أسقط الحق الفلسطيني ومجريات الأسبوع الماضي الدموي وطني المتبنّى من عيني، سقطة مدويّة ولا مجال بعد اليوم لأكذّب أحاسيسي ولأوهم نفسي. إن لم يشعر وطنك فما جدواه؟
من رأي عام موالٍ بطريقة عمياء وهائمة بطريقة مثيرة للعجب والقلق، إلى محادثات عشوائية مع غرباء تفصح عن جهل مطعّم بكراهية، أو كراهية مطعمة بجهل، إلى تواطئ رسمي، وتكذيب وتلفيق وإخفاء وتناسٍ مصحوب بدعم رسمي ومعنوي ومادي وعسكري، إلى تفضيل نفوس فوق أخرى، إلى أفظع الفظائع في الحروب الإقليمية والعالمية، فالتجاهل والصمت والخذلان، كل هذا حفر الهوة بيني أنا المهاجرة القادمة من العالم العربي وبلدي المستحدث اليافع حتى أصاب نخاع الثقة.
كيف أحب الوطن المستحدث؟
كيف أحبّ وطناً حبّه وشفقته واهتمامه أحاديٌ وانتقائي ومحدود؟
كيف أقبل رفضه للحق الفلسطيني ولأيّ حق دون أخذ موقفه ضد تلك الأحداث والقضايا كرفض لشخصي؟
حين وقعت الحرب السورية كان وجودي في الولايات المتحدة طارئاً وجديداً، وكانت عمليّة اندماجي الاجتماعي الذي أضحى ضرورة مستعجلة لا تزال جديدة، وغير ملوثة بخيالات الحلم الأميركيّ بعد. حينها عدت إلى قنوات التواصل الاجتماعي كشبح جائع للأخبار من أفواه المحليين لا لكلمات الإعلام المنمّقة.
أسقط الحق الفلسطيني ومجريات الأسبوع الماضي الدموي وطني المتبنّى من عيني، سقطة مدويّة لا مجال بعد اليوم لأكذّب أحاسيسي ولأوهم نفسي، إن لم يشعر وطنك معك فما جدواه؟
لم يكن من مهرب لي من شاشات التلفزة والأصوات الصادحة بظلمها إلاّ العودة إلى الجذور. وحين وقعت فاجعة ٤ آب/ أغسطس وانفجار المرفأ، التمست العطف من مجتمعي الجديد الذي كنتُ قد دخلته رسمياً كأميركية، فطلبتُ التبرعات لصالح ثلاث مؤسسات اجتماعية غير حكومية، واستطعت جمع مبلغ جيّد من المال ساهم في مداواة سطحية لمشكلات المجتمع الأم الاقتصادية المتعاظمة، ونجحت محاولتي لفعل أي شيء عوضاً عن التفرّج في الغربة التي تضخّم المسافة الفاصلة بين المهاجر والوطن في المصائب والكوارث طبيعية كانت أو مفتعلة.
لكن التعاضد الذي لمسته خلق عندي وهم الأخوّة التي لم تظهر كاحتمال بعيد أو مستحيل. أقول "وهم" لأنّه سقط في أوّل امتحان، وهو امتحان بسيط، ولو كانت مسألة الشرق الأوسط دائماً موصومة بالتعقيد لكن لبّ السؤال يبقى: إلى أين تمتد إنسانيتك وأين تقف؟
الإعلام كبوق للسياسة
تحطّمت المرآة الأولى من خلال تغطية الإعلام الأمريكي ومؤسسات محترمة تاريخياً مثل النيويورك تايمز لمجريات الأحداث الأخيرة، حين نعتت الضحايا الفلسطينيين العزل بالموتى، وكأنّ موتهم أتى طبيعياً، بينما سمّت الإسرائيليين بالقتلى. ولاحقاً من خلال انتقاء الأخبار، وتغطية ما يلائم أجنداتها وتركيز زاوية التغطية التي تظهر الحليف الإسرائيلي فقط في موضع الضحية أبداً، إلى كيفية صياغة العناوين الصادمة والمستفّزة، فاستباق السيناريوهات التي تفصح عن النوايا المبيّتة، فتقبل الأدّلة التي يريدونها أدلّة غصباً حتى ولو كانت ساقطة منطقياً، إلى مواضيع وقصص وملفات إنسانية أحاديّة الطرف، الهدف منها استجرار الرأي العام واستعطافه وطمس الحقيقة وتلوينها وتثبيت المواقف والآراء والصور النمطية العنصرية المضادة للعرب، وبالضرورة تصوير الإسرائيليين كقوة عسكرية خارقة من جهة، ومؤلفة من بشر مساكين ضحايا لا يحملون اللوم من جهة أخرى.
سمّت النيويورك تايمز الضحايا الفلسطينيين العزّل بالموتي، وكأنّ موتهم جاء لأسباب طبيعية، بينما سمّت الإسرائيليين بالقتلى.
ألا يكون هكذا إعلام معاد للسامية أيضاً أو حتى هذا المصطلح أصبح محتكراً وتلك المؤسسات فوق الشبهات؟
لماذا لا نسمع أو نقرأ او نشاهد إلاّ لوناً واحداً وإعلاماً واحداً وصوتاً جهورياً واحداً؟ أين ذهبت مصطلحات يتغنّى بها الأميركيون فرادى ومؤسسات كحريّة الرأي والتعبير، وهو الحق الموثق في الدستور الأمريكي؟ والمسؤولية الإعلامية؟ والمساءلة؟ والمحاسبة القانونية؟ وأين الديمقراطية التي يريدون نشرها في العالم أجمع سواء أرادها أم لم يردها؟
هل يخلق الاكتفاء الذاتي الجهل؟
تتغنّى الولايات المتحدة بقدرتها على الاكتفاء الذاتي، بسبب حجمها ومكانتها وموقعها، وايضاً بسبب علاقاتها الاستعلائية مع الأقران ومع بلاد العالم الثالث، وهو الاسم الذي وصمتنا به منذ أجل.
في استطلاع غير رسمي أقوم به في كل فصل دراسي أجد أنّ أغلب الطلاّب الجامعيين لم يغادروا أو يزوروا أو يسكنوا في ولاية أو ولايات أخرى غير ولايتهم الأمّ طوال سنوات حياتهم. والمثير للاهتمام أنّ نسبة كبيرة من أهلهم حتى لم تغادر الولاية نفسها لأسباب متعددة، منها الاكتفاء الذاتي للبلد وحجمه وموقعه.
في نفس الوقت يحاول الكثير ممن يشغلون المواقع العامة الكبيرة والمتوسطة جذب المواطن الأميركي إلى خارج نطاق البلد، للتعرّف والنمو والتعلّم، والانفتاح. وعلى الرغم من ذلك يعرف العالم العربي عن الأميركيين أكثر بكثير مما يعرفه الأميركيين عن العرب.
رأينا انفتاح الأمريكيين على أوكرانيا. فأثناء الحرب الروسيّة على أوكرانيا، وجد العديد من الأمريكيين أنفسهم متعاطفين مع الأوكرانيين، وتواقين إلى المساعدة بأي شكل ممكن، فصار رمز دوّار الشمس مع الخلفية الزرقاء الدال على أوكرانيا ودعمها في كلّ مكان، وأصبحنا نسمع شجب الأميركيين للعدوان الروسي على أوكرانيا التي بدأوا بالتعلّم عنها والبحث في أخبارها والاهتمام بها، فحظيت الكتب والمقالات عن تاريخ الصراع الأوكراني مع الحوت الروسي باهتمام الأمريكيين المسّتجد واستهجانهم بالصوت العالي في المؤسسات المهنية والجامعات والمدارس ودور العبادة والملتقيات الاجتماعية.
أتساءل لماذا لا يتعاطى الأمريكيون بنفس الأسلوب مع القضية الفلسطينية؟ لماذا لا يستقون أخبارهم إلاّ من المنابع نفسها؟ وأي حريّة للرأي إذا كان التعبير أحاديّاً والإعلام أحاديّاً؟ وحين يستقي الناس أخبارهم من قنوات التواصل الاجتماعي المبرمجة أصلاً لتثبيت الآراء المضادة للعرب والفلسطينيين بشكل خاص؟ ولإقناع من لا تزال تساوره الشكوك بأخذ الموقف المضاد نفسه تجاه العرب والفلسطينيين ومن يدعمهم؟
بسبب موقف الولايات المتحدّة الرسمي نجد أنّ المحاسبة والمواقف المعادية للداعمين لغزة وفلسطين تتجسد بالطرد من العمل، أو التهديد بالطرد، واتهامات العمالة والخيانة، خصوصاً في المؤسسات المهنية والجامعات.
حتى لو كانت الولايات المتحدة منكفئة على نفسها، تبقى على المواطنين مسؤولية تثقيف أنفسهم، خاصة في خضم التلاعب المذكور أعلاه.
هناك خيارات واسعة من التنّوع والاختلاف في الإعلام الموجود اليوم، وبكبسة زر نستطيع قراءة الأخبار المحليّة للعرب المكتوبة بلسان العرب وللعرب من خلال ترجمة المقالات والتحدّث مع الناس بانفتاح وتقبّل أو أقلّه الجلوس مع جار أو جارة من جنسيّة مختلفة وسماع قصصهم منهم.
المحاسبة على الرأي الآخر ووصمة بالخيانة
بسبب موقف الولايات المتحدّة الرسمي كحليف رسميّ وحامي الظهر للكيان الإسرائيلي تجد أنّ المحاسبة والمواقف المعادية للداعمين لغزة وفلسطين متجسّدة بالطرد من العمل، أو التهديد بالطرد، واتهامات العمالة والخيانة. خصوصاً في المؤسسات المهنية والجامعات.
موقع canarymission.org مثلاً يحتوي على بيانات مجموعة كبيرة من الداعمين الموالين لفلسطين كمعادين للكيان الإسرائيلي، بالأسماء والصور والمعلومات الخاصة كالاسم الثلاثي وأسماء الجامعات والمدارس وأماكن العمل التي عملوا فيها، بالإضافة إلى ملف كامل عن كلّ ما كتبوه وعبّروا عنه.
الخطورة تكمن في أثر الموقع وتداعياته، لأنّ الكثير من المؤسسات الأميركية تمنع توظيف هؤلاء الأساتذة والطلاب بعد تخرّجهم بسبب آرائهم وموافقهم المضادة لإسرائيل دون سواها من المواقف السياسية الأخرى.
هذه "الفزاعة" الالكترونية تنغّص حياة الأمريكيين العرب بشكل مخيف واعتباطي ومجحف وغير دستوري وهي واحدة فقط من الأدوات المموّلة صهيونياً لإسكات الرأي الآخر.
نهاية وبحسرة قد تكون أقسى من أن تحملها كلماتي إليكم أدرك اليوم أني يتيمة البلد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.