قبل أعوام قليلة لم يكن لهذا الملف أن يكون، فالذين كانوا يتجاوزون هذا السن، كان عليهم الاختباء إن أحبوا وعشقوا، حتى الدراسات الاجتماعية والعلمية لم تكن تتناول سوى موضوع الحب والحياة الجنسية قبل هذا السن.
حالياً، مع تطور الطب وبالتالي إمكانية العيش لمدى أطول، بدأت بعض الدراسات تهتم بالحب بعد الخمسين، متناولة تأثير انقطاع الطمث عند النساء على حياتهن الجنسية، كما تتطرّق إلى إحصاء يقول إن رجلاً من اثنين يواجه مشاكل في الانتصاب بعد الخمسين، في ملفنا سنحكي تجارب متنوعة ونظرة علم الاجتماع إلى الفارق بين الأمس واليوم، وأموراً أخرى تنطق بأبجدية الحب بعد الخمسين.
هل نحب جميعاً بالطريقة نفسها؟
الحب، هذا الشعور الحميم والخاص والشخصي، له أيضاً تاريخ، ويصلح بالتأكيد للبحث السوسيولوجي. يلاحظ بيير بورديو، عالم الاجتماع الفرنسي الشهير، في كتابه "الهيمنة الذكورية" أنه "عندما نتحدّث عن الحب، ليس من السهل الهروب من خياري الشاعرية والاستهزاء، الملائكية والاختزالية"، وبرأي الفيلسوف الفرنسي المعاصر فنسان سيتو، أن الهروب من هذه البدائل يعني من ناحية، الاعتراف بعدم إمكانية اختزال الشعور بالحب في حد ذاته، الشعور بالحب كأي شعور وأي نبرة، ومن ناحية أخرى، علينا فهم أن الطرائق المتعدّدة لهذا الشعور محدّدة اجتماعياً وتاريخياً. لا يمكن أن يظل الحب غير مبال بطبيعة العلاقات الملموسة للعشاق، والتي يتم تأطيرها من قبل مجموعة من المؤسسات الاجتماعية، كالأسرة والزواج والدين والأعراف والأخلاق والعمل ووقت الفراغ، إلخ...
نحن اليوم نتابع ما بدأناه مع قصص النساء اللبنانيات الثلاث، ماريز، جنى وجمانة، وسنتناول مع الباحثة في الأنثروبولوجيا والإعلام والأستاذة الجامعية الدكتورة ليلى شمس الدين، عوامل تبدّل النظرة السوسيولوجية للنساء العاشقات بعد سن الخمسين في لبنان، وتناولت مفاعيل تنوع الثقافات على قدرة المرأة أن تكون سيدة قلبها وجسدها.
المفاهيم الخاطئة تشكّل تحدّيات مجتمعية، خاصة بالنسبة للنساء المتقدمات بالسن، أما الرجل، فحتى لو كان متقدماً في العمر، يمكن بسهولة أن يُقدم على الزواج من فتاة بوجود فارق كبير بالعمر يصل إلى 20 أو 30 سنة، وبالمقابل إذا كانت المرأة أكبر من الرجل بسنة أو اثنتين تكون كارثة
العمر ليس الحاكم
قبل استعراض العوامل التي أدت إلى تبدل النظرة سوسيولوجياً، أوضحت الدكتورة شمس الدين عن السن الذي تتوقف فيه المرأة عن الحب في لبنان: "في لبنان، بحسب أبحاثي وأبحاث الآخرين، لسنا مجتمعاً واحداً. نحن مجتمعات وبيئات متعدّدة، هنالك تميز واختلاف في التعبير عن المشاعر في كل شيء، لا رتابة عندنا، ان كنا في بيئة تنظر إلى المرأة ككيان وكإنسان له الحق في التعبير عن مشاعره، حتى وإن كان عمرها 85 أو90 عاماً، يحترم شعورها وتستطيع التعبير اجتماعياً عن قدرتها على الحب والعطاء، ولكن في بيئات ثانية، قد تكون الفتاة في سن الـ 20 ولا تستطيع التعبير عمّا تحسه، وهذه نقطة أساسية يجب التشديد عليها.
ولإجابة أكثر دقة، أنطلق من أن الحب هو تجربة إنسانية، أساسية وعلنية، لا تقتصر على العمر ولا على الجنس، ولكن لا يمكن لنا أن نغفل التصورات والقوالب النمطية والمجتمعية حول الحب والعلاقات التي يمكن أن تخلق أحياناً مفاهيم خاطئة أو تحديات للأفراد، خاصة مع تقدم السن.
من بعض التعابير المطروحة مجتمعياً، هناك تعبير سن اليأس الذي كان شائعاً في السابق، اليوم تغيّرت التسميّات، فعندما تنقطع عن المرأة إمكانية الإنجاب توصف باليأس، وبالتالي تصبح امرأة لا تشعر باللذة، ولا يحق لها أساساً أن تطلبها أو أن تعيش حالة الحب.
هذه المفاهيم الخاطئة تشكّل تحدّيات مجتمعية، خاصة بالنسبة للنساء المتقدمات بالسن، أما الرجل، فحتى لو كان متقدماً في العمر، يمكن بسهولة أن يُقدم على خطبة فتاة أو الزواج منها بوجود فارق كبير بالعمر يصل إلى 20 أو 30 سنة، وبالمقابل إذا كانت المرأة أكبر من الرجل بسنة أو اثنتين تكون كارثة.
وعن الإشباع العاطفي، قالت الدكتور شمس الدين: "كثيرون يقيمون علاقات حب دون الوصول إلى هذا الإشباع، وذلك في بدايات أعمارهم، يمارسون فعل الحب ولكن دون الحصول على تواصل عاطفي فعّال يحمل لهم الإشباع. مع الوقت تتطور العلاقات وتتطور نظرتنا إليها أيضاً، وبالتالي تتغير طبيعة الحب الذي بداخل المرأة، لكن هذا لا يعني ان القدرة على الحب والتجارب تتوقف. قد يقال عن هذه المقولة إنها شعارات، ولكن في الواقع ليس الأمر كذلك، إنها أسس تربيتنا وصحتنا النفسية، فالدعم والمشاركة الاجتماعية قاعدتان حاسمتان حتى نعبّر عن أعمال الحب وعن أحاسيسنا ومشاعرنا ورغباتنا بالمحبة، هنا أود أن أشدّد لماذا العمر ليس لوحده الحاكم، إننا نرى في أنشطة اجتماعية وفي شؤون تطوعية نساء فوق الخمسين وإن كنّ في منازلهن، نرى قدراتهن الكبيرة على بذل الحب، وعلى التعاطف الإنساني مع الآخرين. وهذا الأمر كله محكوم بتباين الثقافات وكيفية تنمية النظرة بالعلاقات بين الأجيال بالنسبة لكبير السن أو صغيره، وهنالك التباين الفردي، إذ إن النشأة والتجارب تؤثران في كيفية تعبير الناس عن سعادتهم بأشكال مختلفة عن الحب والتواصل أو بالكشف عنها. بالخلاصة، بحسب البيئة وبحسب شجاعة المرأة وقدرتها على التعبير وعدم خجلها مما تخوضه، بمعنى أن لا يكون الخجل هو المعيار الذي يجعلها تتراجع عن الإعلان عن مشاعرها وعن التصريح عنها، وبالتالي ثمّة أشكال مختلفة للتعبير عن هذا الحب مع تقدم المرأة في السن".
أما عن مدى تبدل النظرة الاجتماعية في لبنان للمرأة التي تنشد الحب بعد الخمسين، والعوامل التي أدت إلى تشكيل مختلف لهذه النظرة، تشير الدكتورة شمس الدين، إلى أن هنالك دائماً مجموعة من العوامل التي تساهم بتكوين نظرة اجتماعية أو تساهم بحدوث أي تحول في المعتقدات الاجتماعية السائدة في منطقة معينة أو في مجتمعات معينة، عادة ما تكون هذه العوامل مرتبطة ومترابطة مع بعضها.
والتطور الثقافي من هذه العوامل، ليس فقط في لبنان بل في العالم كله، وتسارع جداً في الثلاثين سنة السابقة، إذ حدثت تغيّرات بالأعراف والقيم والتقاليد الثقافية المتوارثة بسبب الانفتاح العالمي الذي فرضته الثورة التكنولوجية التي تجعلنا على اطلاع دائم على كل شيء في المجتمع، ومع الوقت تبدّلت النظرة الاجتماعية، وتركت آثارها وتبعاتها على التصرفات وعلى انبثاق وجهات نظر ثقافية جديدة: التغير التكنولوجي، التواصل الاجتماعي، الإعلام والفضائيات كلها تتحرك، كما في دول كثيرة، تحت الضغط الدولي.
هذه التقنيات ساهمت بأن يتبادل الناس المعطيات ويتفاعلوا مع بعضهم البعض، وبالتأكيد هذا أحدث تغييرات بالمواقف والتصورات الاجتماعية.
دور المنظمات الاجتماعية
وبحسب شمس الدين، فإن القوانين والسياسات الداعمة تتحرك في لبنان، كما في دول كثيرة، تحت الضغط العالمي والمحلي، بوجود المنظمات الإنسانية الاجتماعية الداعمة لقضايا معينة. هذه القوانين والطروحات والسياسات تساعد وتساهم بتشكيل رأي عام جديد وتؤثر أيضاً على المواقف الاجتماعية، كذلك التغيّرات بالتركيبة السكانية والحركات الاجتماعية التي تدافع عن حقوق الإنسان، عن المساواة بين الجنسين، عن العدالة الاجتماعية على أكثر من مستوى، كل هذه الأسباب تجتمع لتقدم نموذجاً جديداً يتحدّى الأعراف الاجتماعية السائدة، وبالتالي يؤدي إلى تحول في المواقف والقيم.
بعض النساء قد يتفوقن بعد سن الخمسين بالفعل بخوض تجربة الحب إذا ما توفّرت العوامل، في حين نرى أن هناك نساء أخريات قد تكون لديهن نقاط قوة وتحديات خاصة بهن، لا يستطعن الإبحار في هذا العالم الجميل، أن يقفزن فوق سنوات العمر ويتركن لمشاعرهن العنان
تناولت الباحثة شمس الدين، أهمية دخول المرأة معترك التعليم والعمل وتسلمها مناصب كبيرة في أكثر من مجال وميدان، وحصولها على شهادات في تخصصات متعددة، من كل ما سبق، تتشكَل نظرتها للعالم وتصرفاتها، كما أشارت إلى التغيّرات في النظرة إلى المعتقدات الدينية التي تترك آثارها على النظرة الاجتماعية وعلى القيم الأخلاقية داخل المجتمع، والإطار الذي يحيط بها، أي العوامل النفسية الفردية، مثل سمات الشخصية، التحيّزات المعرفية والاستجابات العاطفية التي تؤثر على كيفية إدراك الناس للقضايا الاجتماعية وتفسيرها.
كل ذلك ترك تبعاته على شكل المرأة، تصرفاتها وسلوكياتها، وبالتالي على تحرّرها من قيود كبّلتها، وأضحى الحب مشروعاً في أي مرحلة من مراحل العمر. لم يعد العمر هو المعيار الأساسي للحدّ من التعبير عن المشاعر والعواطف، وأكدت على دور التطور الطبي والصحي السائد في لبنان والعالم والذي جعل الناس تعيش وقتاً أطول، إذن، الحب مشروع حتى آخر لحظة من لحظات العمر.
أهمية الصحة النفسية
وردّاً على استفسار إن كانت النساء اللبنانيات اللواتي تعدين الخمسين اليوم هن سيدات قلوبهن وأجسادهن؟ أجابت د. شمس الدين، أن القدرة على التعبير عن الحب تتأثر بالتجارب الفردية والشخصية وبالظروف التي تعيشها المرأة. علمياً ليس من الدقة إطلاق تعميمات واسعة حول قدرة المرأة فوق سن الـ 50 على التعبير عن الحب وممارسته، والأبحاث العالمية تتحدث عن عوامل تساعد أن تتوافر لدى النساء قدرة على التعبير عن الحب وممارسته، وأن يعشن هذا الحب بقلوبهن ويمارسنه فعلاً حتى فوق سن الخمسين. "ننطلق من تجربة الحياة، بمعنى أننا نتناول الفتاة منذ نشأتها، منذ تكوينها في رحم والدتها، إلى ولادتها والبيئة التي تتربى فيها والمدرسة التي تقصدها والمجتمع الذي تحاكيه والاختصاص والعمل داخل المنزل أو خارجه، اختيار الشريك وطريقة اختياره والعلاقة مع هذا الشريك، معارفها وإدراكها، كل ما سبق يساعد أو يعيق أن تفهم جسدها ورغباته أكثر وحاجاتها النفسية، من هنا أهمية التشديد الذي نشهده على ضرورة العناية بالصحة النفسية في مجتمعاتنا العربية بشكل عام.
كل هذا التطور العلمي والإعلامي والتدرج التعليمي أنتج وعياً وطرحاً لقضايا حدّ من انعكاسات الاحتكار والممارسات التي كانت تعتبر تابو ولا يمكن ان نقترب منها.
كما أن النضج العاطفي والقدرة عن التعبير من الأمور الأساسية، وبيئة المرأة، صفات يمكن أن تمنحها انسجاماً عاطفياً وروحياً وجنسياً ونفسياً، وإن لم يكن لديها مانع مرضي معين، يمكنها أن تتمتع فوق الـ 50 بقدرة أكبر على فهم مشاعرها ومشاعر الآخرين، وبالتالي هذا الأمر يسمح لهذه المرأة بالتعبير عن الحب بطريقة معينة تشعرها بلذة وتشعر الشريك أيضاً باللذة ذاتها.
وهذا طبعاً أمر يحتاج إلى مهارات العلاقات، اكتساب هذه المهارات وممارستها تجعل المرأة ماهرة في الحفاظ على علاقة الحب ورعايتها، أو على إقامة علاقة حب جديدة. إن الغوص في الذات والشعور والبحث عن الملذات في الحب يساهم في التمتع بصحة نفسية سليمة، وللمرونة دور، فكيفية تأهيل المرأة أو الفتاة خلال سنوات التنشئة على التكيف مع التحديات وتجاوزها، وأحياناً مع بعض النكسات، وبالتالي هذه المرونة التي اعتادت عليها تبرز في طريقة تواصلها مع الشريك والبحث عن الحب وممارسته حتى في الظروف الصعبة.
لو نظرنا إلى صور أمهاتنا وجداتنا وهن في الخمسين لفهمنا كل الحكاية، لسنوات خلت كان بلوغ هذا العمر ضربة موجعة، خصوصاً للنساء، اليوم المرأة في الخمسين تتألق، تزهو بنفسها، تختار من تحب ولا تخشى لوماً ولا عمراً
الوعي في هذه المسالة أمر إيجابي جداً، وهذه المسالة فردية وشخصية، بعض النساء قد يتفوقن بعد سن الخمسين بالفعل بخوض هذه التجربة إذا ما توفّرت العوامل، في حين نرى أن هناك نساء أخريات قد تكون لديهن نقاط قوة وتحديات خاصة بهن، لا يستطعن الإبحار في هذا العالم الجميل، أن يقفزن فوق سنوات العمر ويتركن لمشاعرهن العنان.
الاختيار بلا خجل
وعن ذاكرتها ومشاهداتها الشخصية للبنانيات عشقن بعد الخمسين، ردت الدكتورة ليلى شمس الدين: "شهدت هذا العشق لنساء حتى أبعد من الـخمسين، ورأيت نساء يعشن المحبة ويبحثن عن العشق في مختلف مراحل حيواتهن، يخترن ولا يخجلن مطلقاً من التعبير عن عواطفهن، يطلبن ويمارسن ما يمنحهن حالة الإشباع التي سبق وتناولتها. شهدت أكثر من تجربة لنساء فاعلات في المجتمع، لهن مكانتهن ودورهن، يبحثن دون تردّد عن علاقة حب يمارسنها ويرسمن مسار حياتهن كما يردن، دون الالتفات إلى بعض التحديات أو إلى بعض التشويش المجتمعي السائد، طالما يستطعن أن يمارسن أدوارهن بأخلاقية ورقي وقيم يؤمن بها".
تغيّرت النظرة إلى المرأة في الخمسين وما فوق. لو نظرنا إلى صور أمهاتنا وجداتنا وهن في الخمسين لفهمنا كل الحكاية، لسنوات خلت كان بلوغ هذا العمر ضربة موجعة، خصوصاً للنساء، اليوم المرأة في الخمسين تتألق، تزهو بنفسها، تختار من تحب ولا تخشى لوماً ولا عمراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...