قدّم المسرحي المغربي عبد الحق الزروالي، في الأشهر الأخيرة، مجموعةً من العروض لمسرحيته الجديدة "بودهوار"، التي يتوّج بها مساراً مسرحياً فردياً ومتفرداً امتد لعقود، وعرف تحولات كبيرةً على مستوى كتابة النص المسرحي، والتشخيص، والإخراج، حيث يعيد في هذه المسرحية طرح الأسئلة القديمة/الجديدة، حول خيبات الإنسان ووحشيته الطاغية.
قد يبدو عنوان المسرحية "بودهوار" غريباً، ولكنه حين تفكيكه تتجلى أبعاده والغاية من اختيار المسرحي عبد الحق الزروالي إياه، شأنه شأن العديد من عناوينه الملغّزة، فـ"بودهوار" كلمة عامية مغربية تعني "الدوار"، وهناك مثل شعبي يقول: "الملاغا د الكبار، كتعمل بودهوار للحمار"، أي أن مزاح الكبار ومداعبتهم، تصيبان الحمار بالدوار، وهذا المثل يقال حينما يصدر من بعض الكبار في السنّ أو في الجسم، من التصابي أو المزاح أو الحركات الثقيلة أو الأعمال الغريبة، وهو ما لا يناسب صدوره ممن هم في مثل سنّهم أو ثقلهم، وهو ما يعني أن ما يقوم به الإنسان في العصر الحالي وما يتسبب فيه من حروب ودمار بسبب تصابيه وحماقاته، يدخلان في إطار الانحطاط والتدهور الذي ليس "بودهوار" أو الدوار الذي يصيب حتى الحمار، إلا أحد تجلياته البائسة، التي يفقد فيها الإنسان إنسانيته ويضيّع كل فرص العيش الجميل والاستمتاع بالحياة، ليصبح أباً لكل المصائب والمآسي بامتياز.
يقدّم المسرحي المغربي عبد الحق الزروالي، في مسرحيته الجديدة "بودهوار"، خيبات الإنسان ووحشيته الطاغية
فعبر شخصيتي المسرحية "عبو" العطار، ودابته "حمرون"، يقدّم المسرحي عبد الحق الزروالي، على مدى ساعة وربع، عرضاً مسرحياً مونودرامياً تمتزج فيه الأدوار، ويندمج فيه "عبو" مع "حمرون"، ليصلا في بعض اللحظات إلى حد التماهي، لدرجة لا يمكن معها الفصل بين عبو ودابته، التي نصفها بشر ونصفها الآخر حيوان، ما دامت الهموم نفسها تجمعهما، ويعانيان من المشكلات والإساءات ذاتها.
ومن خلال كوميديا سوداء، وسينوغرافيا يأخذ فيها الحمار مكانةً كبيرةً في الركح، بسبب حجمه الكبير والإضاءة المسلّطة عليه، يعمد الزروالي في هذه المسرحية، إلى إعطاء العبرة للإنسان عبر الحيوان، وتوجيه العديد من الرسائل والإشارات المبثوثة في لغة المسرحية التي تمزج بين اللغة العربية الفصحى والدارجة المغربية، والشعر والزجل، وهي اللغة والمعين الذي لا ينضب لدى الزروالي، والذي يحسن استعماله وشدّ انتباه الجمهور إليه.
قد يعتقد البعض أن الزروالي، يسعى عبر هذه المسرحية إلى رد الاعتبار للحمار، هذا الحيوان الخدوم و"المحكور" أي المحتقر، لكنه في العمق يستدعيه ويستحضره كشخصية في المسرحية ليكون شاهداً على المآسي التي صنعها الإنسان بيده، مثلما فعل العديد من المسرحيين العرب والعالميين، ونخص بالذكر الكاتب السويسري فريدريش دورينمات في مسرحيته "محاكمة حول ظل حمار"، التي يسخر فيها من الإنسان الذي تشغله بعض الأمور الصغيرة والتافهة، التي يحسبها كبيرةً فتتسبب في إحساسه بالغرور، وتنتج عنها الأزمات والحروب. ويقدّم دورينمات في هذا العمل المسرحي، الذي استدعى له أجواء بلاد الإغريق، في كوميديا سوداء، نقداً لاذعاً للعصر الحالي الذي يعبث فيه الإنسان بكل ما هو جميل، ويعيث فساداً في الأرض، وبعدها يؤنّب نفسه على ما جنته يداه.
وفي مسرحية "بودهوار" يسائل الزروالي أيضاً ما تبقى فينا من إنسانية، ويميط اللثام عن العديد من الحقائق المرعبة التي تتخبط فيها البشرية اليوم، ويقول إنه يجب أن نتعلم من الحيوان كيف نصبح إنسانيين، لأننا خسرنا الكثير من القيم، فـ"خليفة الله في أرضه"، تلك الصفة التي رغب الخالق في رؤيتنا عليها، لم تتحقق وأصبحنا أسوأ المخلوقات بحكم ما نراه في العالم عموماً، وليس في إفريقيا السوداء أو الدول العربية فحسب، حيث "الدكار" والحروب، ولم يعد للوجود أي معنى أمام هذا العبث، عادّاً أن هذا العصر من أسوأ العصور على الإطلاق.
ويسأل عبو حمرون:
"لماذا وصلنا إلى هذا الحضيض؟
هل لديك شهادة الحياة؟
رخصة الحق في التجول؟
دبلوم النهيق قبل الأكل؟".
وغيرها من الأسئلة المستفزة والمتناسلة عبر المسرحية، والتي تتداخل فيها الشخصيات وتنقلب الأدوار، إلى أن يصل فيها "عبو" إلى الخلاصة التالية: "وُلدت في زمن المجاعات والحروب، والبشر أصبحوا أسوأ من الحيوانات، ولهذا يجب أن نتعلم من الحيوان كيف نصبح إنسانيين".
ولأن الكوميديا هي أنسب الأشكال في المسرح للتعبير عن مشكلات الإنسان في هذا العصر وكل العصور، فقد استعملها الزروالي ببراعة كبيرة في هذا العمل المسرحي، كما في أعمال مسرحية سابقة له وشمت مساره المسرحي الفردي، وسخر فيها الكثير من الحكم والشعر والأمثال والمأثور، والقليل من الديكور، الأمر الذي شد انتباه الجمهور وجعله يتابع هذا العرض المسرحي ولا يملّ منه، برغم أنه يقوم على فرد واحد، ولكنه الفرد المتعدد، الذي يكشف بتعجب وغرابة أحياناً، واستهزاء أحايين أخرى، حقائقنا أمام أعيننا، ويدخل في حوار مع الجمهور، كاسراً نمطية العرض المسرحي، ليصل إلى غايته المثلى وهي تقديم مسرح آمن به منذ ما يزيد على خمسة عقود، واختاره ليعبّر من خلاله عما يختلج كيانه، ويثير القضايا الوطنية والعربية والأسئلة القلقة والمستفزة والجريئة، التي لم يكن يستسيغها ذوو السلطة والنفوذ، إلى درجة أنه يقول إن المسرح هو الذي اختاره منذ صباه، وليس هو من اختار المسرح.
وعن هذه المسرحية، التي تأجل عرضها سابقاً بسبب جائحة كورونا، يقول الزروالي نفسه في تصدير سابق لها:
"عبو كائن أزعم أنني أعرفه جيداً...
استدرجني للإفصاح عما في جعبته كمخلوق هجين ينتمي إلى سلالة بني هدرون (أي كثيري الكلام)، وعن إملاءاته الساخرة ونظرته الاستغرابية لمعنى علاقة الأنا بالآخر وفق إكراهات الأقدار التي تحدد هويتنا وتملي علينا شروطها...
إذاً، نحن أمام حالة جدّ معقدة، تصوّر لنا عمق التماهي بين عبو العطار ودابته حمرون...
هذا الكائن الخرافي الذي جرّب كل أشكال القهر والاضطهاد... والنتيجة هي أنني وجدت نفسي أكتب عني لا عنه، وأننا معاً نتقاسم المعاناة نفسها وينتظرنا المصير نفسه....
من هذا المنطلق، جاءت الأفكار الواردة في النص، والصور العابرة من خلال مكونات العرض، كشظايا شخوص وأحداث وحالات في خدمة الصراع ونسج خيوط الفرجة قبل كل شيء، دون ترابط منطقي أو تقليدي كما هو سائد... حتى لا تختلط علينا القيود بالقواعد...
في رحلة عبر ما يُسمّى بالذات الكبرى لكل الكائنات في تفاعلها مع هذا الكائن البشري الذي طوّر نفسه إلى أبعد الحدود، ولم يدرك حتى الآن حقيقته ومعناه... ليجد نفسه وأمام حتمية الفناء أنه كان مجرد عابر سبيل... يصارع طيفه... ثم يتلاشى كقشة في مهب الريح.
قد يعتقد البعض أن الزروالي، يسعى عبر هذه المسرحية إلى رد الاعتبار للحمار، هذا الحيوان الخدوم و"المحكور" أي المحتقر، لكنه في العمق يستدعيه ويستحضره كشخصية في المسرحية ليكون شاهداً على المآسي التي صنعها الإنسان بيده
بمعنى آخر: هل نحن حقاً أمام مسرح آخر؟
مسرح يخاطب فينا ما تبقى من الروح؟
مسرح ينتصر للكلمة... للحكمة... ويبحث عن البصمة؟
ذلك هو السؤال...
إنه مجرد طموح...".
وتجدر الإشارة إلى أن الفنان عبد الحق الزروالي، رجل مسرح بامتياز، اختار منذ البداية المسرح الفردي، لأن شخصيته المتمردة لم تكن تقبل بأي وصاية، كما أن اهتمامه بأدق التفاصيل وحفظه لأدوار الآخرين في المسرحيات التي عمل فيها وهو فتى شاب، وتمرده على الشكل المسرحي "سلطان الطلبة" برفضه تقبيل يد السلطان، كما أن إحساسه الكبير بالمسؤولية تجاه العمل الفني، وثقته الكبيرة في نفسه وجرأته، كل هذا جعله يختار المونودراما، التي لا يمكن عدّها تجربةً فنيةً فقط في مسار المسرحي عبد الحق الزروالي، بل هي تجربة حياة، وحالة نفسية واجتماعية، ما زالت تحتاج إلى الكثير من الدراسة والبحث، خاصةً أن نصوصه المسرحية التي فاقت الأربعين نصاً مونودرامياً، تُعدّ بمثابة قراءات سياسية واجتماعية للواقع المغربي والعربي المأزوم، ويمكن أن نستحضر من بينها: "جنائزية الأعراس" (1982)، و"رحلة العطش" (1984)، و"برج النور" (1986)، و"افتحوا النوافذ" (1992)، و"زكروم الأدب" (1995)، و"عتقو الروح" (1997)، و"كدت أراه" (2008)، و"الطيكوك" (2016)، وغيرها من الأعمال.
و"بودهوار" فرجة مسرحية استفادت من دعم وزارة الثقافة المغربية، من تأليف وتشخيص عبد الحق الزروالي، والإدارة التقنية لمنير صابر والإدارة العامة لعبد الحق أسويطيط. قُدّمت هذه الفرجة في الفترة الأخيرة في جولة مسرحية على مختلف المسارح والقاعات المغربية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...