بعد أن تراكمت عليه الديون وتفاقمت حالته الصحية والنفسية، ووصل إلى حد اليأس دون حصوله على أي فرصة عمل، اختار الشاب حمزة الدغمة (31 عاماً)، الهروب من مرارة الواقع المعيشي في قطاع غزة، ونصب مقصلة الإعدام التي صنعها بيده في منتصف بيته المتهالك والمُغطى بألواح "الزينكو" في مدينة خان يونس جنوب القطاع.
حمزة أب لطفلين لم يبلغ أكبرهما 6 أعوام، اختار التخلّص من حجم الأعباء المُلقاة على كاهله ونقص الغذاء والدواء بعد إصابته بـ"مسمار عظم"، بالإضافة إلى الملاحقات القانونية من قبل الشرطة، نتيجة كم الديون المتراكمة عليه، عبر الانتحار وإنهاء حياته بيده، وفق ما يروي إياد الدغمة، ابن عمه لرصيف22.
"كان عبارةً عن شخص ميت على قيد الحياة. كل تفكيره كان في كيف يحصل على العلاج والغذاء وفرصة عمل يمكن أن تسدّ رمق أطفاله، من أجل تسديد جزء من أقساط الديون المتراكمة عليه بعد أن رمم منزله"؛ يقول إياد.
الهروب من الواقع
أثارت حادثة انتحار الشاب الدغمة، حالةً من السخط الكبير والغضب على مواقع التواصل الاجتماعي لدى المواطنين وسط اتهام بعضهم السلطات المحلية بأنها السبب، في ظل تردّي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة وانتشار حالة الإحباط والاكتئاب التي تدفع كثيرين إلى اتخاذ قرار إنهاء حياتهم، كما يذكر ناشطو مواقع التواصل.
لم تكن حالة حمزة الأولى من نوعها ولا الأخيرة، فقد ضجت مواقع التواصل بمنشور كتبه الشاعر الشاب محمد نبيل النجار (27 عاماً)، ومفاده أنه مضطر إلى مغادرة هذا العالم بعد أن استنفد كل جهوده ومحاولاته للشفاء من مرض الاكتئاب على مدار 8 سنوات.
فارق النجار الحياة بعد ثوانٍ مما كتبه على جدار صفحته الشخصية في فيسبوك، وانتحر بقنبلة يدوية فجّرها في نفسه، معتذراً في رسالته الأخيرة من كل من سبب لهم ألماً، فهو لم يعد يتحمل حجم الوجع الذي في داخله، كما ذكر.
وبحسب أحدث نتائج مسح أجراه البنك الدولي والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن أكثر من نصف المجتمع الفلسطيني مصاب بالاكتئاب، بواقع 71% من سكان قطاع غزة، و50% من سكان الضفة، و58% ممن هم فوق الـ18 عاماً.
اختار حمزة (31 عاماً)، الهروب من مرارة الواقع المعيشي في قطاع غزة، ونصب مقصلة الإعدام التي صنعها بيده في منتصف بيته المتهالك والمُغطى بألواح "الزينكو" في مدينة خان يونس جنوب القطاع
ووفقاً للمسح، بلغت نسبة من هم على مستوى خط الفقر المدقع 50%، ومن هم دون ذلك 70%، ناهيك عن الذين يعملون ساعات أكثر، فهم معرضون لاضطرابات الصحة النفسية الشائعة والتي لها علاقة طردية بالفقر المدقع.
بينما شكّل انتحار الشاب المُحامي يوسف النوري (34 عاماً)، في شمال قطاع غزة، في شهر آب/ أغسطس الماضي نفسه، الذي وصل فيه عدد الشبان المنتحرين إلى ثلاثة، صدمةً كبيرةً في الشارع وسط حالة سخط وحزن كبيرة.
يقول يحيى النوري شقيق الشاب المُنتحر في حديثه إلى رصيف22، إن شقيقه تراكمت عليه الضغوط المادية والنفسية والاجتماعية بعدما تعرض لقضايا نصب واحتيال من قبل عدد من الأشخاص، مما دفعه لإنهاء حياته بالانتحار.
ويضيف النوري أن "شقيقه تعرض للظلم والمضايقات ومحاولات استهدافه شخصياً من قبل أشخاص متنفذين يعملون في حكومة غزة، ولم يستطع الحصول على حقه، فاضطر إلى الهروب من الواقع تاركاً خلفه ثلاثة أطفال".
ومنذ بداية العام الجاري وحتى نهاية شهر آب/ أغسطس، سُجلت 17 حالة انتحار، ما يعكس تزايداً ملحوظاً في الأعداد، لا سيما أن العام الماضي سُجّلت فيه 25 حالة انتحار بينما حاول 553 آخرون إنهاء حياتهم، وفق آخر إحصائية لمركز الميزان لحقوق الإنسان في قطاع غزة.
دوافع الانتحار
ويصف مدير عام برنامج غزة للصحة النفسية، ياسر أبو جامع، الأسباب الأساسية التي تعكس التزايد في حالات الانتحار بأنها تتعلق بتردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية والمجتمعية وتزايد البطالة والفقر وليس بسبب المرض النفسي فقط.
ويقول أبو جامع لرصيف22، إن تكرار حالات الانتحار (حالتان إلى ثلاث حالات في الأسبوع الواحد)، تشجّع الآخرين خصوصاً أن أكثر من نصف المجتمع في قطاع غزة يعاني من أوضاع صعبة واكتئاب نتيجة سوء الأوضاع المعيشية.
ويبيّن أن غياب التوعية والبرامج المُتكاملة والشاملة لمعالجة هذه الظاهرة وعدم وجود جهد مجتمعي لإكساب الشباب القدرات اللازمة للعمل في شتى المجالات، يدفعان في اتجاه الذهاب إلى أسوأ أنواع الهروب من الواقع وهو الانتحار.
ويشدد على أن الانتحار لا يؤدي بأي شكل من الأشكال إلى حل أي قضية أو مشكلة: "من غير المعقول أن يكون إزهاق النفس يحلّ قضيةً ويحاكم واقعاً أو يؤدي إلى نتيجة وحل لأي مشكلة في ظل هذا الواقع".
ويؤكد أبو جامع أن هناك ملايين الأموال التي من المفترض أن تُنفَق لحل مشكلة البطالة وتوفير فرص العمل، لكنها تذهب جميعها إلى سداد ديون الحكومة دون استخدمها لبناء مشاريع وتوفير فرص عمل، وهناك مجال لخلق واقع أفضل من خلال النظرة الشمولية في قطاع غزة.
وحول واقع الصحة النفسية في قطاع غزة، يوضح أنهم يواجهون مشكلةً في الموارد العلاجية المتاحة التي تقيّد عملهم، لا سيما حالة النقص الحاد في كوادر الطب النفسي الذين لا يزيد عددهم عن 300 شخص في القطاع، في ظل أن عدد السكان يتجاوز مليوني مواطن، بالإضافة إلى عدم توافر العلاج والعقاقير الطبية اللازمة للعلاج النفسي.
ويضيف أنه إلى جانب ذلك هناك عزوف من المواطنين عن التوجه لتلقّي الخدمات الصحية النفسية خشية وصفهم بأنهم مرضى نفسيون، تزامناً مع غياب التوعية بأهمية العلاج النفسي وضرورته.
ويفضّل الكثير من المواطنين الهروب نحو الطب البديل والعلاج بالقرآن واعتبار أن ما يعانون منه نتاج السحر والحسد وغيرهما؛ خشيةً من الوصم المجتمعي ونظرة المجتمع الضيقة والمتوارثة تجاه المصابين بالمرض النفسي.
"شقيقي تعرض للظلم والمضايقات ومحاولات استهدافه شخصياً من قبل أشخاص متنفذين يعملون في حكومة غزة، ولم يستطع الحصول على حقه، فانتحر تاركاً خلفه ثلاثة أطفال"
الجدير ذكره أن خدمات العلاج النفسي يتم تقديمها من جهتين، هما مستشفى الأمراض النفسية الحكومي، ومراكز الصحة النفسية التابعة للوزارة الصحة، وبرنامج غزة للصحة النفسية (غير حكومي).
ويشير أبو جامع إلى أن الأهم في كل ما سبق هي ضرورة وجود تحسن في الأوضاع المعيشية التي تزداد سوءاً، والتي تنعكس على الواقع النفسي لدى المواطنين في قطاع غزة.
ما دور السلطات!
في ظل الواقع الاقتصادي والمعيشي الصعب نتيجة استمرار الانقسام السياسي والحصار الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة منذ 16 عاماً، وازدياد حالات الانتحار في المجتمع، ماذا عن دور السلطات المحلية والجهات المسؤولة في غزة إزاء ما يجري؟
هنا، يقول رئيس اللجنة الاقتصادية وشؤون الموازنة المالية في المجلس التشريعي الفلسطيني، النائب يحيي العبادسة، إن ظاهرة الانتحار خطيرة ووافدة وغريبة عن مجتمعنا الفلسطيني، لكن عندما نتحدث عن أسباب الظاهرة فهي على علاقة بالأبعاد الاجتماعية، وهو أكبر سبب، والعلاقات الاجتماعية داخل الأسر وهو ما قد يكون السبب الرئيسي لها.
ويضيف العبادسة في حديثه إلى رصيف22، أن الأوضاع المعيشية الصعبة الناتجة عن انغلاق المجتمع في قطاع غزة منذ 20 عاماً، والحصار الإسرائيلي عليه، تُعدّ السبب الثاني لازدياد هذه الظاهرة.
وعن دورهم في السلطات المحلية في ذلك، يقول النائب في "التشريعي" عن حركة "حماس"، إن معالجة هذه الظاهرة والأمراض النفسية والاكتئاب ليست في يدهم فقط، وإنما يساهم فيها تحسن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المرتبطة برفع الحصار الإسرائيلي عن قطاع غزة، على حد وصفه.
يُلقي العبادسة باللوم على سلطات الاحتلال، متهماً إياها بأنها تريد إبقاء غزة بين الموت والحياة وإيجاد حالة نفسية ومعيشية صعبة من أجل الضغط عليهم لتسليم برنامجهم ومقدراتهم التي يتبنونها، عادّاً أن "أوراق تحسن الأوضاع ليست كلها في يد السلطات المحلية التي تحمل مسؤوليةً كبيرةً ولا تتهرب منها أو تقلل من شأنها في ما يخص شؤون المواطنين"، وفق قوله.
ويُشير إلى أنهم يوجّهون المؤسسة الدينية والمساجد من أجل الوعظ والإرشاد والتوعية "في ظل تفشي مثل هذه السلوكيات الوافدة على شعبنا"، مردفاً في الوقت ذاته: "نحن نعيش في العالم الرقمي الذي أصبح نوعاً من صناعة التفاهة وكل واحد يستطيع الدخول إلى مواقع التواصل وتبرير ما يحيل اللوم على السلطة في إطار المُناكفات السياسية، وفي النهاية هذه الظاهرة وفق الرؤية الشرعية مستنكرة ومرفوضة".
وبرغم خطب الوعظ الديني التي تتم عادةً خلال صلوات الجمعة حول قضية الانتحار وحرمتها، فإن العديد من المواطنين يتهكمون بعد انقضاء الصلاة بشكل ساخر على الخطباء لتجاهلهم الحديث عن الواقع الذي أوصل إليها، وفق ما رصد مراسل رصيف22، في الفترة الماضية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...