شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
صحافية خارج حدود غزة ولكن الدماء على شاشة هاتفي

صحافية خارج حدود غزة ولكن الدماء على شاشة هاتفي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء نحن والفئات المهمشة

الاثنين 23 أكتوبر 202303:33 م

 أغلقت فيسبوك، وقرّرت الهروب بعد عودتي من المستشفى، ولكن أين المفر؟ صور الضحايا ولقطات الفيديو تملأ كل المنصات، هذا طفل عيناه خضراء اللون يبكي بدون أم، وهذه طفلة فقدت ألعابها، وهذه فتاة تجلس على الأرض تنتظر ما سيأتي، انستغرام وتويتر وغيرهم في كل مكان، تنتشر العيون التي لا ترانا ولكن نراهم ونشعر في نظراتهم بسهام الخذلان تقصفنا مع قصف في غزة.

منذ بداية القصف الإسرائيلي على قطاع غزة، جعلتني دوامة الأخبار لا أرى شيئاً يومياً غير الدماء والصور المفجعة. حاولت السيطرة ووضع تركيزي فقط وقت العمل المقرر، 8 ساعات، ولكن لم أستطع وأصبحت لحظات المتابعة يصحبها حبس للأنفاس، وقلق وتوتر، وكل لحظة تمر مع خبر جديد حول الهجوم البرّي للقوات الإسرائيلية يصيبني بالإعياء والتقلصات في معدتي، وبدأت أفقد شهيتي نحو الطعام وانهالت عشرات الأسئلة التي ليس لها إجابات.

أين المفر... الدماء في كل مكان؟

في إحدى الأيام، بعد استمرار حالة المتابعة التي فقدت السيطرة عليها، أصابتني نوبة هلع شديدة جعلت أعصابي تتهشّم ولا أشعر بأطرافي. تحاملت على نفسي وذهبت إلى المستشفى القريبة من المنزل، وعدت وأنا أقسم أنني سوف أمنع نفسي بالتأكيد ولن أظل مسمّرة أمام شاشة الهاتف كل هذه الساعات، ما أفعله لن يساعدهم بالتأكيد. وتضخّمت الجملة في عقلي: "المساعدة". هل في يدي مساعدة أستطيع تقديمها؟

ما نحن فيه من سيولة إعلامية تجعلنا داخل الحدث مباشرة على هواتفنا في أي وقت، تشبه الانحدار على الجليد، يمكن أن نفقد السيطرة ونسقط، ولكن سلامتنا في هذه اللحظة في سرعتنا وقدرتنا على التجاوز سريعاً

لا أعلم حقاً، ولكني في نفس الوقت لا أستطيع الابتعاد تماماً. إني أعمل صحفية ووظيفتي هي المتابعة والتغطية. أنا لست على الحدود ولا أغطي من قلب غزة، ولكن سيل الصور ومقاطع الفيديو تجعلنا داخل الحدث، مهما حاولنا السيطرة.

تذكرت مقولة رالف والدو إمرسون: "التزلج على جليد عائم يعني سلامتنا في سرعتنا"، فما نحن فيه من سيولة إعلامية تجعلنا داخل الحدث مباشرة على هواتفنا في أي وقت، تشبه الانحدار على الجليد، يمكن أن نفقد السيطرة ونسقط، ولكن سلامتنا في هذه اللحظة في سرعتنا وقدرتنا على التجاوز سريعاً، scroll سريع على منصات التواصل دون التوقف أو التعمق، ولكن هل كل القضايا يمكن أن نتخطاها سريعاً؟ أعتقد أن ذلك في غاية الصعوبة، وهو فخ آخر للأفكار التي لا تنتهي.

وبدأ سؤال آخر يتضخم: أين المفر؟ وهل يجب أن يكون هناك مفر؟ إذا نجحت في الانفصال عن الواقع والابتعاد، هل ذلك إنساني؟ هل هذه المتابعة والمشاركة تساعد أم أنها هباء وحرق لأعصابنا فقط؟

عشرات الأسئلة لا تتوقف، كل سؤال يؤول إلى الآخر، في سلسلة معقدة من الانحناءات، تبدو من بعيد كحفرة عميقة تشبه حفر الاكتئاب، تجذبك للأسفل فلا ترى شيئاً سوى الظلام.

في الظلام، فتيات لا أعرفهُن يستغثن

خلال حالة الهيستيريا التي قادتني لحالة نفسية سيئة، كنت أحاول تصور وضع الفتيات والنساء في هذه الحالة الصعبة التي يمر بها سكان غزة. جميعنا يعلم أن أي دائرة عنف تكون قاسية على الجميع وساحقة على الأطراف الأضعف، والنساء في منظومات حياتنا الاجتماعية هم الحلقة الأضعف، لذلك شغلني التفكير في هؤلاء، كيف يعيشن وكيف يتعاملن مع حياتهن الخاصة واحتياجاتهن الشخصية، كالفوط الصحية، في ظل هذه الأوضاع المزرية؟ أعلم أن رائحة الموت في كل مكان، والموتى في ثلاجات المثلجات بدلاً من الحلوى، وكل الأوضاع قلبت رأساً على عقب، ولكن أيضاً لم أستطع تنحية عقلي من التفكير في الفتيات تحديداً، ماذا يفعلن وهن يعشن داخل مدارس ومستشفيات ويفترشن أماكن عامة مع عائلتهن؟

أعلم أن رائحة الموت في كل مكان، والموتى في ثلاجات المثلجات بدلاً من الحلوى، وكل الأوضاع قلبت رأساً على عقب، ولكن أيضاً لم أستطع تنحية عقلي من التفكير في الفتيات تحديداً، ماذا يفعلن وهن يعشن داخل مدارس ومستشفيات ويفترشن أماكن عامة مع عائلتهن؟

وأثناء الانغماس في دائرة من الأفكار التي لا نهاية لها عن وضع الفتيات، أستمرّ في العمل وكتابة التقارير الصحفية التي أكلف بها، ليصادفني خبر عن النساء الحوامل على شبكة CNN، جاء فيه: "أما عن النساء الحوامل، فهن في حالة ذعر شديدة، حيث تشير تقديرات صندوق الأمم المتحدة للسكان إلى أن نحو 50 ألف امرأة حامل في غزة، من المتوقع أن تلد 10% منهن خلال الشهر المقبل، وقال دومينيك ألين، ممثل صندوق الأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية، إن هؤلاء النساء يواجهن كابوساً مزدوجاً بعد أسبوع مروّع من الغارات الجوية الإسرائيلية"، وحاولت تخيّل كيف يكون وضع هؤلاء وظروفهن الصحية والبيئة التي سوف يضعن فيها أطفالهن. لم يستطع عقلي التحمل وعدت للبكاء مرة أخرى.

وهكذا، منذ بداية القصف الإسرائيلي والأسئلة لا تتوقف عن الزحف نحو عقلي، حتى اتهمت نفسي بعدم الاتزان في لحظة ما. أفكر في الفوط الصحية والناس لا تجد الماء والطعام، ولكن أعود وأقرأ تصريحات الأمم المتحدة أن "ما يقرب من 493 ألف امرأة وفتاة تم تهجيرهن من منازلهن في غزة"، وأفكّر كيف يتحرّكن، وأين تقيم الفتيات، وماذا سيفعلن عندما تأتي مواعيد دورتهن الشهرية؟ هل يوجد مكان صحي أو آمن لهن؟ بالتأكيد لا، فالأخبار والصور تقول إنه لا مكان آمن في غزة، وأغلب الأماكن تتكدّس فيها جثث الضحايا والجرحى.

حاولت الهروب مرة أخرى والاندماج في بعض السهرات مع الأصدقاء، ولكن في كل لحظة تمرّ أجد نفسي أشعر وكأني ارتكب فعلاً خاطئاً، وألوم نفسي، فقد جعلتني الأخبار التي تحيطني من كل جانب أشعر بالذنب أنني سعيدة وهناك آلاف يتألمون، وفتيات غيري لا أعلم كيف يتحمّلن الأوضاع، مجرد التخيّل يصيب عقلي بالشلل.

تشير تقديرات صندوق الأمم المتحدة للسكان إلى أن نحو 50 ألف امرأة حامل في غزة، من المتوقع أن تلد 10% منهن خلال الشهر المقبل. كيف ستعيش الأمهات الجديدات مع أطفالهن حديثي الولادة؟

دوامة الأسئلة واللايقين

بعد ما يزيد عن 10 أيام متواصلة قصف وتدمير وقتل للفلسطينيين في غزة، دون مقدرة على إدخال المساعدات الإنسانية حتى، وقصفت مستشفى ومدارس بها آلاف النازحين من المنازل، لا صوت من الأصوات الرسمية الغربية والأمريكية يدعو لوقف جدي لإطلاق النار، أو هدنة من هذا الوابل من الصواريخ التي لا تتوقف.

ورغم أنني لم أتواجد في قلب الحدث لتغطية ما يجري في غزة، ورغم المسافة، إلا أنني أشعر بالحزن يمزق قلبي، وأسقط في هوة سحيقة من الأسئلة التي لا تتوقف، عن المبادئ الكبرى التي تحطمت، واليأس الذي يصاحب تصوراتنا عما قد يحدث في المستقبل، وكيف سوف ينتهي هذا القدر الهائل من الظلم، وأعتقد أن هذا القدر من المعاناة المشتركة التي أصبحنا نعيشها جميعاً في نفس اللحظة الزمنية، تكونت بسبب منصات التواصل الاجتماعي التي خلقت حالة من السيولة الإخبارية الشديدة، وهي جزء من الحياة السائلة عامة التي نعيشها، حيث لا تتوقف السيولة عند الحركة ووسائل الاتصال، بل سيولة المعاني، فالمُسلّمات والمقدسات، بالمعنى الواسع، تتضاءل، ما يجعل الحياة مليئة بالمخاوف.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image