عندما كنا صغاراً، كان جيراننا في ذات البناء، "عكّاويين" من فلسطين. كانا زوجين لطيفين جداً، يقطنان في الكويت، ويقضيان فصل الصيف هنا في دمشق، وكان أهلي يحبونهما كثيراً. علمت مع الأيام بأن السيدة، أم أسامة، من عائلة كنفاني، وأنها ذات نظر ضعيف وأصابع مقطوعة في قدميها، بسبب ارتفاع مفاجئ في سكر الدم أصابها إثر حزنها الشديد عندما توفي أخوها، غسان كنفاني، مع ابنتها لميس، في تفجير سيارة في بيروت عام 1972. كانت لطيفة جداً، وتهدينا كل مرّة نزورها فيها أصابع لذيذة من الشوكولا، وأيضاً قصصاً قصيرة من تأليف أخيها غسان.
كانت أم أسامة وأبو أسامة، واللذان توقفا قبل سنوات طويلة عن المجيء إلى دمشق ثم توفيا في الكويت، هما مدخلي لبداية معرفتي بقضية اسمها "فلسطين". كنت أحبّ على الأخص قصة "القنديل الصغير" لغسان، وفيها يطلب الملك من ابنته حمل الشمس إلى القصر، وتعلم أنها لخوض هذا التحدي عليها أن تهدم أسوار القصر، وتعتمد على عموم الناس والطبقات المهمّشة ليحملوا لها نور قناديلهم، فيدخلوا ومعهم الضوء الذي سيبدو وكأنه الشمس فعلاً.
أعتقد بأن لكلٍّ منّا، نحن السوريين، مدخلاً خاصاً به/ا نحو القضية الفلسطينية التي نرتبط بها ارتباطاً لا أعرف على الأغلب كيف أفسّره، لكنه لا يحتاج لكثير من النقاش أو السؤال عند الحديث عنه. لكل منا حكاية، أصدقاء، ذكريات، والكثير من التفاصيل التي أعود اليوم لأراها بوضوح
بشكل مشابه، أعتقد بأن لكلٍّ منّا، نحن السوريين، مدخلاً خاصاً به/ا نحو القضية الفلسطينية التي نرتبط بها ارتباطاً لا أعرف على الأغلب كيف أفسّره، لكنه لا يحتاج لكثير من النقاش أو السؤال عند الحديث عنه. لكل منا حكاية، أصدقاء، ذكريات، والكثير من التفاصيل التي أعود اليوم لأراها بوضوح، وقد دخلت المعارك والأحداث الدموية في غزة، وعموم فلسطين، أسبوعها الثالث بعد عملية "طوفان الأقصى".
بعيداً عن الشعارات وحملات التضامن الهائلة عبر مواقع التواصل الاجتماعي من أغلب من هم حولي، يخيّم علينا اليوم في دمشق حزن ثقيل ممزوج بالعجز، وقدرة مكبّلة على الفعل، وسط مشهد معقد للغاية، في سوريا نفسها وفي عموم المنطقة.
أسير مع بعض الأصدقاء وسط عتمة تلف شوارع المدينة، من شرقها إلى غربها، مع ساعات الانقطاع الطويلة للكهرباء، وألمح محطات وقود تصطف عليها عشرات السيارات بانتظار دورها لتملأ خزاناتها الفارغة. نمرّ بجانب لوحة إعلانية سوداء كتب عليها "حداد... شهداء مستشفى المعمداني بقطاع غزة"، وهي نفسها كانت تعلن الحداد قبل أسبوع على "شهداء الكلية الحربية في حمص"، والأعلام التي نُكّست حينها عادت لتُنكّس مرة أخرى، كأننا في عزاء طويل يأبى أن ينتهي، لكنه عزاء مشروط بأن يموت منّا المئات دفعة واحدة، وإلا فإن الموت يكون خبراً عابراً، عادياً.
أفكّر: "ما الذي يمكننا القيام به وسط كل هذا الجنون؟ ما الذي نريد أو نستطيع حقاً قوله من بلد منهك بعد اثني عشر عاماً مستمراً من الحرب الطاحنة، وبالكاد بات قادراً على احتضان أبنائه؟". لا إجابة.
يحفّزنا هذا الموت الجماعي لأن نجتمع وسط دمشق، شبان وشابات يوحدهم الشعور بالغضب، والخذلان. تنطلق هتافات منددة بالاحتلال والقصف اليومي، والتخاذل العربي، والصمت العالمي، ومتحالفة مع غزة والأقصى. تقول لي صديقة بجانبي: "لكني اليوم لا أخرج فقط لأجل غزة، فأنا حزينة أيضاً على الموت المستمر في سوريا دون توقف".
في اليوم التالي نجتمع في مخيم اليرموك جنوب دمشق، والذي كان شاهداً على واحد من أعنف فصول القتال بين القوات الحكومية وقوات المعارضة خلال سنوات الحرب، بعد أن كان أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في سوريا، ونقطة تجمع حيوية، يسكنها فلسطينيون وسوريون على مدار عقود. ألتقي بنساء وأطفال جاؤوا من خارج المخيم، وآخرين ممن بقي من السكان ولم ينزح بعيداً، أو عاد مؤخراً ليعيش في منزل نصف مدمّر، دون سقف أو نوافذ أو أبواب على الأغلب. أفكّر: "منكوبون جاؤوا بعفوية للتضامن مع منكوبين في بلد آخر في بقعة منكوبة بأكملها". مجدداً، لا شعور سوى الغضب المتراكم، والذي لا أعرف ماذا سنفعل به حقاً.
في مساء اليوم السابع عشر "للإبادة"، نجتمع، شباناً وشابات وكباراً وصغاراً، نصمت ونشعل بعض الشموع، قد يقول البعض: "الميت ما بيشيل ميّت"، لكني أحب أن أفكر بأننا ما زلنا قادرين على أن "نشيل" بعضنا، وأن نرسل بعض القناديل الصغيرة من دمشق، لعلها تضيء عتمةً ما هناك في فلسطين
تصلنا رسالة من صديقتنا الفلسطينية التي تقيم عائلتها في دمشق منذ نكبة الـ48، بأنها ستعدّ لنا طبقاً غزّاوياً هو "البيصارة"، من الفول والملوخية والثوم والبصل، وتدعونا كي نجتمع ونصلّي لغزة وأهلها. الاجتماع مع الأصدقاء وتبادل الحزن والعزاء والعناق والأحاديث عن فلسطين، هو أفضل ما نستطيع القيام به في هذه الأيام الحالكة. تحدّثنا عن خروج عائلتهم من صفد في عام النكبة، ومرورهم عند أقربائهم الذين كانوا يعيشون في الجولان، ثم وصولهم إلى دمشق. عام النكسة، جاء أولئك الأقرباء بدورهم من الجولان ليستقروا في دمشق إثر تهجيرهم، وعند لجوئهم المؤقت لمنزل العائلة، أخبروهم وهم يضحكون: "اجينا نردلكم زيارة التمان وأربعين". لا أدري كيف نجد مكاناً للسخرية والتهكم وسط كل هذه النكبات المستمرة.
تخبرني صديقة فلسطينية أخرى كانت وعائلتها من سكّان مخيم اليرموك قبل أن يضطروا لمغادرته عام 2012، بأن والدتها تجلس طوال الوقت لمشاهدة أخبار "من بقي من أهلها" في فلسطين، وتضيف بسخرية مؤلمة: "الحمدلله بتقطع الكهربا، وإلا ما كانت نامت وهي قاعدة عالتلفزيون!".
في مساء اليوم السابع عشر "للإبادة"، نجتمع، شباناً وشابات وكباراً وصغاراً، نصمت ونشعل بعض الشموع، ووسط الصمت أسمع صوت بكاء مخنوق. قد يقول البعض: "الميت ما بيشيل ميّت"، لكني أحب أن أفكر بأننا ما زلنا قادرين على أن "نشيل" بعضنا، وأن نرسل بعض القناديل الصغيرة من دمشق، لعلها تضيء عتمةً ما هناك في فلسطين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...