات التجارية، حيث يقصده في المقام الأول رواد مطاعم السوشي والمأكولات الأجنبية الغالية والكافيهات مرتفعة الأسعار والراغبون في الترفيه والتشمّس والتنزه العائلي وألعاب الأطفال.

ورحلة الذهاب إلى المعرض البعيد، وقضاء يوم كامل هناك، وتحمّل نفقاته، هي بحد ذاتها أمور مكلفة ماديّاً بالنسبة للطبقات المتوسطة والدنيا من أغلبية الشعب، فهل سيغريهم هذا "التقسيط" بالإقبال على شراء الكتب بأسعار تفوق إمكاناتهم وتصوراتهم، أم ستبقى الأزمة على حالها؟!


إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image