هناك تسميات تُعرض على الشاشات الإعلامية للتعبير عن معنى سياسي أو اجتماعي أو غير ذلك وقد لايُفرّق المتلقّون بينها وبين توأمها الذي تستخدمه قناة إعلامية أخرى، وقد يعي المتلقّي/ة الحاذق/ة الفرق بين المفردتين، وبالتالي يتابعون القناة التي يجدون فيها تسميات تروق لهم، خاصة هذه الأيام التي تعرض الشاشات الإعلامية مَشاهد مؤلمة من فلسطين تجعلنا نفقد القدرة على التحكم بأنفسنا في مؤازرة الشعب الفلسطيني، خصوصاً وأننا نشاهد الأطفال كيف يُقتلون والأُسر كيف تفارق الحياة وإن نَجا بعضٌ منها.
الشاشات لم تعرض مَشاهدَ الحرب القائمة في فلسطين وحسب، بل أصبحت ساحة لفرض بعض التسميات واستخدام بعض المفردات التي تُعبّر عن توجهات قد تكون مثيرة للغضب بالنسبة للبعض ودقيقةً صحيحة بالنسبة للبعض الآخر، حتى أصبح البعض يتابعون قناة خبرية ليس لجودة تغطيتها للأحداث في فلسطين، بل لاستخدامها تسميات تُرضي ضميرهم وتشفي غليلهم. ومن القنوات شاعت تلك التسميات إلى الشارع وأصبحت محل نزاع بين الناس.
هناك قائمة طويلة من الثنائيات التي جعلت من الساحة الإيرانية الداخلية ساحة حرب ساخنة بين المفردات، بل بين الخطابات التي مزّقت المجتمع الإيراني دون أن تُنعش فيه التعددية وتُعزز فيه قبول الآخر
"دولة إسرائيل-الكيان الصهيوني"، "الأسرى الإسرائيليون-الرهائن الإسرائيليون"، "الأراضي المحتلة - الأراضي الإسرائيلية"، "قوات المقاومة-عناصر حماس" هي جزء من الثنائيات المستحدثة في العقل السياسي الإيراني والتي أصبح الشعب الإيراني ينقسم حولها إلى جبهتين جبهة "فلسطينية" وأخرى "إسرائيلية" تابعة لنهج الغرب في التعبير عما يتعلّق بفلسطين.
وقد تكون ذروة الخلاف بين التيارين انعكست في ثنائية "الشهيد-القتيل"، فمن يسقط في غزة هذه الأيام يصفه الإعلام الرسمي الإيراني بـ"الشهيد" ومن يسقط من الجانب الإسرائيلي يصفه بـ"القتيل"، وهي أوصاف لم تظهر في فراغ، بل لكل منها رصيد خطابي، تنطلق المنصّة الإعلامية من هذا الرصيد، بل تهدف للترويج له.
كان العقل الإيراني قبل عقود يدعم القضية الفلسطينية بكل مكوّناته السياسية والثقافية والدينية، بينما ظهرت توجّهات جديدة وقنوات إعلامية شقّت طريقها عن هذا الخطاب التقليدي، ومسحت مفردة "الشهيد"، فأصبح الفلسطينيون والإسرائيليون كلاهما "قتلى". كيف يمكن تفسير ذلك؟
يعتقد الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو بأن المعرفة ليست مجرد انعكاس للواقع، إنما الحقيقة تُحدّدها قراءةُ ذلك الواقع. القراءة هي التي تُحدّد ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي أو زائف.
ويُبرهن فوكو بأن تلك القراءة تنطلق من منظومة خطابية تؤطر الفكر وتصنع الرؤية التي تظهر من خلال الألفاظ التي يصفها المتفقهون بالدالّ، وكل دال له معنى، والمعنى هو المدلول. هذا إلى جانب ما يقوله فوكو يعني أن المفردات لها دلالات خطابية واسعة تفوق المعاني الانتزاعية المعروفة لها.
وما يرجح دراسة الواقع الإيراني من منظور فوكو هو أن الأجيال الإيرانية الجديدة تعيش مرحلة يمكن وصفها بـ"القطيعة المعرفية"، بحسب الفيلسوف الفرنسي، غاستون باشلار، حيث تمت نشأتها الاجتماعية عبر وسائل إعلام منفصلة تماماً عن الإرث التاريخي، وبالتالي انقطعت عن سيرورتها التاريخية، وبدأت مرحلة من العيش في الإطار الذي يرسمه الإعلام الغربي الذي صوّر الغرب بأنه الربّ الأعلى ولا يعلوا عليه شيء.
يعرف المتلّقي الإيراني وهو ذو وعي ليس بالقليل، خاصة في المجال السياسي، ويقوم بتفسير مغزى تلك التسميات التي تظهر على الشاشات ويُعيد استخدامها قناعة وليس جهلاً بها. فهو قد انفصل عن ذلك الخطاب الذي يدعم مفهوم "الشهيد"، وبالتالي فهو يعيد استخدام لفظ "القتيل" للفلسطينيين رفضاً منه للانخراط في الخطاب الإسلامي الذي يروّج له النظام الحاكم.
لا يُمكن الفصل بين هذا التوجه حيال القضية الفلسطينية وموقف الفئة المعارضة للنظام الحاكم أو التي تنتقد النظام، فهنا أيضاً تشتبك المفردات على ضوء احتدام معركة الخطابات وتظهر ثنائية "الإمام الخميني–السيد الخميني" على سبيل المثال؛ فبينما يصف البعض مؤسس الثورة الإيراني بـ"الإمام"، لا ينصاع البعض الآخر إلى هذا الوصف الديني.
وفي الإطار السياسي أيضاً ظهرت ثنائية "أعمال الشغب–الاحتجاجات"؛ فيصف الإعلام الحكومي في إيران الاحتجاجات المعارضة للنظام الإيراني بـ"أعمال شغب"، بينما يصفها الإعلام المعارض وأيضاً بعض وسائل الإعلام الداخلية المنتقدة لأداء النظام بـ"الاحتجاجات".
كما أننا شهدنا ونشهد حرب المفردات في ثنائية "الحرب المفروضة–الحرب الإيرانية العراقية"، فالنظام وأتباعه يعتبرونها حرباً فُرضت على البلاد من جانب النظام العراقي السابق، وبالمقابل يرفع الجانب الآخر غشاء المظلومية من إيران.
وفي موضوع الحجاب فإن ثنائية "الحجاب–الحجاب القسري"، تُعبّر عن وصف المعارضات الإيرانيات لارتداء الحجاب في إيران بـ"القسري"، بينما يتحدّث عنه مكون آخر من المجتمع الإيراني بعيداً عن الأوصاف التي قد تحط من شأنه.
وعندما يموت أحد المعارضين للنظام الإيراني تعج الشاشات بثنائية "هَلَكَ–قُتلَ"، فيقول الإعلام الحكومي مثلاً: "هلَكَ فُلان في عملية…"، بينما يقول المعارضون بأنه "قُتل" أو "اغتيل".
والثنائية الأشد قد تظهر بين الشعوب الإيرانية والوطنيين الإيرانيين في ثنائية "الانفصال–الاستقلال"، فيَتّهم الوطنيون تحركّات الأقليات العرقية المطالبة بالحرية وممارسة تقرير المصير بأنها محاولات للانفصال، بينما يروّج بعض من أفراد وأحزاب المعارضة الإيرانية بأن تلك الأراضي لم تكن جزءاً من الجغرافيا الإيرانية في السابق، وقد تم احتلالها في فترة من الزمان وتريد اليوم الاستقلالَ.
وفي البيت الداخلي للتيار الحاكم في إيران هناك توجهات مختلفة نحو التسميات تظهر في الكثير من الساحات منها ما ظهر أخيراً في ثنائية "الأسير–السجين"، حيث يعتبر بعض المتطرفون بأن البلاد في حالة حرب دفينة مع الولايات المتحدّة الأمريكية، وبالتالي وصفوا عملية تبادل السجناء الأخيرة بأنها عملية تبادل أسرى.
هناك قائمة طويلة من تلك الثنائيات التي جعلت من الساحة الإيرانية الداخلية ساحة حرب ساخنة بين المفردات، بل بين الخطابات التي مزّقت المجتمع الإيراني دون أن تُنعش فيه التعددية وتُعزز فيه قبول الآخر.
ومن الطريف الإشارة هنا إلى ثنائية "الأعراب–العرب"؛ فيستخدم بعض القوميين الفارسيين مفردة "الأعراب" في معرض حديثهم عن العرب، للإشارة إلى نمط الحياة البدوية البعيدة عن التحضّر والمدنية التي يتباهى بها بعض القوميين الفارسيين، وقد أصبحت هذه المفردة اليوم رائجة جداً للدلالة على العرب، سواء بين القوميين وغير القوميين، لفرط استخدامها ودون أن يفكر مستخدموها بعدم صحتها.
الشاشات لم تعرض مَشاهدَ الحرب القائمة في فلسطين وحسب، بل أصبحت ساحة لفرض بعض التسميات واستخدام بعض المفردات التي تُعبّر عن توجهات قد تكون مثيرة للغضب بالنسبة للبعض ودقيقةً صحيحة بالنسبة للبعض الآخر
يقول الكاتب والصحافي الإيراني إحسان محمدي في تغريدة له بأن المجتمع الإيراني مستعد لخلق ثنائية من أي موضوع كان، كي يظهر مختلفاً فيها، ثم يشير إلى انقسام الشارع الإيراني حول موافقين لاستمرار وجود الجالية الأفغانية في إيران ومخالفين، وأيضاً الموافقين للاحتفاظ بالحيوانات في المنزل والمخالفين للفكرة.
أمثلة هذا الصحافي لم تأت كشيء من الفكاهة أو السخرية، بل هي واقع يدلّ على مدى اتساع ظاهرة الانقسام والتصارع في المجتمع الإيراني.
كتب الإعلام التابع للتيار الإصلاحي الإيراني في الأيام الأخيرة عنوان "توفان الأقصى" اعتقاداً منه بأن تسمية "طوفان الأقصى" لفظ عربي، وعليه أن يستغل كل فرصة لإعلان استقلاله عن العربية، -لأن هناك خلاف في إيران على إملاء الكلمة بين من يعتقد أنها فارسية وتكتب بالتاء، ومن يعتبرها عربية وبالطاء- وبهذه البساطة وُجدت ثنائية "توفان–طوفان".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...