شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
ليس خيالاً؛ إنه من أجمل أقدار المدن وأهلها... عالم الكتب المستعملة

ليس خيالاً؛ إنه من أجمل أقدار المدن وأهلها... عالم الكتب المستعملة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

السبت 15 يوليو 202302:28 م

رسمت مخيلتي عالم الكتب المستعملة؛ طرقاته الضيقة، أرصفته العتيقة، أصوات الباعة وأجسادهم النحيلة ووجوههم الذابلة وذلك الغبار المتطاير بعد أن نفضته يد متعبة، كأنها يد الزمن، لتكشف عن تلك الحروف المنسية.

لا أخفي أنني تمنيت لمرات لو كان بيتي إلى جانب سور الأزبكية في القاهرة، أو شارع المتنبي في بغداد، أو تحت جسر الرئيس في دمشق، وأن ألجأ إليها كملاذ سرّي كلما أردت الحصول على كتب ومخطوطات نادرة. احتضنت مخيلتي تلك الأماكن في مدينة واحدة، أطلقت عليها مدينة الكتب المستعملة والقديمة.

سوق الكتب المستعملة

في الحقيقة، علاقتي بالكتب هي علاقة موسمية ترتبط بالمعارض غالباً، وأتساءل لماذا لا تدوم معارض الكتب طوال العام؟ وهل بقية مدننا المتطورة تُعدّ نائيةً لأنها تخلو من محال الكتب المستعملة؟ وهل يعي أهالي البلاد التي تضم ذلك الكمَّ الهائل من الكتب التي تنتمي إلى أزمنة مختلفة يُقدَّر عمرها بمئات بل بآلاف السنين، بأن لديهم ثروةً لا تُقدَّر بثمن، وأن هناك من يحسدهم على ذلك الورق الأصفر العتيق؟

 تمنيت لمرات لو كان بيتي إلى جانب سور الأزبكية في القاهرة، أو شارع المتنبي في بغداد، أو تحت جسر الرئيس في دمشق، وأن ألجأ إليها كملاذ سرّي كلما أردت الحصول على كتب ومخطوطات نادرة

بالتأكيد لا يخلو الأمر من بعض المحاولات على الأرض في بعض المقاهي لتبادل الكتب، إلا أنها لم تلقَ رواجاً، ولكن من خلال السوشال ميديا كان هناك تأثير أشدّ ورواج أكبر، فهناك بعض الحسابات القائمة على فكرة شراء الكتب المستعملة أو تبادلها، لكن أسعارها ما زالت تساوي سعر الكتاب الجديد، وهو أيضاً ما يعاني منه القرّاء خلال شراء وشحن الكتب الورقية عبر الإنترنت عموماً.

ربما لهذا يلجأ الكثير منهم إلى الكتب الإلكترونية لسهولة الحصول عليها، فهي مجانية أو بسعر رمزي، لكني بقيت كلما أُعجبت بنسخة إلكترونية لكتاب أسعى إلى الحصول على النسخة الورقية منه، ليصبح ضمن مكتبتي. فبرغم تطور التكنولوجيا، إلا أنها خائنة، ويمكن أن تختفي مكتبة كاملة بكبسة زر.

سوريا

يحكي الصديق والكاتب السوري شاهر جوهر، المقيم في ألمانيا، عن معاناته من عدم وجود مكتبات أو كتب عربية حيث يعيش، كما أن تكاليف شراء الكتب عبر المواقع الشهيرة على الإنترنت أصبحت ضعف السعر الأصلي مرتين، بالإضافة إلى أنها لا توفر الكتب كافة. يتقاطع ما يمرّ به في مدينته الألمانية المتطورة، مع ما كان يمر به في قريته النائية في جنوب سوريا التي يصفها بالمنقطعة عن الحياة، ولم يكن يوجد فيها محل واحد لبيع الكتب.

سوق الكتب المستعملة

يتذكر جوهر، منظره وهو يرعى الأبقار، وكيف كان يخبّئ كتابه عن المارة خشية أن يستمع إلى أي تعليق سلبي لحمله كتاباً، والسبب برأيه أنه يُنظر في الريف إلى الرجل القارئ على أنه شخص ضعيف، وأن القراءة بلا نفع في مكان يصارع فيه الريفي لانتزاع لقمة عيشه.

ويضيف: "من الصعب جداً أن تجد قريةً مهتمة بالكتب. سألني شاب في القرية عن سعر كتاب وأجبته. صمت قليلاً ثم قال: بسعر هذا الكتاب كم "طوبة" يمكنك أن تشتري؟".

علاقة جوهر الحقيقية مع الكتب بدأت في دمشق حين التحق بالجامعة. ربطته معرفة مع الراحل "أبو طلال"، أكرم كلثوم، أشهر بائع كتب على رصيف سور التكية السليمانية. يقول: أذكر أول مرة جئت فيها إليه وسألته عن كتب لجبران خليل جبران. قال لي: "لساتك بمرحلة جبران؟". منذ حينها راودني شعور بالتقصير في معرفة الكتب.

مثقفون جداً وفقراء جداً؛ هكذا يصف جوهر بائعي الكتب، مضيفاً أنهم ينافسون الكثير من مشاهير الثقافة بكم المعرفة الذي يمتلكونه. أحدهم وكان شاعراً مغموراً، قال لي: "اتعب على حالك"، وأخذ من بين أكوام الكتب كتاباً من دون غلاف، ممزقاً ومهترئاً، كانت فيه قصيدة منشورة باسمه.

يقول: "ذات مرة كنت أبحث عن مراجع لمشروع تخرّجي في العلوم السياسية، وكان المشروع عن الحركة الحزبية السورية. توجهت نحو بائع كتب ومجلات مسنّ لا أعرف اسمه، كنت أناديه بـ'يا عم أو يا خال'. سألته عن المرجع وأجابني بطريقة أذهلتني وهو يقول: ستجد طلبك في مجلة 'أبيض وأسود' العدد '91'. 'فيها دراسة حزبية بتفيدك'. تعجبت من حفظه اسم المجلة والعدد وتاريخ إصدارها".

يرى آزاد داود، أن العمل في بيع الكتب سوسة نادراً ما يستطيع المرء أن يتخلص منها ويتركها. ويردد: "لا أبالغ إن قلت إن الارتباط برائحة الكتب القديمة والمخطوطات تجعلك تدمن عليها وعلى العمل فيها".

"لا أبالغ إن قلت إن الارتباط برائحة الكتب القديمة والمخطوطات تجعلك تدمن عليها وعلى العمل فيها".

تبدأ حكاية آزاد، في العام 2003، عندما انتقل من مدينة المالكية أو كما يطلق عليها بالكردية "ديريك"، في أقصى شمال الشرق السوري، إلى مدينة دمشق لدراسة الرياضيات، وفي سنته الجامعية الثانية، وبسبب تردّي الأوضاع المادية، قرر أن يفترش الأرض ويبيع الكتب على بسطة في سور التكية السليمانية. يقول: "كان والدي يمتلك مكتبةً كبيرةً فتحت عينيّ على الكتب التي تضمّها، وعندما ساءت الظروف فكرت في أن آخذ بعضاً من كتب المكتبة وأبيعها على بسطة في الشام".

يتذكر داود، أحد روّاد بسطته الذي أصبح صديقه لاحقاً. كان شاباً خريج أدب فرنسي، وكانا يتبادلان الحديث عن الكتب النادرة ويبحثان عنها. يقول: "حفّزته من حيث لا أدري على المهنة، وهو اليوم في إقليم كردستان العراق يدرّس الطلبة الفرنسية ولديه مكتبة مميزة ويُعدّ من أهم باعة الكتب النادرة في العراق".

كان لدمشق الأثر الأكبر في حياة آزاد داود، وبرغم ابتعاده عنها لقرابة عقد من الزمان، إلا أنها، كما يصفها، المدينة الأكثر تأثيراً في تكوين شخصيته وقد غيّرت مسيرة حياته. يقول: "أجمل حلم راودني كنت فيه في دمشق استقلّ سيارة أجرة لتأخذني إلى ساحة الأمويين، ثم أنزل إلى جسر الرئيس باحثاً عن القصر الحميدي الذي كان مقابلاً للبسطة التي كنت أبيع فيها الكتب. مررت من خلف المتحف الوطني ووجدتني أمام مكاني العتيق الخالي أحضن الحائط وأبكي".

في العام 2016، افتتح آزاد مكتبةً وبعدها بأربع سنوات قام بتوسيعها لتصير "مقهى كتب" يضمّ عدداً كبيراً من الكتب في مدينته ديريك/ المالكية. يقول: "ما زلت أعمل على بيع الكتب النادرة برغم أن سوقها في منطقتنا ضعيف".

وعن الفروقات بين أن تكون بائعاً بسيطاً على بسطة، وبين أن تكون صاحب مكتبة، يجيب قائلاً: "عندما كنت أعمل على بسطة كانت كمية الكتب المعروضة للبيع أقل بكثير، كما أن هناك مضايقات دائمةً من البلدية ومصادرةً لبعض الكتب، كذلك لا يخلو الأمر من تقلبات الطقس والمناخ، فالرياح والأمطار كانت تؤثر على عملنا وعلى جودة الكتب ومع ذلك كله كانت لتلك الأيام نكهة أحنّ إليها".

العراق

في بغداد، وإلى جانب ضفاف نهر دجلة الخالد، نجد آلافاً من الكتب في سوق السراي (سوق الوراقين) في شارع المتنبي الذي يمتد عمره إلى ألف عام.

تحيط بالسوق رموز تراثية، كالمدرسة المستنصرية التي بناها الخليفة العباسي المستنصر بالله، ومبنى وبرج القشلة الذي شُيّد من أحجار سور بغداد الشرقي القديم، وساعته الأثرية، وجامع الوزير والدفتر خانه، وجامع الحيدر خانه، والمدرسة النظامية والمتحف البغدادي، والمقاهي القديمة والصالونات الأدبية والمطابع.

مرت بغداد بالعديد من الحروب والأهوال، التي سُرقت فيها الكتب والمخطوطات، وأُحرقت وأُغرقت، كما يقال إن المغول رموا بها في نهر دجلة حتى تحوّل لونه إلى لون الحبر. وبرغم التشكيك في حقيقة هذه الرواية، إلا أنها ذات دلالة على أهمية مكتبة بغداد وأضرار الخراب الذي حل بها مراراً.

سوق الكتب المستعملة

في العام 2007، فُجّرت سيارة مفخخة في شارع المتنبي المزدحم، ليختلط حبر الكتب مع دماء المارة وقاصدي المكان للبحث عن النوادر، فعانقت أرواحهم الكتب والمخطوطات. هزّت تلك الحادثة الرسامة والفنانة التشكيلية العراقية المقيمة في كندا، أفانين كبة، فخلّدت الحادثة في لوحة رسمتها وأطلقت عليها اسم "بصمات"، التي تصفها بصرخة حضارة وادي الرافدين، صرخة الأدباء والشعراء والعلماء والمثقفين. تقول أفانين: "سمّيتها بصمات لأنها تحمل بصمات كل أطياف العراقيين باختلاف معتقداتهم وانتماءاتهم".

تحكي لرصيف22، قائلةً: "تركت العراق في 1980، في بداية شبابي ونضوجي، ولم أعد إليه إلى الآن ولو للزيارة، لكن المرحوم والدي كان عنده الولع بالتنقيب عن الكتب والوثائق النادرة من شارع المتنبي، ويبدو أنني ورثت هذه الصفة عنه في اقتناء الكتب والبحث عن النادر منها".

وتضيف: "معظم كتبي اشتريها من مكتبة الشرق الأوسط في مونتريال، فأنا من زبائنها المدمنين على شراء الكتب منذ أكثر من ثلاثة عقود، وعادةً أُكلّفهم بطلب ما أبحث عنه من كتب، وهم حريصون على تقديم خدمات توفير الكتب. أيضاً أضيف أنني حصلت من موقع أمازون الكندي على كتب قديمة نادرة باللغة الإنكليزية عن العراق. أما هنا في مونتريال، فأذهب لشراء الكتب القديمة لأنني أجد فيها روح أصحابها القدامى، وأحياناً أجد أنهم تركوا بعضاً من بصماتهم عليها، كذلك أذهب سنوياً إلى المكتبات العامة في أثناء إعلانها عن بيع الكتب المستعملة بأسعار رمزية وقد أجد بينها بعض الكتب باللغة العربية لأنها كلها تبرّع من الأهالي".

مصر

ينتمي الكاتب أحمد سعيد المصري، إلى حي الحسين، ما جعله قريباً من عالم الكتب المستعملة والنادرة، حيث يعرف ويحفظ باعتها وروّادها. يقول لرصيف22: "كان ميدان الحسين والأزهر والباطنية يزخر بالكتب القديمة، وكانت في متناول الجميع حيث تتكاثر -في سبعينيات القرن الماضي- المكاتب الزاخرة بكتب التراث والأوراد والتصوف والروايات فوق درجات الطريق المؤدي إلى المشهد الحسيني ومشهد أم الغلام، وحوله، والكتب المستعملة النادرة رخيصة الثمن والتي كانت طريقاً إلى المعرفة لأبناء الأحياء الشعبية وأبناء القرى الذين يشهدون موالد آل البيت والأولياء الزاخر بهم الحي".

سوق الكتب المستعملة

ويضيف: "كانت تلك المكتبات والكتب مصدراً للمعرفة، وكان أغلب روّادها من طلبة الأزهر الوافدين حيث رواق المغاربة ورواق السودان ورواق دارفور الآسيوية، لشراء الكتب المقررة والأعمال المترجمة الأدبية، مثل ترجمات الشيخ المنفلوطي وكتب جرجي زيدان".

عالم الكتب المستعملة ليس خيالاً، فهو أحد أجمل أقدار تلك المدن وأهلها. وإن كان الباعة والمبتاعون في غالبيتهم من الفقراء، فهم أغنياء بما يمتلكون من معرفة، وما أجمل أن يكون الفقير مثقفاً

يتذكر المصري، الذي ربطته معرفة وصداقة بنجيب محفوظ، انتظار أديب "نوبل" الباعة على مقهى الفيشاوي حيث كان يعتاد على الجلوس، وله صورة شهيرة في أثناء ذلك، ويرى أن حال بائعي الكتب اختلف عن السابق وأن ثقافتهم تتفاوت، كما أن العديد منهم هجروا الكتب واتجهوا نحو ما يجعلهم يكسبون مادياً أكثر. يقول: "لم تبقَ سوى مكتبة دار الهلال التي تبيع كتب الهلال فقط، ومكتبة هيئة الكتاب في شارع عز العرب، وجزء آخر في ممر جوار مترو العتبة وغيّر معظم باعة الكتب نشاطهم إلى الملابس الشعبية والإكسسوارات".

ويتابع: "كان السور يحيط بجنينة الأزبكية النادرة، وتتقاطع معه البارات والكباريهات والكازينوهات. أما سور السيدة فحديث، وقد انتقلوا بعدما تم تفكيك سور الأزبكية إلى شارع مارسينا بجوار المشهد الزينبي، ثم إلى منطقة أبي الريش في حي تل العقارب سابقاً وروضه السيدة حالياً، وأغلبهم الآن يتاجرون بالكتب المدرسية فقط والجامعية ومجلات الأزياء وكتب الطبخ وبالطبع الكتب الدينية، والروايات تتراجع وكذلك باعة الروايات والأعمال الأدبية على طاولة صغيرة بعيداً عن كتب المناهج المقررة والقديمة".

عالم الكتب المستعملة ليس خيالاً، فهو أحد أجمل أقدار تلك المدن وأهلها. وإن كان الباعة والمبتاعون في غالبيتهم من الفقراء، فهم أغنياء بما يمتلكون من معرفة، وما أجمل أن يكون الفقير مثقفاً، وما أخطر أن يكون جاهلاً، وكما يقال: أحبّ الفقراء وأكره الفقر.


* الصورة الرئيسية لوحة للفنانة أفانين كبة. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image