في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، استيقظ سكان قطاع غزة على حدث يشبه الحلم. اختراق الحدود شمالاً نحو الأراضي الفلسطينية المحتلة. تتالت السيناريوهات، لكن السيناريو الأكثر دهشةً هو مشهد المقاومين وهم يمشون إلى السماء، ويهبطون منها بطائرات شراعية بدائية مصنوعة محلياً ذات عجلة خلفية وشراع خفيف.هو مشهد غير عادي يبدو كحلم جميل في منام لم يرغب أهالي غزة في الاستيقاظ منه ومغادرته أبداً. في غزة السماء تبدو بعيدةً جداً وركوب الطائرة حلماً عصياً بالنسبة لكثيرين، وفكرة المطار فكرة لم تدُم طويلاً وتبخرت بعد أن دمّر الاحتلال مطار غزة الدولي في العام 2001.
لم يُظهر هذا الحدث قدرتنا على استعادة الأرض فقط، بل ملكيتنا للسماء التي شاهدنا منها وطناً ينتظر العودة، وحلماً ينسف المشهد التوراتي للصهاينة ومخيلتهم حول أرض الميعاد التي شاهدوها من السماء نفسها لأول مرة في العام 1929، في رحلة منطاد زبلين القادم من ألمانيا إلى مدن الشرق.
الحديث عن سماء غزة يكاد يكون مهمشاً ومغيباً، والروايات ذات الصلة تكاد تكون معدومةً لأن التجارب الحية فقيرة فعلاً. ومع ذلك فإن مثل هذا الحدث يقتضي طرحاً يليق به، ويجعلنا أكثر إدراكاً ووعياً لما تعنيه هذه المساحة العالية والفضفاضة فوق رؤوسنا! والتي دوماً كنا ننظر إليها كفسحة واسعة من الأمل تمطرنا بين حين وحين بوابل من الموت!
مع ذلك، تُظهر السماء في تمثيلاتها المادية ومظاهرها قراءةً للمدينة وخصائصها العامة والتي يمكن استنباطها من خلال مجموعة من الظواهر. ففي غزة على سبيل المثال، من الصعب على شخص في مستوى بصره رؤية السماء كأفق أو نهاية بصرية أو كفراغ أزرق له مساحته الطبيعية في مشهد ما، خاصةً بالنظر إلى هذا التراكم الرهيب للكتل الخرسانية التي أخذت في التوسع رأسياً، تاركةً شرائط مكدسةً من الأزقة والشوارع الضيقة.
تشكل هذه العناصر بمجملها خط الأفق للمدينة، أو خط السماء، وهو الخط العريض للمباني والأشياء التي تلامس السماء مباشرةً من منظور الواجهة. يتّسم خط السماء لقطاع غزة بالتذبذب المتقارب والطابع المادي البسيط والإسمنتي البعيد عن الطبيعة الخضراء. على الرغم من أن هناك توجهاً واضحاً للرأسية في التمدد السكاني والكتل البنائية. إلا أنه بالنظر ضمن التمدد الأفقي، يكاد يكون مستوى الارتفاعات متدنياً ومتقارباً. ومع محدودية دخول المواد البنائية وتقنيات البناء من قبل الاحتلال الإسرائيلي، من الصعب التأسيس إنشائياً لمبانٍ وأبراج عالية جداً أو ناطحات سحاب تخترق السماء.
لم يُظهر ما حدث قدرتنا على استعادة الأرض فقط، بل ملكيتنا للسماء التي شاهدنا منها وطناً ينتظر العودة، وحلماً ينسف المشهد التوراتي للصهاينة ومخيلتهم حول أرض الميعاد
المباني العالية في قطاع غزة لا تعبّر عن خط السماء، ولا تشكّل المشهد الحضري للمدينة فحسب، وإنما تحمل مدلولات اجتماعيةً وسياسيةً وثقافيةً. هي تعبّر عن الطريقة التي ينمو ويتطور فيها النظام العائلي في القطاع. في ظل محدودية التوسع الأفقي، تتمدد العائلات الفلسطينية وتنمو من خلال بناء منازل جديدة بالقرب من منزل العائلة الأساسي. يتجه الآباء غالباً إلى التوسع الرأسي ببناء مجموعة من الشقق والطوابق الإضافية للأبناء والأحفاد فوق مبنى العائلة. هذه الطريقة في التكيف من أجل البقاء هي سلوك اجتماعي شائع تمت ممارسته في أوقات اللجوء ببناء خيم متجاورة لأفراد العائلة الواحدة، كجزء من عملية التفقد، التكافل، والبقاء. لقد ساهم هذا الأمر في الحفاظ على وحدة العائلة الواحدة ومنظومة العادات والتقاليد وتناقل السرديات المتعلقة بالجماعات على اختلاف أصولها.
الاحتلال الإسرائيلي وإستراتيجية النظر من علوّ
يدرك الاحتلال الإسرائيلي إستراتيجية النظر من علو، ومعنى الوجود في موقع أقرب إلى السماء. لذا يسعى إلى استهداف واضح لكل المباني العالية في قطاع غزة. واستهداف الأبراج لا يمثل فقط استهدافاً للكتل البنائية، وإنما هو تدمير للمشهد الحضري المألوف وإحداث خلل وصناعة فجوات في مورفولوجيا المدينة وتاريخ تشكلها وتطورها. زيادةً على ذلك، يتم تشويه الذاكرة الجمعية حول صورة المدينة في وعيهم الخاص. هذه الأبراج السكنية تمثل ذكريات وأحلام الكثير من الأشخاص، وتتجاوز كونها كتلاً إسمنتيةً.
كجزء من الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة، تستهدف قواتها مرافق البنية التحتية بشكل مباشر. خلال حرب 2021، قام الجيش الاسرائيلي بتدمير عدد كبير من المباني العالية والأبراج السكنية. وعلى الرغم من ادّعاء إسرائيل بأن حماس تستخدم هذه الأبراج لأغراض عسكرية، إلا أنه ووفقاً لمنظمة هيومن رايتس ووتش، فإن اسرائيل فشلت في تقديم أي دليل واضح على ادّعاءاتها، وهو ما وصفته بالانتهاك الواضح لحقوق الانسان والذي قد يصل إلى عدّه جريمة حرب.
خلال اعتداء أيار/ مايو 2021، استهدفت الطائرات الإسرائيلية خمسة أبراج سكنية تُعدّ من أشهر وأعلى معالم مدينة غزة والتي تتراوح ما بين 12 إلى 15 طابقاً. ثلاثة من هذا الأبراج تمت تسويتها بالأرض وتقع ضمن دائرة قطرها نحو كيلومترين فقط. تضم هذه الأبراج (برج الشروق، هنادي والجوهرة)، عدداً من الشقق السكنية والمكاتب والمحال التجارية وكذلك مجموعةً من وكالات الإعلام المحلية والدولية. ومجدداً ليل السبت 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أعاد جيش الاحتلال السيناريو ذاته، واستهدف مجموعةً أخرى من الأبراج، منها برج فلسطين وبرج وطن وعمارة العكلوك. هذا الاستهداف أدى إلى تشويه كامل لمورفولوجيا المدينة، وجسّد انتهاكاً لحرية الإعلام وصوت الحقيقة.
يعتمد الكيان الصهيوني وجيشه على السماء بشكل كبير وأساسي لفرض سيطرتهما على قطاع غزة. فبالإضافة إلى الطائرات الحربية المستخدمة في شن الهجوم العسكري والقصف، يستخدم الطيران الإسرائيلي تقنيات الاستشـعار عن بعد والرصد الجوي والبيانات الجغرافية المضغوطة ويقوم بحفظها في قواعد بيانات بشكل مستمر لاستخدامها لاحقاً ضد الفلسطينيين. وباستخدام الخوارزميات المحوسبة وتقنيات التعرف علـى الملامـح والتنصـت عن بعد، ومقارنتها مـع طبقات البيانات الوصفية المأخوذة من القطاعات الصحية والاجتماعية والتعليمية على الأرض، بالإضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي، تقوم الحكومة الإسرائيلية باستخدامها في تحليل أنمـاط السلوك المجتمعية للفلسطينيين والتنبـؤ بهـا لأهدافها وأغراضها الأمنية والسياسية.
الأصوات المنبعثة من السماء في غزة حكاية أخرى؛ فالغارات المتكررة والقريبة، والصواريخ التحذيرية التي تنهال من السماء، والطفرات الصوتية الناتجة عن كسر حاجز الصوت، منبه صريح يعيد تنشيط الذاكرة ووجعها. إنه روتين بغيض يثير حالةً من القلق والخوف المستمرين وهو ما يعني حالةً مستمرةً من التحكم والسيطرة. يقول عاموس يدلين، وهو ضابط جوي في المخابرات العسكرية الإسرائيلية: "إن رؤيتنا للتحكم من السماء هي لهدف السيطرة. نحن ننظر إلى كيفية السيطرة على مدينة أو منطقة من الجو عندما لم يعد من المشروع الاحتفاظ بتلك المنطقة أو احتلالها على الأرض".
أما عن مشاهد النيران التي تكتسح سماء غزة، وتحديداً في فترة المساء حيث تكون النار بماديتها الكاملة ولونها أكثر وضوحاً، فهي حالة مفروضة يعايشها سكان غزة بشكل إجباري وتعسفي وعقابي؛ وهي ليست مشاهد احتفاليةً وإنما تمثل نيران المدافع، الصواريخ، والبالونات الحرارية.
مشاهد النيران التي تكتسح سماء غزة، وتحديداً في فترة المساء حيث تكون النار بماديتها الكاملة ولونها أكثر وضوحاً، فهي حالة مفروضة يعايشها سكان غزة بشكل إجباري وتعسفي وعقابي
عيش هذه التجربة البصرية هو أمر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالوعي والعواطف والأفكار والمعاني الشخصية. هذا المشهد الذي قد يبدو احتفالياً للحظة وجميلاً في سماء مظلمة، وفضاء يعاني من انقطاع مستمر في التيار الكهربائي، هو في الحقيقة عكس ذلك؛ إنه مشهد يثير الخوف والقلق والموت. أما حضرياً، فإن هذا المشهد بما يحتويه من طاقة ديناميكية ضخمة يعبّر عن مخاطر مشتركة محتملة (بيئية، سياسية، واجتماعية)، تلوح في الأفق فوق المدينة ولا نتدارك عواقبها إلا لاحقاً.
السماء تعود للمشهد وتنهي هامشيتها!
مؤخراً، بدأ لفظ السماء يعود للمشهد الفلسطيني بقوة، جالباً معه مواد ثريةً من الإنتاج المعرفي والنقدي ذي الصلة؛ كان أبرزها المعرض الذي أقامه مركز عبد المحسن القطان، في رام الله في أيلول/ سبتمبر 2021، تحت عنوان "فلسطين من أعلى"، والذي يستعرض مجموعةً من المواد الأرشيفية والفنون البصرية يحاول من خلالها فهم دور التصوير الجوي في خدمة الاستعمار وسيطرته على الأرض الفلسطينية. كما بادرت مؤسسة الدراسات الفلسطينية في العام نفسه بنشر كتاب يحمل الاسم نفسه: "فلسطين من الأعلى: تصوير المشهد من خلال المراقبة وصنع الخرائط"، من تحرير كل من بشارة دوماني وسليم تماري، ويتضمن مجموعةً غنيةً من المقالات والأبحاث ذات الصلة.
وعلى الرغم من أن غزة كانت مستبعدةً إلى حد ما من هذا الإنتاج؛ إلا أنه كان هناك إنتاج من نوع آخر للفنان سليمان حجي، الذي افتتح في أيلول/ سبتمبر 2023، معرضه الفردي "غزة من السماء"، والذي يقدّم فيه مجموعةً منوعةً من الصور الفوتوغرافية الجوية -التي تم إنتاجها باستخدام طائرات الدرون- والتي تظهر كيف تبدو غزة من السماء. يُذكر أن بعض الصور التي تم عرضها كانت قد حصلت على العديد من الجوائز، ولفتت نظر العالم إلى غزة؛ منها مجموعة الأعمال التي توثّق بالصور الجوية مشاهد المتظاهرين في مسيرات العودة على الحدود الشرقية للقطاع. والأهم أن هذا الشكل من الفوتوغرافيا الجوية، يُظهر وجهاً آخر لقطاع غزة يواجه كل الصور النمطية المعتمة التي تم إلصاقها بالمشهد العام للمدينة.
يمكن القول إن النظر من السماء يغذّي فكرة الوطن بشكل لافت، ويعيد إنتاجها بطريقة أكثر عمقاً ويسمح بمشاهدة مغايرة وأكثر اتساعاً لفضاء الوطن. رؤية المقاومين في طائراتهم الشراعية البسيطة في أثناء عمليات الإنزال كشفت عن وجود سيناريوهات مرئية جديدة لـ"كيف يبدو الوطن؟". هذه المشاهد التي كانت مستبعدةً ومهمشةً وغير مدركة، دفعت بالكثير من الحقائق ذات الصلة إلى الهامش، بظهورها، أدركنا جميعاً كم كان اختراق الحد سهلاً! وكم كان الوطن قريباً! وكم كانت العودة سهلةً!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 10 ساعاتمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
Ahmed Adel -
منذ 3 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.