كانت المرة الأولى التي أرى بكاء أمي. كنتُ قد عدت للتو إلى البيت بعد يوم دراسي، لأجدها قبالة شاشة التلفاز، تتابع مشهد فيه طفل صغير يحتمي برجل أكبر منه من الرصاص المنهال عليهما من كل جانب، وسط تعليقات آخرين يصرخون لما يحدث، تدعو أمي: "ربنا ياخدهم اللي بينجسوا الأقصى وينصر فلسطين"، وكطفل في العاشرة من عمره تضامنت تلقائياً مع أمي، دون إدراك أن ما رأيته قبل ثوانٍ سُيعرف لاحقًا بحادث استشهاد محمد الدرة عام 2000، ذلك الطفل الذي يكبرني بعامين حينها، وأن ما تتالى من أحداث ستسمى فيما بعد "انتفاضة الأقصى".
حُفر المشهد في ذاكرتي وذاكرة جيلي ولم يُمح، فهو بداية إدراكنا أن هناك بلداً تسمى فلسطين، وصراعاً يصل إلى حد القتل علناً، ومن يومها أمسى متابعة ما يحدث في فلسطين جزءاً من طفولتنا ومراهقتنا، ليس رغبة منّا في ذلك ولكن لأن الحوادث لم تنقطع، وكل مرة كان موقفي كما هو، دعم فلسطين لأنها كما علّمتني أمي بلد المسجد الأقصى، ولاحقًا أضاف شيوخ التيار السلفي وقت تأثري بهم سبباً آخر، وهو أن المحتلين يهود يهاجمون الإسلام بـ"تدنيس" ثالث الحرمين وأولى القبلتين، وبالتالي يجب علي "نُصرة ديني وعقيدتي".
الأقصى ليس أقصى غاياتنا
كل ذلك تغيّر بعد 2011 حين توسّعت في القراءة وتعرضت لبعض الروايات التي تشير إلى أن المسجد الأقصى في فلسطين ليس المقصود، وأن ما ذُكر في القرآن قُصد به مسجداً آخر في أطراف المدينة المنورة ولذلك سُمي بـ"الأقصى" أي البعيد، ورغم أن تلك الروايات تحتمل الصواب والخطأ ولم يُحسم الجدل حولها بعد، رفضتها لا لشيء سوى لأنها لو صحّت ستهدم كل أسباب دعمي لفلسطين، فلا قدسية للدولة ولا مؤامرة من اليهود ضدها وكل ما أفعله بعيد عن نُصرة الدين والعقيدة.
كانت المرة الأولى التي أرى بكاء أمي حين عدت من المدرسة لأجدها قبالة الشاشة تتابع مشهد طفل صغير يحتمي برجل أكبر منه من الرصاص. دون إدراك أن ما رأيته قبل ثوان سُيعرف لاحقًا بحادثة استشهاد محمد الدرة
حالة الإنكار تلك والتي عشت فيها فترة مؤقتة قادتني إلى أسئلة كثيرة منها:
ماذا لو لم يكن هناك أقصى في فلسطين، هل معنى هذا أن لا أدعم شعب يتعرض للظلم والاحتلال؟
ماذا لو كانت فلسطين غير مسلمة أو أن من يحتلها دولة مسلمة، هل سيتغير موقفي؟
هل سأدعم بنفس القوة دولة غير مسلمة إن تعرضت لظروف مشابهة؟
لو كنت غير مسلم، فهل سيكون موقفي الداعم كما هو أم سيتغير؟
و أخيراً؛ هل أنا ضد الظلم أم ضد الظلم حين يقع على مسلمين فقط؟
مخاسر الانحياز الديني وخطورته
تلك الأسئلة ليست مجرد سفسطة أو أمر ثانوي، لقد أفادتني كثيراً في ضبط رؤيتي وموقفي، فلم يعد مجرد تحمس ديني قد يخفت في أي لحظة، كما حدث حين قرأت عن مكان المسجد الأقصى سابقاً، وبعيداً عن الجانب الشخصي، أعتقد أن من الأفضل لفلسطين أن نساندها لأنها دولة محتلة، لا لأنها دولة مسلمة وذلك لعدة أسباب.
في كل حرب على غزة تتركز المطالب على الأماكن المقدسة، وكأن تحريرها يعني انتهاء الصراع، أو كأننا نقول"أعطونا أقصانا وقدسنا وافعلوا ما شئتم"
أولها أن انحيازنا من منطلق ديني بحت، أمر يحوّل الصراع برمته إلى صراع ديني، تحاجج فيه كل فئة بأحقيتها الدينية في الأرض لنتوه وسط سراديب المرويات والتأريخ والتأويلات، كما أن الانحياز هذا يختصر الدولة نفسها في الأماكن الدينية، وهذا ما حدث بالفعل، ونستطيع ملاحظته في معظم الخطاب العربي الرسمي والشعبي، ففي كل حرب على غزة بما فيها الحرب الجارية تتركز معظم المطالب على "الأماكن المقدسة" وكأن تحريرها يعني انتهاء الصراع، أو بلغة أخرى كأننا نقول لهم "أعطونا أقصانا وقدسنا وافعلوا ما شئتم في أراض مُحتلة بحكم القانون الدولي".
ثانياً، يتسبب هذا الموقف الديني البحت، في إقصاء أصحاب الديانات والمِلل الأخرى من التضامن معنا بنفس القوة، وبدلاً من أن نقول إن هناك بلاد تتعرض للاحتلال وانتهاك أراضيها، نقول للعالم إن هذا صراع بين مسلمين ويهود بسبب أماكن "مقدسة"، وبالتالي إذا لم يكن الفرد مؤمناً بنفس الدين ولديه نفس القداسة لتلك الأماكن فسيشعر تلقائياً بأنه غير مطالب بتقديم المساندة والدعم، وأزعم أن هذا يحقق مكاسب كبيرة لإسرائيل لأنها من الناحية أخرى تقول للعالم أنظروا ليست القضية قضية أرض بل دين، وبالتالي يتضامن معها كل اليهود في العالم، والسؤال لنا، لماذا نحرم أنفسنا من دعم الآخرين بنظرة ضيقة لقضية عادلة.
ثالثًا، والأخطر بالنسبة لي، أن المساندة من منطلق ديني فقط، يُضيع أكثر من نصف قرن من النضال السياسي للشعب الفلسطيني، ويفقدنا مكتسبات حصلنا عليها بشق الأنفس وبدماء آلاف الشهداء، بل يفتح الباب أمام المواربة لأن العالم لن يفهم كثيراً قصة صراع ديني ولو فهم سيراوغ، ونحن لدينا أوراقنا المعترف بها من العالم أجمع فلماذا لا نستخدمها.
قضيتنا ليست متعلقة بمسجد أو دين بل بنصرة مظلوم أياً كان موقعه
نعم أنا لا أريد مع كل حدث الصراخ بـ"أنقذوا الأقصى"، و"هبّوا يا مسلمين العالم" وهلم جراً... أنا أريد أن يعرف العالم بأن هناك بلاد مُحتلة ومُعترف بذلك في قرار أممي رقم 242 منذ عام 1967، وأن هناك مستوطنات غير شرعية باعتراف المنظمات الدولية، وأن هناك شعباً يتعرض لتهجير قسري وفصل عنصري بشكل شبه يومي على مدار عقود ماضية، ولو لم يكن في فلسطين "أقصى" ولا "قدس"، ستظل نطالب بتحرير الأراضي المنصوص عليها في القانون الدولي، ولا أجد وصفاً لمن يعترض على ذلك سوى أنه يؤيد القتل والاحتلال، وبالتالي لا يمت للإنسانية بصلة.
وأخيراً، ورغم إيماني أن الدين ركن أساسي في آراء أي فرد ورؤيته، نحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى إلى أن ندعم فلسطين لأنها تستحق، حتى لو لم يكن بها مسجد أقصى، وحتى لو كان من يرتكب الجرائم مسلماً، يجب أن يكون موقفنا نابعاً من ذلك، ويظل هذا رأينا إن تعرضت أي دولة أخرى مهما كان دينها لظروف مشابهة، قضيتنا ليست متعلقة بمسجد أو دين بل بنصرة مظلوم أياً كان موقعه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...