كثيراً ما تعتلي نغمة اختفاء الحركة المسرحية المصرية وذلك لم يكن اليوم فقط، بل منذ سنوات كثيرة، وفي حقيقة الأمر هي نغمة صحيحة وخاطئة في الوقت ذاته، إذ شهدت الأعوام الأخيرة، وبخاصة العامان الآخران، إنتاجاً غزيراً للعروض المسرحية في مصر، لكنها تبقى أسيرة دائرة المتخصصين، لا تخرج للجماهير بكثرة، ويسند ذلك الأمر لعدة أسباب، أولها ضعف الدعاية والإعلانات اللازمة للجذب، حيث لم يسمع جمهور غير المتخصص بها مما يقلل عدد المتوافدين على العروض، ومن جهة أخرى بسبب اختيار الموضوعات التي في الأغلب تكون بعيدة عن هم الإنسان العادي، يستشعر فيها المتلقون بحالة من الاغتراب، نظراً للتمسك في أوقات كثيرة بالفصحى، أو بالموضوعات المستندة على نصوص تتطرق لإشكاليات فات آوانها.
وبالنظر في عروض هذا العام نجد أنه يقدم على خشبة مسرح الطليعة بالقاهرة العرض المسرحي "باب عشق" من تأليف إبراهيم الحسيني، وإخراج حسن الوزير الذي يعتمد الأسلوب ذاته من لغة عربية فصحى واختيار موضوع يبدو في ظاهره، أو في تأويله الأول -المهم ولا غنى عنه- بعيداً عن متلقي اليوم. ولكن بالنظر في عمق العرض نجد أنه يتطرق لقضايا هامة وشائكة تمس الوقت الحالي، بل وتمس صُناعه في المقام الأول، ليطرح السؤال الأول لماذا يتم تقديم هذه النوعية من العروض تحديداً، وما السر وراء الاغتراب الذي يحتاج لمجهود تأويلي كي يتضح تشابكه مع العصر وقضاياه؟
بالنظر في عمق العرض المسرحي "باب عشق" نجد أنه يتطرق لقضايا هامة وشائكة تمس الوقت الحالي، بل وتمس صُناعه في المقام الأول، ليطرح السؤال الأول لماذا يتم تقديم هذه النوعية من العروض تحديداً؟
وبطرح السؤال على مؤلف العرض الكاتب المسرحي إبراهيم الحسيني أجاب لرصيف22 قائلاً: "السبب الأول في ذلك هو الرقابة، والمصادرة على الإبداع، مستنكراً أنه في عصر تراكم المعلومات وإتاحتها بسرعات كبيرة لا معنى لمصادرة الإبداع أو وضعه تحت رقابة من أي نوع؛ فمن باستطاعته احتكار المعلومات أو الآراء في ظل هذه اللحظة الحضارية المركبة التي نحياها، مضيفاً أنه لمن المهم لأي دولة بمفهومها المدني ضمان فكرة الحريات والحد من بعض الأفكار الهدامة التي تناقض أخلاقياتها وعاداتها ومعتقداتها".
ومنها يتم التأكد على لسان الكاتب ذاته أن المسرح المصري يلقى تشديداً رقابياً مُحجماً للإبداع، يجعلنا ننظر في طريقة طرح الإشكالية المسرحية بصورة مختلفة محاولين إيجاد النقاط المتحايلة والسعي لتأويلها وفهمها.
أسلوب مسرحي
ارتبط المسرح منذ نشأته بقضايا الإنسان الفكرية والسياسية، وتعتبر النصوص التي يتم إنتاجها في زمانها هي ابنة حقبتها، تحمل قضاياها وأفكارها وصراعاتها، والمسرح السياسي كمصطلح شأنه شأن أي مسمى مسرحي آخر له تجلياته ومفاهيمه، التي تطورت بتطور الزمن، أي مستوعباً لمسيرة التطور الفني دون التخلي عن سياقاته.
ويعتبر المسرحيون العرب الذين تدخلوا في ذلك الشق المسرحي وداعبوه بفنية عالية هو المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس حيث الانتقال من المسمى "السياسي" إلى "التسيس" متحرراً من الخطابية مدركاً للتطور الإنساني والفني والمتلقي الذي زهد التحريض، متوجهاً لعلاقات تفاعلية ومتعة بصرية وفرجة شعبية، دون إعطاء أجوبة نهائية لأطروحاته أي تغيير شكل التحريض، ليجعله نابعاً من تفاعل لا يلقن بالهتافات. وذلك وفقاً لما جاء بنصوص مثل "سهرة مع أبي خليل القباني"، و"مغامرة رأس المملوك جابر" وكذلك كتّاب آخرون قدامى بعض الشيء، الذين استخدموا الإحالة واللجوء لأزمنة مختلفة وأساطير لمناقشة قضايا حيوية تختص بزمنهم الراهن، أمثال علي سالم وألفريد فرج وغيرهم.
فالتسيس لم يكن أسلوباً مسرحياً يناقش قضايا سياسية، بل هو في ذاته سياسة يتبعها الكتاب كي يمرروا إشكاليتهم بصور متحايلة ودون خطابية فجة، سواءً كانت هذه الإشكاليات سياسية أو غيرها.
وعلى ذلك النهج سار "باب عشق" محاولاً أن يتبع أساليب من التسيس لعرض أفكاره، حيث قضية إطارها يحكمها ساسة بين ملك في شيخوخته يريد أن يزوج ابنته ليتولى زوج الابنة من بعده العرش ويصبح ملكاً على البلاد، تشترط الأميرة أن يكون المتقدم للزواج شاعراً، فالشاعر يمتلك الحكمة والحزم وفن الكلمة وهو أجدر من يتولى الحكم من وجه نظرها.
تختلط القضية من البداية بين السياسة والحب، أي لم تكن أي منهما صرف، بجانب أسلوب التسيس المذكور الذي يستخدم زمان ومكان يبعدان عن العصر الحالي، مع صحراء عربية وشعراء وحكم ملكي، للإحالة عن هذا العصر، أي عالماً يتحرر من التقدمية والتكنولوجيا بشكل فعلي، ليصبح هناك رقعة أوسع لصناع العمل تسمح بطرح ما يريدون عرضه دون تعنت، وذلك لخلق متسع آمن لمناقشة أزمات الاختناق والصراعات التي تتوجه للسلطات أياً ما كانت، لنجد أنه يطرح الشعر بصفته الفن عامة، كوسيلة لبلوغ الحكم، وليس كقوة ناعمة قادرة على التغيير الحقيقي مثلما ترى الأميرة، أي يضع الفن كطرف صراع تتنازع عليه أطراف سلطوية، وأخرى فنية محبة وشاعرية.
عناصر سينوغرافية
ما كان يطرح في مسرح التسيس من عناصر فرجة شعبية تخلق صورة مسرحية، اتّبعها مخرج باب عشق بأسلوبه الخاص لخلق صورة بصرية بين الغناء والرقص والاستعراض تكثف المعنى وتحقق التوازن البصري لعدم وجود أي فجاجة في الطرح بينما جاء سلسًا بين قطع ديكورية على شكل علامات استفهامية أو ربما انحنائات تشبه التساؤلات المطروحة والاعوجاج في استقبالها من قبل الشخصيات المنحرفة التي تتلاعب بالكلمات وتسرق الشعر بهدف نيل المُلك، واقصى يسار المسرح مستوى يعتلي الخشبة دائري يستخدم "كموتيفة" يعتليه كل من يقوم بفعل مفصلي في الأحداث.
وعلى غرار التسيس والإحالة أيضاً تتمتع حبكة العرض بصراعات غير سلطوية تتمثل في الشعب الطامع في السلطة، لتتكون داخل العرض ثنائية مركزية بين (السلطة/الفن) أي متقابلان يظهران في البداية متضادان لا يجتمعان أبداً يعترض طريقهما الكثير من العوائق وهما متمثلان في الأميرة دعد والشاعر دوقلة، حيث لا مشهد واحد يجمعهما رغم صدق مشاعر كل منهما، وذلك على المستوى السينوغرافي، بينما يجتمعان كأرواح وقدمت في العرض عن طريق الحوار، وكذلك عن طريق "البلاي باك" حيث صوت دوقلة يحضر في فضاء الأميرة، دون لقاء جسدي في فضاء مسرحي واحد.
التسيس وطرق الطرح
يمكن قراءة القشرة الخارجية للعرض بكونها قضية تبتعد عننا اليوم، فهي مجرد احتلال قلب شاعر لملكة البلاد، وسرقة قصيدته من قبل لص "غيلان الجبلي"، وبقاء قصة الحب رغم عدم اللقاء، أي تأويلها كاطروحة غرامية قديمة.
لكن مع النظر في آليات الإحالة الكتابية تأخذ القصة أعماق دلالية أخرى باعتبارها طريق لقراءة تلك الأزمة التي يعانيها الفن مع الرقابة، بل وتؤكد بوجود شخصيات سارقة وطامعة في السلطة باستغلال الشعر أن الفن ربما يأخذ مناحي غير جيدة في كثير من الأزمنة بسبب تلك الألعايب التي يسببها الاختناق السلطوي، أي الإدانة مقسمة بين كيانات السلطة وكيانات الشعب، بصفتها كيانات سلطوية وفنية، حيث تصورت السلطة بالعرض أن ذلك الفن هو الذي سترتقي به الشعوب وهو المنتظر للإنقاذ، ومنها للتشديد بشروط قصيدة معينة دون غيرها، أدت لنشوب صراعات داخل الوسط الشعري ذاته وظهور الكثير من المتحايلين وآخرين من السارقين والطامعين، بسبب ذلك الاختناق.
كاتب يتعرض لتعنت رقابي فيستخدم حيلاً كي يقدم أفكاره، فيكتب عن شاعر يحب الأميرة، فيقابل مستغلين له مصادرين على فنه يقتلونه بالنهاية ولم يحقق مبتغاه بوصوله بشعره لقلب الأميرة التي يحبها.
أضاف كاتب المسرحية أنه من الممكن أن يكون لموظف الرقابة قناعات خاصة تحيل بينه وبين فكرة الإبداع نفسها، إذ يعتبر البعض منهم أن حرية الثقافة وتمرد الإبداع قد يكون ضد معتقداته الشخصية وآرائه، لذا فهو يصادر بقمع وكأنه يتقرب إلى الله بما فعله، لكنه لا يعلم بسبب انغلاقه أن الإبداع المصادر يلقى رواجاً أكثر من المتاح.
وذلك ما حدث بالعرض بالفعل، أي هي واقعة داخل العرض وخارجه، كاتب يتعرض لتعنت رقابي فيستخدم حيلاً كي يقدم أفكاره، فيكتب عن شاعر يحب الأميرة، فيقابل مستغلين له مصادرين على فنه يقتلونه بالنهاية ولم يحقق مبتغاه بوصوله بشعره لقلب الأميرة التي يحبها، كما يريد الكاتب للنص المسرحي أن يصل بكتابته لأغراض أخرى حميدة تبدأ بالتعبير عن ذاته وهمومه برحابة أكثر.
ومنها جاءت بالعرض إشكاليات الفن المشتبكة مع السلطة، كما يحيل ذلك أيضاً إلى تأويلات متضمنة بين الفصل لطرفي الثنائية، أو التصالح، حيث لو ما كان شرط الأميرة سلطوي لما كان نال الشاعر الحقيقي الوحيد بالعرض جزاء الموت، والتصالح هو أن تعامل السلطة كل أنواع الفنون أيًا ما كانت أشكالها وتنوعتها معاملة فنية مواكبة لعصرها دون تحديد خطاب محدد هو الأفضل والباقي ليس له أهمية كما فعلت الأميرة بصفتها السلطة.
التسيس لم يكن أسلوباً مسرحياً يناقش قضايا سياسية، بل هو في ذاته سياسة يتبعها الكتاب كي يمررون إشكاليتهم بصور متحايلة ودون خطابية فجة، سواء أكانت هذه الإشكاليات سياسية أو غيرها
فإذا استوعبت الأميرة كل الألوان الشعرية التي عرضت عليها وقدرتها بصفتها نتاج فني ما كان سيحدث نفس المصير للشاعر الحقيقي الوحيد بالعرض وينال القتل بالنهاية، وتشمل السلطات هنا رقعة أوسع من الحكم المعروف بأشكاله، بل السلطات المتحكمة في الفنون أولاً -وذلك بالاتفاق أن الشعر هو ممثل الفن أجمع- وأولها الرقابة بصفتها سلطة تجيز النصوص أو ترفضها، بأن لوناً واحداً هو الأفضل هو من يولد ذلك الصراع حتماً ويقضي على أي ألوان جميلة ويخفي التنوع.
وذلك ما حدث مع كاتب المسرحية نفسه الذي أضطر عند اختياره أطروحة مثل أطروحته الثرية فكرياً أن يذهب للإحالة وأسلوب مسرحي مرت عليه سنوات عدة، بصفته فناً لابد من أن يكون بصورة معينة لأنه خاضعاً لسلطات لم يقدر على التحرر منها، فاستخدم حيله شأنه شأن ذلك الشاعر الذي يريد الحب والحكمة، فوضعت له السلطات شروط فأضطر حينها أن يلجأ للحيل وانتهى أمره بالموت وسرقة فنه.
يختتم كاتب المسرحية قوله لنا: لا أطالب بإلغاء الرقابة كاملة بقدر ما أطالب بتحديد دورها داخل أٌطر وقوانين معينة، وموظفين لهم آراء ضد الأفكار والحريات، وهذا التقنين لدورها سيتيح الحرية للكاتب أن يضيف شيئاً مؤثراً وفاعلاً لمجتمعه بعيداً عن تلك الوسائل والحيل الكتابية المختلفة التي يلجأ إليها المبدع لتمرير إبداعه ومقولته الأساسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...