شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الرحلة إلى القدس بين المتعة والعذاب

الرحلة إلى القدس بين المتعة والعذاب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الاثنين 6 ديسمبر 202104:46 م

على بعد 10 دقائق من رام الله التي أصبحت مستقراً ومقاماً، مؤقتاً بطبيعة الحال، أو بطبيعة الاحتلال، حين يتعلق الأمر بشخص مثلي يعود من الزمن الماضي إلى أرض الأجداد، على متن تصريح تصدره السلطة الفلسطينية، إلا أنه مليء بالرموز العبرية، ما يعني أنه مرّ من تحت ناب الاحتلال، على بعد 10 دقائق فقط، تقع عاصمة ألهمت الدنيا شعراً وحِكَما، وتضحياتٍ وحروباً، حتى طحنت على أبوبها أعتى الجيوش، أو صارت هي مقبرة لجيوش تحصنت فيها، قبل أن تدور الأيام دورتها.

على بعد 10 دقائق من هنا، تقع مدينة تتشبّه المدن باسمها سموا وعلوا، فتصوغ صفات من اسمها، تقدس طائفة من الناس مدينة، فتضع بعد اسمها كلمة تصير مثل حديقة للزهو، فتقول: مدينة كذا المقدسة. أما القداسة هنا، فهي اسم لا صفة؛ اسم يحكي قصة السماء حين اتصلت بالأرض على نحو غامض. القدس على بعد 10 دقائق، لكنها تصير أطول من عمر المدينة لمن لا يستطيع دخولها.

عدنا من أمسية الخليل الرحبة جداً، متعبين. قلت لعلي الزهيري: سأصلي غداً في الأقصى. ضحكنا حتى بللنا البكاء الطويل، حسرة وعجزاً وألماً. كان الألم يومها عضوياً، حقيقياً وطازجاً. شيء ما يشبه ألم الأسنان لكنه يتملك الجسد بأسره. ألم حديدي بارد يسري تحت الجلد. المطر الذي كان يكسر الصمت في رام الله الباردة، كان يشعل ليلها ضجيجاً قوياً في الرأس، طمعاً بمشهد رأيناه مراراً على الشاشات؛ ماء الله يغسل القبة الذهبية في حديقة الأنبياء والملوك، في القدس.

لا سبيل إلى العاصمة سوى الطرق الخارجة عن قانون المحتلين، أخذني صديقي الشاعر عامر بدران بسيارته إلى أطراف رام الله، لنشرف على سجن عوفر، وأضواء مدينة القدس البعيدة، عامر بدران ضحك حين سببته وهو يقول: "هذا الشارع المضاء اسمه طريق القدس – يافا". سببته و ضربته بقبضة يدي في كتفه. الأصدقاء هناك جارحون وجميلون، عرفات الديك، الشاعر الصديق حين مازحته قائلاً: "رايح على يافا"، قال لي: "انبسط عنّا"، جرحتني ابتسامته ولم يدرِ.

تقدس طائفة من الناس مدينة، فتضع بعد اسمها كلمة تصير مثل حديقة للزهو، فتقول: مدينة كذا المقدسة. أما القداسة هنا، فهي اسم لا صفة

استيقظت يوم الجمعة على صوت الأذان، دون أي تخطيط بدلتُ ملابسي. اتصلت بالزهيري لأخبره: "أنا رايح عالقدس". تأفف علي. وقال لي: "كن بحجم المغامرة!".

لبستُ معطفي، أخذتُ تاكسي إلى قلنديا مثل مجنون وقع في الحب على غفلة. ظللت أرتب شعري طوال الطريق، أفرغت علبة عطر الجيب على وجهي وملابسي، أخذت سيجارة، وأعدتُ ترتيب ملامحي.

كان لدي زميل دراسة ثرثار، تخرج من كلية الفنون الجميلة، وكان مجاملاً حدّ النفاق، وطيباً حد الابتسام بلا سبب، وخجولاً كما لا ينبغي لشاب ينهي فصله الأخير في دراسة المسرح. قال لي مرة إنني أصلح للتمثيل، لم أصدقه لشدّ ما جامل أصدقاء أمامي، لكنني كنت مضطراً في تلك الظهيرة للوثوق به، أو الاستيثاق بما قاله كحبل للصعود من البئر، بئر الدنيا باتجاه القدس.

دخلت في دور الساذج الذي لا يعرف لأقنع الجندي الإسرائيلي على حاجز قلنديا بأنني أردني، أتيت هنا بدعوة من متحف محمود درويش وسأصلي الظّهر كما المسلمين في الأقصى وأعود إلى رام الله، وأتظاهر بأنني لا أعرف شيئاً عن منع فلسطينيي الأردن والأردنيين من دخول القدس. طلب الجندي جوازي وتصريحي. أعطيته الجواز، وكنت أحاول إخراج التصريح من جيبي، حين أشار بيده في لحظة ملل داخل مقصورته المحاطة بفولاذ وزجاج مقوى: ادخل.

حتى الآن لا أعرف كيف تمالكتُ أعصابي حينها. خرجت من الفيلم لأدخل الواقع، الواقع بأكمله، الواقع الحقيقي كبداية الكون، الغامض كوجود جيش الاحتلال على الحواجز. الحقيقة كلها أمامي: قبّة الصخرة. ذهب على أزرق كبحر نتأ فيه كنز. ارتجفت طويلاً. أصابني ذهولٌ و تشنّ. أنا الآن تحت عرش الله تماماً! هكذا خاطبتُ نفسي. مليون مرة حاولت أن أسحب موبايلي من جيبي لأتصل بعلي الزهيري، ولكن دون جدوى. في المرة الأولى نسيت يدي في جيبي، في المرة الثانية نسيت الموبايل في يدي، في الثالثة سقط من يدي وانتشرت أحشاؤه في كل مكان، نزلت لألمّه، فانهرت. قبّلتُ الأرض وبقيت ساجداً لدقائق. أيقظتني رائحة الكعك القدسي الشهير: انهض أنت في القدس الشريف!

اتصلت بالزهيري، ولكن الصلاة كانت قد انتهت. قلت لا بأس فالمشي في القدس صلاة. وصل الزهيري قلنديا فأعادوه، ولكنني ظللت أنتظر. جُستُ خلال الديار. غموض كان يجلي غموضاً، وسر يشكف سراً، لا ضياع ولا هدى، لكن الأمر أشبه بتفقد إرث قديم.

التقيت فتى اسمه نضال، مرابط في الأقصى، يأخذ الناس ليدلهم على المرافق، ويساعدهم بأخذ صور مع إرث السماوات، كما يأخذهم في جولةٍ حول المسجد. أخبرني أثناء الجولة أنه يرابط يومي الجمعة والسبت، وأن أخاه يرابط الأربعاء والخميس، وجدته ترابط باقي الأسبوع، والمرابطون هم أولئك الناس الذين يهملون أشغالهم وأعمالهم، ويأتون للأقصى حفاظاً على ساحته ممتلئة، وسعياً لخدمة الزوار، وذوداً عن مصلحة المسجد ومحتوياته، وهم أول صفوف المواجهات، عند اقتحام الاحتلال المسجد.

سلّمتُ على شاب أمريكي يضع الكوفية الفلسطينية على كتفيه وسألته عن زيارته، فقال لي: أزور القدس بين الحين والآخر، وأنت؟ فأخبرته بأنها زيارتي الأولى، فقال لي: أهلاً بك في القدس!

أخبرني نضال أيضاً أن كثيرين من مشاهير فلسطين وغيرها، يزورون الأقصي تسللاً أو خفيةً، وذكر لي في من ذكر أصالة نصري الفنانة السورية، وغيرها. شعب كهذا يتفهم الجميع ويحتويهم، يشبه بلادنا. شعب كهذا يبهجنا أن تنتمي إليه. شعب كهذا جدير بالصمود.

حلّ الغروب، لأكتشف أنني أمضيتُ ستَّ ساعات سيراً على الأقدام في اتجاهات لا أعرفها، لولا دلالة القِبلة، في مناطق لا تعرفها خطوتي، لكنني أدرك أسماءها بالفطرة، في القدس. القدس التي لم أرها من قبل إلا في البوسترات الموزعة في مخيم الوحدات في عمّان، ها أنا أمشي في شوارعها وألمس مقتنياتها بيدين واهنتين، وهي القوية التي تمنحني كل شيء. قضيت وقتاً طويلاً حتى وجدتُ فندقاً متواضعاً تعود ملكيته لعربي، ربما لأنني لا أعرف المدينة جيداً. آه كم توجعني هذه الجملة! أنا لا أعرف العاصمة جيداً.

دخلتُ غرفة الفندق الذي بدا مريباً بعض الشيء. موظفة الاستقبال هنغارية معترفة بإسرائيل، لأنها أعطتني الخارطة، ولا شعورياً وضعتُ يدي على يافا. قلت: هذه لي. ضحكت وهي تقلب جوازي الأردني بيديها، قالت بإنكليزية غير محكمة: كيف؟ أنت أردني. قلتُ لها أنا من يافا، أنا من كفرعانة في قضاء يافا، وتقع إلى الجنوب الشرقي لمركز المدينة، تبعد 10 دقائق عن المركز، وتشتهر بأشجار البلوط والفطر والمواشي، وهي ممتدة ككف اليد، غير أن تلالاً صغيرة تزينها. تعجبتْ وأعطتني بطاقة الغرفة وهي تضحك: "يافا في إسرائيل، أنت أردني. لستَ إسرائيلياً!".

كيف لرجلٍ عاديٍ مثلي أن ينام في القدس؟! رحت أقلب الصور في رأسي، اليهود الأرثودوكس "السكناج" ينتشرون في المكان؛ السيّاح الآريّون أيضاً، يحملون ابتساماتهم الملمّعة ويجوبون المدينة؛ المقدسيون الأصيلون يتصرفون بشكل طبيعي، أنا الوحيد هنا الذي أحس ابتسامتهم نصلاً. أنا الحزين الوحيد في هذه الغرفة المقدسة، أنا المجنون الوحيد والعاقل الوحيد. تذكرتُ كل الآلام التي مرت بي ذاك النهار ومررت بها. يهودية شابة سألتني عن بار في شارع يافا، فأشحت بوجهي عنها وأجابها نضال. سلّمتُ على شاب أمريكي يضع الكوفية الفلسطينية على كتفيه وسألته عن زيارته، فقال لي: أزور القدس بين الحين والآخر، وأنت؟ فأخبرته بأنها زيارتي الأولى، فقال لي: أهلاً بك في القدس! سقطت ضحكتي أرضاً وقلت له: أهلاً بك في عاصمتنا؛ عاصمة فلسطين. ضحكَ ضحكةً خجولةً واستأذن وغادر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image