منذ أن اندلع الربيع العربي واستشرست السلطات العربية في مواجهة معارضيها، بدأت موجات هجرة عربية جديدة يتقدمها السوريون بحكم حجم العنف الذي طبقه النظام السوري في مواجهة الانتفاضة الشعبية العارمة، وطلع علينا موالو الأنظمة بمقولات تتهم المغادر لوطنه بالخيانة، من نوع الجملة التي كررها كثير من السوريين: "الوطن ليس فندقاً نغادره حين تسوء الخدمة"، ولكنني أتساءل ما هو الوطن إذاً؟ إن لم يكن الأمان والاستقرار، إن لم يكن إحساس الانتماء هو معادل المواطنة؟
أتساءل ما هو الوطن إذاً؟ إن لم يكن الأمان والاستقرار، إن لم يكن إحساس الانتماء هو معادل المواطنة؟صحيح أن المنفيين من أوطانهم يعانون من آلام الفراق، ويحاولون استعادة الوطن الضائع بشتى الوسائل، ولعل أبسط وسيلة متوفرة مرتبطة بأطباق الطعام، إذ يتداولون المواقع التي توفر المواد الأولية، وعناوين االمحلات التركية والعربية. يتذمر اللاجئون بلا هوادة من أوطانهم الجديدة رغم أنها لاتقارن من أي باب من الأبواب بالأوطان القديمة، أتذكر أنني قرأت منشوراً على فيسبوك كتبه أحد الأصدقاء اللاجئين في دولة اسكندنافية يستغرب فيه أنه يعيش في دولة صنفت الأولى في العالم في مؤشر السعادة، وتساءل: لمَ أشعر بالكآبة إذاً؟ ولكن كل هذه الغربة وصعوباتها، جعلتني أفكر بمبدأ حب الوطن والتضحية في سبيله. مما أوصلني لسؤال: "لم نحب أوطاننا؟ وكيف نتبنى مبدأ التضحية بالنفس في سبيل الوطن؟".
"ليست الحدود إلا خدشاً على سطح الأرض، ليس لها أي معنى، كل ما تفعله هو زيادة أرباح تجار البشر". يانيس فاروفاكس وزير المالية اليوناني الأسبق.أفكر بأن الوطن لا يمكن أن يكون البقعة الجغرافية بقدر ما هو الناس وعلاقاتنا بها وشعور الإلفة في المكان الذي نعتاده، ولكنني أعتقد أيضاً أن الوطن هو قدرتنا على فهم وتوقع آليات الحياة، وأن أصعب ما نواجهه في الغربة هو عدم إمكانية التوقع لأننا نعجز عن الفهم لاسيما فيما يتعلق بالتفاصيل الإدارية في الدول البيرقراطية وفي مقدمتها فرنسا.
أؤمن بما قاله يانيس فاروفاكس وزير المالية اليوناني الأسبق وعضو حركة ديم25: "ليست الحدود إلا خدشاً على سطح الأرض، ليس لها أي معنى، كل ما تفعله هو زيادة أرباح تجار البشر". وأؤمن أيضاً أن حدود سوريا هي حدود فرضت علينا بموجب اتفاقية لم نشارك في اختيارها. وبالتالي لا يفترض أن ننتمي لمكان بقدر ما ننتمي للكوكب الذي نعيش فيه وللبشر في كل مكان، ولكن هل أستطيع تطبيق قناعاتي النظرية عندما يصبح الوطن وحدوده التي نرفضها على المحك؟
أفكر منذ سنوات بمسألة حب الوطن، ولاسيما في الحالة السورية والأعقد ربما في الحالة الفلسطينية، فقد خلقنا وانتمينا إلى أوطان يدفع أبناؤها بلا توقف ثمن الانتماء إليها، وسط عجز المتعاطفين وتواطؤ العالم. يقدم أبناء وبنات هذه الأوطان الكثير فيما يقدم لهم الوطن القليل وقد لا يعطيهم شيئاً. لا فرص، لا مستقبل، لا جوازات سفر، لا حقوق، ولكنهم بالمقابل مستعدون لفداء هذه الأوطان بحياتهم. ما هو السر؟أعتقد أن السر هو كم الظلم الذي يتعرضون له، ورغبة دفينة بالحرية والكرامة، أحب أن أعتقد أن السعي للحرية أصيل في الإنسان وأن التضحية في سبيل الوطن إنما هي تضحية في سبيل قيمة الحرية المجردة التي تعلو على المساحة الجغرافية والمكانية. ولكنني أتمنى بالمقابل أن تسمح أوطاننا لمواطنيها بالتضحية دون أن يكون الموت هو الثمن، ودون أن تكون الحرب هي الوسيلة، وأتذكر مشاهد من الفيلم البديع "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" الذي حصد أوسكار أفضل فيلم أجنبي العام الماضي، إذ يتناول القادة العسكريون الطعام الفاخر ويتذمرون من أن المعجنات ليست طازجة فيما يناقشون شروط وقف إطلاق النار، على حين يتضور العسكر على الجبهة جوعاً ويموتون بشكل عبثي ودون تحقيق تقدم يذكر. أكره الحرب، أكره مبدأ القتل، ولا أصدق أن البشرية في عصرنا هذا لم تتوصل إلى طريقة أخرى لحل النزاعات، أو لعل البشرية وجدت طرقاً أخرى لكن الإرادات السياسية ومعامل السلاح لها رأي آخر.
يقدم أبناء وبنات هذه الأوطان الكثير، فيما يقدم لهم الوطن القليل وقد لا يعطيهم شيئاً. لا فرص، لا مستقبل، لا جوازات سفر، لا حقوق، ولكنهم بالمقابل مستعدون لفداء هذه الأوطان بحياتهم. ما هو السر؟حين نعجز عن العيش، ويصبح خيار التمسك بالوطن رديفاً للموت، هل علينا البقاء؟ لاجواب لدي، لا سيما أنني فضلت النجاة والحياة مما حملني عقدة وذنب الناجي تجاه أولئك الذين بقوا يتحملون وطأة الظلم والعنف ويواجهون بكل شجاعة ويدفعون ثمن خيارهم بالبقاء بكل بسالة.
منذ بدأ قصف غزة في الأيام الماضية وأنا أفكر، ماذا إن لم تكن المغادرة خياراً؟ ماذا عن الحصار المطبق؟ ماذا إن كانت الخيارات هي خيار واحد؟ يكاد وضع أهل غزة من المدنيين العزل اليوم يكون التجسيد الحي للظلم الذي يعيشه كل مهمشي العالم.
لا ترتبط كل هذه التداعيات بفكرة الحق، فالحق هو أن يعيش كل أبناء هذا الكوكب بسلام، ولاسيما أن موارده تكفيهم جميعاً ليعيشوا باكتفاء ودون عنف، وأن ينسجموا مع الطبيعة ويعيشوا جنباً إلى جنب مع كائنات هذا الكوكب، ولكن واقعنا اليوم يختلف كثيراً، وجذر هذا الاختلاف هو نظام عالمي متوحش، تتركز فيه السلطة والمال في يد الأقلية التي تسحق وتستغل وتدعم القوي وتقتل الضعيف وتسرقه دون النظر إلى أي حق ودون الاستناد إلى أي شرعة يمكن أن تحكم البشرية. يلجأ المظلومون اليوم إلى مؤسسة الأمم المتحدة التي يتكون مجلس أمنها من الأقوياء والمعتدين أنفسهم الذين يعطلون القانون ويسيرون العالم على هواهم.
يكاد وضع أهل غزة من المدنيين العزل اليوم يكون التجسيد الحي للظلم الذي يعيشه كل مهمشي العالم.أقلب صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، وأتأمل كم نحن كثر، أبناء الظلم، وكم هم قلة أولئك المتحكمون وحملة شرعة العنف، لم لا نستطيع مواجهتهم إذاً؟ لم نعجز عن الاجتماع والصراخ رافضين؟ أعتقد أن القلة تخشى أكثر ما تخشاه اجتماعنا وتعمل كل بكل ما أوتيت من شرور على تفريقنا، وإلهائنا بالخلاص الفردي والأزمات اليومية، تشغلنا بلقمة الخبز وتأمين الاحتياجات كي لا يكون لدينا رفاهية التفكير والأهم كي لا نجتمع، ولكن الأمل يبقى أن أجيالاً شابة تمتلك كل القدرة على التواصل والتفكير، ولعلنا نستيقظ يوماً على طوفان من البشر الرافضين للظلم، الباحثين عن العدالة، الذين يؤمنون بحقهم وحق غيرهم في الحياة والحرية والعدالة، وكما قال ياسين الحاج في عنوان كتابه: "بالخلاص ياشباب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع