"عصام الضحوك"... يعاودون نقل الخبر عبر صورة عصام التي ما توانت في كل لقطة لها عن الافصاح في حبها للحياة، هذا الوجه الجميل بتكاوينه الطيّبة. أستعيد دردشة بيني وبينه فكانت الموسيقى فحواها. أرسل اليه واحدة من تلك الأغنيات عن عظمة ما نعيشه ونألفه ليرسل لي أخرى تشبه سخريته التي اعتادها في المواقف التي لا تعجبه، لنعاود الضحك مجدداً، وكأن لتلك الصفة مجدها عند عصام.
أقول لصديقي بأنني أريد النجاة من هذه الحرب، وأخيراً لدي رغبة صارمة في الهرب والاختباء. لطالما حاولت بأن أكون هذه الفتاة التي تحيا بعروبتها وقضيتها المحورية "فلسطين"، فمنذ طوفان الأقصى وأنا أعيد كل الشعارات التي حفظتها عن القدس والتحرير في رأسي، إلا أنني فقدت الشعور بعزيمتها وأثرها في نفسي.
أعاود المحاولة وأكرّر: "هذه فلسطين"، تربينا على مناصرتها قبل الجنوب، تعلمنا منها الصبر والشموخ، وهي فلسطين إرث جيلي. تصاعدت وتيرة الخوف من كل شيء: من قال بأننا شعب لا يقهر؟ شعب يمرّر النكات عن وضعه السياسي والاجتماعي ليلجأ الى حرب وحروب تنسيه بأنه منهك حتى الشهادة.
زعّق طير الحمام وقال "عصام شهيد". غنّت سناء موسى كلمات نساء فلسطين، أعادت إحياء فراق شعب بكامله عن أرضه وملكه، استرسلت في إحياء ذاكرتنا المنهكة، وعن الحرب التي استهدفت بصواريخها المجرمة من كانوا يلهفون نحو الحياة بضحكاتهم وأنس وجوههم
يقولون بأنه قدّر لنا بأن نكون محاطين بتلك الظروف السيئة والقاسية، والتي هي أقرب الى لهيب صاروخ العدو بالقرب من جسد عصام، علينا أن نقبل بهذا الواقع الذي يجرّنا واحداً تلو الآخر نحو نهايته العبثية وغير العادلة، وعلينا أن نقاوم حتى النفس الأخير. علينا أن نزفّ عصام شهيداً، وعلينا ألا نكترث بأنه قُتل وأشلاؤه مرمية على الأرض، تلتقتها عدسات زملائه المفجوعين أمام تلك الدماء.
علينا بأن نستيقظ في اليوم التالي لنتبيّن بأن هذا المشهد كغيره من المشاهد العنيفة، وننسى بأن عصام كان الخبر، فهناك على الضفة المقابلة إبادة جماعية، فما همّ العالم إن استرسلنا في الحزن على صديقنا؟
أسرح في الخبر وأنظر الى نعوة عصام، فأدخل صفحته على إنستاغرام لأشاهد هذا الشاب الذي كان حيّاً يرزق، لأعاون قواي على الاستيقاظ من هذا الذهول المتكاسل، ولأقرّ بحرقة قلوبنا ووحدتنا بعد مقتله. أدخل يوتيوب في محاولة للتفتيش عن المقطع المصوّر لهذه الجريمة، وأتساءل: لما كل هذا العذاب النفسي؟ هل تمرّسنا في جَلْد قلوبنا أكثر فأكثر؟ لماذا أريد أن أراه "مستشهداً"؟ لأصدّق الخبر أم لأنني لا أريد تصديقه؟
يراسلني صديقي باكياً ويقول لي: "من قال بأن عصام أراد أن يرثى شهيداً؟". لا أعلم شيئاً عن رغبة عصام، ولكن لا شك بأن الحياة كانت تليق به، ولا أتردّد في القول بأن هذا الموت لا يليق به. لم أقرّ لصديقي بأن صفة الشهيد أصبحت، بحملها الثقيل، غير مرحّب بها عندي. أحياناً نهاب أن نتشارك أفكارنا المعارضة للسائد، فنعتاد الصمت، أو نلطّف مواقفنا لنتجنّب تلك المواجهة التي ربما سوف تخوّننا أو تجعل منّا مطبّعين مع القتلة.
أذكر وقع هذه الصفة عندما سمعتها لأول مرّة خلال الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني، اعتبره العدو "انتحارياً"، أما نحن فناديناه بالاستشهادي صلاح غندور، البطل الذي أوجع الكيان الغاصب. كانت صفته العسكرية "ملاك"، توجّه بسيارته المفخخة، حيث فجّر نفسه عند مقر للاحتلال الصهيوني.
مع الوقت تلاشت صورة "ملاك" تماماً كما تناثر حطام عمليته الكبرى، فتحوّلت قريته وأصبحت متحفاً تغزوه وجوه رجال معلّقة عند أعمدة الكهرباء. لم يبق حائط يتسع لوجه جديد. تبدّلت معالم نفوس القضية وانحازت الى طريق مختلف، أسقط عن هذه الصفة "شهيد" رونقها وهيبتها لدي. عندما تجد نفسك محاصراً بين خيارين: "إمّا الشهادة وإمّا الشهادة"، تشعر بأنك لا تريد سوى الحياة، بأنه لا فخر في الموت مظلوماً، ولا فرجة هي تلك التي تطالك في صميم وجودك لتتبارز معك على واقع سوداوي، وهو أنك، شئت أم أبيت، ستستشهد أشلاء.
أجد المقطع المصور لعصام وزملائه، أرى جسداً ممدّداً وأقول: "هيدا هو عصام، قربوا عليه غطّوه". لم يكن سواه على الأرض دون حراك، دون وجهٍ يبتسم، ولولا صدور خبر مقتله كنت لأنظر الى هذا الجسد الوحيد والمبكي دون أن أخمّن بأنه جسد عصام عبدالله، لأنك لن تستطيع أن تصدّق كل هذا العدوان عليه. أخيراً أنفي إنكاري وأحيط حرقة قلبي وتلك الموسيقى التي استودعته بها يوماً ما. يقول لي صديقي: "العالم كلّه بيكرهنا، وين بدنا نهاجر؟".
أتمعّن قليلاً بما كنت عليه قبل سماع خبر مقتل عصام، وفي رغبتي الملحّة في الرحيل لأنني لن أجد سلامي في وطني العربي، كنت متيقنة، كما صديقي بأن العالم أجمع يكرهنا، إلا أننا هنا لسنا معافين من هذه الكراهية والظلم، ومن لا يكرهنا؟ نظامنا، مجتمعنا أم مقاومتنا التي ساومت وصالحت أنظمة مستبدّة ومجرمة كما العدو؟
فترة التسعينيات، وخلال الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان، صادف عيد الأم، وكانت مدرسة "حبوش الدولية" تحتفل بأمهات طلابها، كان لأمّهات الجنوب أطفال صغار يجلسون عند مقاعد دراستهم، ويرسمون بأدواتهم البريئة ما يزخرف هذه المناسبة ويحجبها عن عين العدو، إلا أن طيران هذا العدو تصدّى لتلك الأمومة، وجعلها تتلقى صواريخه لتقتل من كان ينتظر لقاء والدته بعد انتهاء دوامه المدرسي ليقدّم لها وردة حمراء.
علينا بأن نستيقظ في اليوم التالي لنتبيّن بأن هذا المشهد كغيره من المشاهد العنيفة، وننسى بأن عصام كان الخبر، فهناك على الضفة المقابلة إبادة جماعية، فما همّ العالم إن استرسلنا في الحزن على صديقنا؟
عند طريق حبوش- النبطية، كان المشهد كما هو: صغار بدمائهم الموحّدة يحملون تلك الوردة وهم قتلى في عيد "ست الحبايب". لم تصل الوردة ولم يبق سوى عين العدو ترى هؤلاء الأمهات يهلعن نحو تلك المجزرة، لعلهم يلتقطون آخر أنفاس هذه الوردة الحمراء بين يدي أطفالهم.
هي هذه الوردة الحمراء على نعش عصام، وهي عند قبره تذكّرنا بأن لا قصة مختلفة لنرويها، سوف نتكلّم عن هذه الورود لاحقاً، ونحن نعلم بأن الحديث لن يحرّرنا من هزيمتنا أمام كل هذا الظلم. زعّق طير الحمام وقال "عصام شهيد"، زعّق طير الحمام وقال: "بتهون".. بس ما هانت. غنّت سناء موسى كلمات نساء فلسطين، أعادت إحياء فراق شعب بكامله عن أرضه وملكه، استرسلت في إحياء ذاكرتنا المنهكة بصوتها عن نكبة الوطن العربي، وعن الحرب التي استهدفت بصواريخها المجرمة من كانوا يلهفون نحو الحياة بضحكاتهم وأنس وجوههم.
لم يبقى لنا سوى تلك الموسيقى تصخب في دارنا علّها تعفينا من لوعة حرقة القلب. رحل عصام ولا صبر أمام هذا الابتلاء. "زعّق طير الحمام وقال هنّي."، نعت سناء موسى بصوتها المتماسك كل من باغتنا باستشهاده، فكانت ترثي عزاءنا وجنازاتنا وعجزنا عن التحمّل أمام هكذا فراق، فبكينا عصام على أغاني القضية التي استشهد لأجلها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع