قبل عامين، أخفى عصام عدسة هاتفه بالقرب مني مباشرة، كنت أجلس على كنبة منزله، كانت كاميرا الهاتف مسمّرة بقربي تماماً، وفي وضعية التشغيل، وعلى الرغم من ذلك، لم أنتبه لها. ابتعد ليحضّر لنا الشاي ثم طلب مني أن أفتح علبة "الشيبس" التي كانت بجانبي، فتحتها بسذاجتي وإذ بي أتفاجأ بلعبة تقفز في وجهي، صرخت من الصدمة، على الهواء مباشرة، شتمته، ثم أدركت بعدها أن التسجيل كان هدفه أن يسخر من سذاجتي.
لطالما عرف كيف يخفي كاميرته: في الرقة، في العراق، في أوكرانيا، وكل الجبهات، لكنه يوم الثالث عشر من تشرين الأول/أكتوبر لم يستطع إخفاءها في علما الشعب، فاستشهد.
انتظرت حتى يوم السبت، بسذاجتي المعتادة، علّه يخرج من سباته في الخيام، فلا أتفاجأ. كنت أشاهد البثّ المباشر، حين أخرجوه من المستشفى الإيطالي، ثم حين وصل إلى منزل عائلته في الخيام، وعاد وخرج منه. طال انتظاري، وعلى كل المحطات لم يخرج عصام ليسخر مني ونامت اللعبة في التراب.
أكانت "مزحة" ثقيلة يا عصام؟ يبدو أنك لم تسخر مني هذه المرة، بل سخرت من الحياة ورحلت.
انتظرت حتى يوم السبت، علّه يخرج من سباته في الخيام، فلا أتفاجأ. كنت أشاهد البثّ المباشر، حين أخرجوه من المستشفى الإيطالي، ثم حين وصل إلى منزل عائلته في الخيام، وعاد وخرج منه. طال انتظاري، وعلى كل المحطات لم يخرج عصام ليسخر مني ونامت اللعبة في التراب
تحدثت إليك قبل أيام، قلت لي: "لا أعتقد أنني سأذهب للتغطية في الجنوب هذه المرة، فعائلتي أولوية بالنسبة إلي"، عن أي عائلة كنت تتحدث؟
لم أقو حتى اليوم على رثائك، ربما لأنني لم أصدّق بعد، أو لأنني لم أزر مدينة الخيام، ولم أر شاهدك، لكنني شهدت على لحظاتٍ أقول إنها أصعب ما خبرته خلال ثلاثةٍ وثلاثين عاماً.
دعني أقول إنها رسالة، لربما محاولة في التعبير، أو إخراج ما يختلج في صدري المثقل هذه الأيام، علّني أخفف من الأدوية.
عندما تواترت الأخبار والمشاهد، ورأيت صورك وقد عُلّقت في شوارع الحمرا، خاصة صورتك التي وثّقت لحظاتك الأخيرة بعلما الشعب، حين رأيتها ترفع في شوارع أوروبية، نظرت بعينيّ إلى نفسي، ورحت أبحث عن صورك القديمة في أرشيفي: هنا صورة لك في شارع الحمرا، وهذه من العام 2007 في أهرامات مصر، والكثير من صورك التي كنت قد أرسلتها لي خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية، في غير مكان وغير زمان.
قلة قليلة من الصور جمعتنا. حزنت في البداية، ثم فكرت يا عصام في السبب، وهدأ حزني. تذكرت أننا من فيض ما كنا ننثر أحزاننا وأخبارنا، نسينا أن نتصور.
أكانت "مزحة" ثقيلة يا عصام؟ يبدو أنك لم تسخر مني هذه المرة، بل سخرت من الحياة ورحلت.
في كل مرة كنا نلتقي، لم يكن للصمت مكان بيننا، دائما ما كان الهاتف يتسمّر جانباً بعيداً عنا، لكنني عدت وتذكرت كيف تغيّر أداؤك مؤخراً، في المرات الأخيرة التي رأيتك فيها، كنت تلتقط الكاميرا، وتدعوني لأخذ صورة، ثم طلبت مني مرة نسخة من بطاقتي التعريفية بالجزيرة، قلت لي: "سأضعها بجانب صورتنا على لوح في منزلي"، اللوح الذي وضعت عليه صوراً للمقربين. هل كنت تعلم؟ هل شعرت بشيء مختلف؟ لا أعتقد ذلك، لا أحد يمكن أن يجيب باستثنائك.
يوم لقائنا الأخير، تحدثنا كثيراً، قلت لي: "اقتربي، دعينا نوثق اللحظة". التقطت صوراً لي وحدي على غير عادتك، نسيت أن أطلبها منك، كيف غاب عني هذا التفصيل يا عصام؟
في طفولتي، كانت جدتي تردّد هذه العبارة أمامي كلما شعرت بالخوف: "أبو الحسنين ساكن البحرين". يقال إن هذه العبارة مشهورة جداً بين كبار السن في إحدى مناطق الجنوب اللبناني، كانوا يقولون إنها أرضٌ لا تطالها شائبة، منتصرة دائماً، محمية لا يخاف المرء إذا ما سكنها، وكان يحدّ المنطقة نهرين، أحدهما الليطاني.
كانت تشعرني تلك الجملة بأنني محمية دائماً، بأنني لن أشعر بحزنٍ عميقٍ يوماً، وربما لن أعافر خبر موت عزيز. صدقتها، أو ربما توهمت.
رحلت جدتي، وبعدها توالت اللحظات، فقدت أبي فجأة، واليوم أفقد صديقاً عزيزاً.
هل ما يزال أبو الحسنين يسكن البحرين يا آسيا؟ أخبريني، هل ستلتهمنا الحرب؟ أم سيسكن عصام البحرين مجدداً فيكون النصر؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين