تعلن إشراقة السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول المعاش عما كان مفترضاً ألا يحدث على الإطلاق؛ إذ في تمام السابعة مساء، استيقظ العالم على نبأ رهيب، فالمستشفى الأهلي العربي والواقع في حي الزيتون جنوب غزة، والذي سيعرف إعلامياً وتاريخياً منذ تلك اللحظة بـ "المعمداني"؛ تم استهدافه بمقاتلة إسرائيلية ألقت حمولتها فوقه كهدف عسكري، ثم طارت في السحاب، مخلفة ورائها أكثر من ألف شهيد، معظمهم من النساء والأطفال، اتخذوا من المبنى، والذي تديره الأسقفية الأنجليكانية بالقدس، ملجأ لهم بعد تعرّض منازلهم للدمار أو خطر الاستهداف عما قريب.
الحادث المروع والذي لاقى ردود فعل إقليمية ودولية متباينة، تنوّعت بين الغضب والإدانة والاستنكار؛ تبرّأت منه قيادة الجيش الإسرائيلي منذ اللحظة الأولى لوقوعه، عبر رئيس أركانها، ومن بعده المتحدث العسكري للجمهور العربي، أفيخاي أدرعي، متهمين كتائب القسام، الذراع العسكري لحركة حماس، بأنها هي من تقف وراءه، عبر إطلاقها رشقة صواريخ تجاه تل أبيب، أخطأ أحدها الهدف وسقط بمحيط مستشفى المعمداني، مخلفاً كل هذا الكمّ من القتلى والجرحى والمصابين.
التاريخ والسوابق العسكرية في استهداف منشآت مدنية وإنسانية، كالمدارس والمستشفيات، لا تنصف أبداً ادعاء الجيش الإسرائيلي الأخير، أوليس هو من قصف في صبيحة الثامن من أبريل/نيسان في العام 1970، مدرسة ابتدائية في "بحر البقر"، وقتل ما يزيد عن 30 طفلاً؟
الرواية الإسرائيلية والتي تفتقد أدنى مسببات الدلالة بداخلها؛ كان من الممكن تصديقها وابتلاعها سياسياً وإعلامياً، رغم أن المتابع للأحداث في ميدان التصعيد العسكري بين حماس وإسرائيل طيلة الستين عاماً الماضية، يعلم جيداً أن كتائب القسام، رغم تطور منظومتها العسكرية والهندسية والتكنولوجية يوماً بعد يوم، وهو ما تجسّد على أرض الواقع في عملية "طوفان الأقصى"، لا تمتلك صواريخ ذات قدرة تدميرية عالية يمكنها أن تخلف كل هذا الدمار الذي حدث بالمشفى المعمداني، والدليل أن هذه الفصائل أطلقت آلاف الصواريخ منذ يوم 7 أكتوبر المنصرم، أفلت معظمها من منظومة القبة الحديدية وسقط داخل الأراضي الإسرائيلية، ولم تحدث مثل هذه الخسائر، سواء في الأرواح أو المنشآت.
غير أن التاريخ والسوابق العسكرية في استهداف منشآت مدنية وإنسانية ذات صبغة أخلاقية، كالمدارس والمستشفيات، لا تنصف أبداً ادعاء الجيش الإسرائيلي الأخير.
أوليس هو من قصف في صبيحة الثامن من نيسان/ أبريل في العام 1970، مدرسة ابتدائية بمركز الحسينية بمحافظة الشرقية، وقتل ما يزيد عن 30 طفلاً، فيما سيعرف لاحقاً وسيظل مرتبطاً بالأذهان المصرية للأبد بمجزرة "بحر البقر"، ثم خرجت بعدها وزارة الدفاع الإسرائيلية وقالت إنها كانت لا تقصد صرب مدرسة أطفال، بل إن المعلومات الاستخباراتية أكدت أن هذا المبنى هو منشأة عسكرية يستخدمها الجيش المصري لتنفيذ عمليات فدائية ضد القوات الإسرائيلية المتواجدة غرب القناة.
فهل عندما قصفت إسرائيل مدرسة "بحر البقر" كانت لا تعلم أنها مدرسة، برغم أن كل شيء حولها كان يوحي أنها مدرسة؛ الأطفال وساري العلم وطابور الصباح؟
هكذا إسرائيل في الحروب، تقتل الأطفال لتزرع بداخل الجيل الجديد الخوف والقلق والعجز وشيء من تأرجح اليقين.
استهداف المدنيين كحل عسكري
"كرامة الجيش الإسرائيلي تمنعه من طلب الهدنة من الأعداء، عليه أن يفرضها هو مهما اقتضى الأمر لذلك"؛ مناحم بيجن- رئيس وزراء إسرائيل الأسبق.
في الثامن من نيسا/ أبريل 1970، ألقت الطائرات الإسرائيلية حمولة تزن 1000 رطل من المتفجرات، فوق مدرسة ابتدائية مصرية، راح ضحيتها أكثر من 30 طفل لا تزيد أعمارهم عن 6 سنوات، دون أي ذنب إلا كونهم أطفالاً في زمن الحرب.
ربما التشابه الحاد بين الواقعتين واللتين دخلتا التاريخ من باب الكوارث الإنسانية، رغم التفاوت الزمني فيما بينهما؛ يكمن في أن مرتكب الفعلتين واحد وهو الجيش الإسرائيلي، والظرف الزمني واحد: "الحرب"، بل والضحية واحدة: أغلب الذين قتلوا في الحادثتين من الأطفال، الأمر الذي يجعلنا نسأل سؤالاً يبدو أنه سيكون من أخطر الأسئلة الأخلاقية لجيش من المفترض أنه نظامي، ويعلم عن دراسة ميدانية وأكاديمية مواجيب الحرب ومواثيقها، وهو لماذا لا يتوانى هذا الأخير عن استهداف المدنيين والمنشآت الحيوية ذات الضرورة الأساسية، كمحطات المياه والكهرباء والوقود، بشكل يبدو كمتلازمة عسكرية ترافقه في كل حروبه التي خاضها، منذ تأسيسه حتى هذه اللحظة؛ ابتداء بمذبحة بلد الشيخ والطنطورة واللتين وقعتا في عام 1948، عقب ما يعرف تاريخياً بحرب فلسطين، مروراً بمجزرة قلقيلية عام 1956، حتى مجزرة بحر البقر، ونهاية بحادث يوم الثلاثاء الماضي باستهداف مستشفى المعمداني.
يمكن الإجابة عن هذا السؤال من خلال الرجوع أربع خطوات إلى الوراء وتتبع المسار التاريخي لنشأة الدولة اليهودية على الأرض العربية.
فعندما اقترح تيودور هرتزل فكرة إنشاء وطن قومي لليهود، لم يدر في خلد الكاتب المسرحي عن التصورات المحتملة بين اليهود المستعمرين والسكان المحليين، وعن الصفة القومية والسياسية لتلك الدولة حديثة النشوء، وعن الحل المفترض حدوثه مع السكان الأصليين لتلك الأرض، بل إنه لم يبذل الجهد لوضع حلول تتيح استمرارية تلك الدولة تاريخياً. كل ما يشغله هو مساحة من العيش يتاح فيها إقامة وطن لليهود، بغض النظر عن الحلول المادية والتي تتيح استمرارية ذلك الوطن في الحيز الوجودي.
في الثامن من نيسان/ أبريل 1970، ألقت الطائرات الإسرائيلية حمولة تزن 1000 رطل من المتفجرات، فوق مدرسة ابتدائية مصرية، راح ضحيتها أكثر من 30 طفل لا تزيد أعمارهم عن 6 سنوات، دون أي ذنب إلا كونهم أطفالاً في زمن الحرب
هذه الأسئلة تكفل بالإجابة عنها الكاتب اليهودي القادم من أوكرانيا، زئيف جابوتنسكي.
رؤية جابوتنسكي كانت أكثر عملية وبالتالي أكثر واقعية من رؤية هرتزل، فهو يرى أنه من المستحيل الوصول إلى سلام مع الجيران العرب، والذين لن يتقبلوا فكرة وجود مستعمر في مساحة عيشهم، وأن مجرد التفكير في ذلك ينبع من نظرة ضعيفة للدولة اليهودية والتي لابد أن تكون قوية، والحل هو تدشين بوابة فولاذية في مواجهة العرب؛ آلة عسكرية مدمرة وقاتلة لا ترحم، فتصيب العرب بحاجز نفسي يفقدهم أي رجاء في التخلص من مستعمرهم، وتسمح لليهود بفرض السيطرة على كامل فلسطين التاريخية، وصولاً إلى شرق الأردن، لتأمين مجالها الحيوي الممتد والآمن، دولة عليها أن تفرض سيطرتها منذ اللحظة الأولى على كل المحيطين بها، مزودة بكل وسائل الترهيب والقلق وانعدام الضمير.
في الحقيقة، لقد رفض كل أعضاء المؤسسة الصهيونية أفكار جابوتنسكي، معتبرين إياها إعلاناً عن نوبة كراهية لا يعلم تبعاتها، لكن ديفيد بن غوريون، والذي سيظل لسنوات غارق في مستنقع السلطة العفن، حاملاً فوق كتفيه حلم الدولة اليهودية واستمرارها من عدمه، لم يجد بداً من تنفيذ أفكاره. أنشأ فيما سيعرف لاحقاً بجيش الدفاع الإسرائيلي عبر اتحاد ميليشيات الهاغاناه كحجر أساس بجانب الفصائل الأخرى كالارجوان والتشيرن.
يتبين ذلك جلياً من خلال ثلاث وقائع تاريخية لجأ فيها الجيش الإسرائيلي إلى قصف أو التهديد بقصف منشآت مدنية، أو التهديد بقصف وإبادة مدن بأكملها حال إطالة أمد الحرب، منها مذبحة بحر البقر، والتي اضطر بعدها جمال عبد الناصر للقبول على مضض بمبادرة روجرز، والمعروفة في الوثائق الأمريكية بـ"الضربة العميقة"، والتي نصّت على وقف القتال لمدة 90 يوماً بين الجانب المصري والإسرائيلي، وهي الفترة التي كانت تحتاجها إسرائيل لحصر وتعويض خسائرها الفادحة شرق وغرب القناة إبان حرب الاستنزاف، أيضاً حادثة "ثغرة الدفرسوار" والتي أجبرت فيها إسرائيل مصر على الجلوس على طاولة المفاوضات وإلا ستقصف بالدبابات مدن القناة، وستأخذ في الحسبان العاصمة القاهرة كهدف عسكري، والتهديد بقصف العاصمة دمشق بالطيران حال استمرار الجيش السوري جنوباً نحو مرتفعات الجولان، إبان حرب تشرين الأول/ أكتوبر.
قتل المدنيين بهدف الشيطنة
منذ استفاقت إسرائيل بكل مؤسساتها المدنية والعسكرية من صدمة السابع من أكتوبر، متأخرة قرابة الست ساعات عن التحرك الفعلي لاحتواء الكارثة، أو حتى مجاراتها على الأرض، فإن التصريحات التي أدلى بها بعض المسؤولين في إسرائيل، قبل ساعات قليلة من بدء ما يسمى بمعركة "السيوف الحديدية" على قطاع غزة، كانت تندرج تحت مسمى "تدمير حركة حماس عسكرياً وأخلاقياً"، بمعنى أنه يمكن لهذه الحرب تحديداً أن تأخذ محوراً فلسفياً بجانب مجرياتها العسكرية والعملياتية.
التصريحات التي أدلى بها بعض المسؤولين في إسرائيل، قبل ساعات قليلة من بدء ما يسمى بمعركة "السيوف الحديدية" على قطاع غزة، كانت تندرج تحت مسمى "تدمير حركة حماس عسكرياً وأخلاقياً"، أي يمكن لهذه الحرب تحديداً أن تأخذ محوراً فلسفياً بجانب مجرياتها العسكرية والعملياتية
يتضح ذلك من خلال تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، يوم 10 تشرين الأول/ أكتوبر، أي بعد ثلاثة أيام من الحرب على غزة، بأن "الجيش الإسرائيلي سينفذ في هذه الحرب كل الوسائل المتاحة لإضعاف حماس عسكرياً وشعبياً".
قال غالانت خلال زيارته لبعض الجنود في قاعدة عسكرية بغلاف غزة: "إن قوة حماس تكمن في أنها تعمل تحت ستار مأهول بالسكان، بمعنى أنها تستمد قوتها من حيزها الديمغرافي وليس الجغرافي".
هذه الكلمات والتي يمكن فك شيفرتها بالقول إن غالانت يريد تكثيف الضربات على المدنيين وقتل أكبر عدد منهم، بهدف إلقاء اللوم على حركة حماس وضربها شعبياً في قطاع غزة، وانفضاض سكان القطاع من حولها، أو مطالبتهم بالخروج من القطاع لتفادي كوارث إنسانية أخرى قد يقدم عليها الاحتلال.
هل هذا هو السبب وراء تأجيل الهجوم البري المنتظر للجيش الإسرائيلي والذي وعد به منذ اللحظات الأولى من عملية "طوفان الأقصى"؟
هل إسرائيل تواصل استمراريتها في قتل الأطفال وتدمير المنشآت الحيوية فقط لأجل إحراج حركة حماس شعبياً، تماماً كما أحرجت عبد الناصر يوم مجزرة مدرسة بحر البقر، والذي كان يوشك على الاستقالة من منصبه ويعتزل العمل السياسي لولا ضغوطات من بعض القادة السوفييت الذين نصحوه بقبول مبادرة روجرز مع تقديم المزيد من الدعم العسكري له؟
في كلا الحالتين: من يحمي أطفالنا في زمن الحرب؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmed -
منذ ساعتينسلام
رزان عبدالله -
منذ 12 ساعةمبدع
أحمد لمحضر -
منذ يومينلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 4 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 5 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامرائع