عبر التاريخ، ارتبطت دائماً المدن والأنفاق تحت الأرض بالاضطهاد. كثيرة هي المدن التي شُيدت بعيداً عن عين الشمس وعين الظلم في العالم القديم، وفي مراحل تاريخية لاحقة استخدمت مدن المضطهدين كملاجئ في الحروب، مثل "كابادوكيا" في تركيا التي اكتشفت في العام 1963، والتي استخدمها المسلمون للاحتماء من البيزنطيين، ولاحقاً استخدمها المسيحيون للاحتماء من العثمانيين. وكذلك "بيلسن" في التشيك، والمدن والأنفاق الواقعة تحت برلين، و"نابولي تحت الأرض" وهي سلسلة ضخمة من الأنفاق والدهاليز التي تقع تحت مدينة نابولي الإيطالية.
بالإضافة إلى كونها بُنيت للهرب من قمع السلطات، فإن ما يجمع كل المدن أو القنوات التي بنيت تحت الأرض هو أنها ظلت سرّية حتى إعادة اكتشافها، وهو ما ينطبق بالضرورة على شبكة الأنفاق الموجودة تحت غزة اليوم، والتي يسميها أهل القطاع "غزة تحت الأرض" بينما تصفها إسرائيل بـ"سلاح المقاومة الأقوى".
متى بدأ بناء الأنفاق؟ وما هي تحدياته؟
بدأ بناء الأنفاق في العام 2007 مع فرض الحصار على قطاع غزة، وكانت باتجاه مصر وهدفها الأول تجاوز العقبات الاقتصادية للحصار، ومنذ ذلك الحين لم تتوقف، أي أن أعمال التوسع والبناء فيها دائمة.
يقول المعماري رائد وهبة لرصيف22: "هناك الكثير من التحديات التي يمكن أن يتخيلها أي مهندس لدى توقعه لكيفية بناء الأنفاق، التحدي الأول هو التربة وهي من أكبر المعيقات، فخلال حفر النفق يجب أن تكون التربة متماسكة، فإذا كانت رملية أو مفككة أو طينية، ستكون معرضة للانهيار خلال الحفر. كما يجب أن تظل بنيتها متماسكة مع ضمان نظام إنشائي لحمل التراب الذي فوق النفق".
خبير عسكري: "خريطة الأنفاق تعتبر من الأسرار العسكرية، بعض التقارير تقول بأن من يستخدمون هذه الأنفاق من غير الموثوقين تتم تغطية عيونهم قبل الدخول، وقبل الخروج لعدم معرفة المناطق التي تقع فيها المداخل والمخارج"
ويضيف: "من التحديات التي يمكن تخيلها، التخلص من كمية الطمم التي تنتج عن الحفرو وهو ليس بالأمر السهل، لا سيما الأنفاق الكبرى التي تدخل من خلالها الشاحنات والسيارات، وهناك بالطبع، كميات الإسمنت والحديد المطلوبة في البناء والتدعيم الإنشائي، والتهوية، والإنارة. للحقيقة العمل تم على مستويات عالية جداً، وليس باستخدام الأيدي، إنما بالآليات الثقيلة التي تساعد على تجاوز المسافات والعمل في درجات الحرارة المرتفعة في الصحراء، وأعتقد أن هذا ما جنن إسرائيل، إذ كيف تم كل هذا البناء السهل بهذه السرية، ناهيك بشكل النفق وتوزيعه واتجاهاته".
السرية التامة
يقول خالد السيد وهو اسم مستعار لخبير عسكري طلب عدم ذكر اسمه: "القول إن أحد الأجهزة الاستخباراتية سواء الإسرائيلية أو غيرها يملك الخريطة الكاملة لهذه المدينة هو ادعاء مخالف للمنطق العسكري، لأن خريطة هذه المدينة مصنفة كمعلومات فائقة السرية في الأجندة المسلحة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي اللتين تتقاسمان ملكية الأنفاق، وتتشاركان استخدامها".
في 2021 صرحت إسرائيل بأنها دمّرت أكثر من 100 كلم من الأنفاق... "المقاومة" كذّبت الخبر وقالت إن ما تم استهدافه لا يتعدى 5% من مساحة أنفاقها الممتدة على 500 كلم.
ويضيف في تصريحه لرصيف22: "المقصود بالسرية أنه حتى معظم شباب المقاومة لا يعرفون الخريطة ولو عرفوا نفقاً هنا أو هناك، فهناك أدلاء موثوق بهم ومحدود عددهم في حركة المقاومة يقومون بقيادة المقاتلين داخل الأنفاق. في بعض التقارير أن من يستخدمون هذه الأنفاق من غير الموثوق بهم تتم تغطية عيونهم قبل الدخول، وقبل الخروج لعدم معرفة المناطق التي تقع فيها المداخل والمخارج".
العنكبوت متفرع الأذرع
هو أحد التسميات التي يطلقها الجيش الإسرائيلي على شبكة الأنفاق، يقول الناطق باسم جيش الدفاع جوناثان كونريكوس في مقابلة أجرتها معه شبكة CNN للمذيع: "فكّر في قطاع غزة كطبقة للمدنيين ثم طبقة أخرى لحماس. نحن نحاول الوصول إلى الطبقة الثانية التي بنتها حماس، هذه ليست مخابئ للمدنيين في غزة".
بحسب التقرير الإستراتيجي الفلسطيني 2020-2021، فقد حذر الكتاب الإسرائيليون من خطر الأنفاق كثيراً، ومن قدرة حركة حماس على "الخروج من تحت الأرض"، وفي كل مرة كانت إسرائيل تعلن فيها تدمير الأنفاق كانت الحركة تخرج بتصريح تكذيب، فقد أكدت الحركة أكثر من مرة على سرية هذه المواقع التي تخبئ فيها أسلحتها وغرف عملياتها، وتعمل كملاجئ في حالات القصف لبعض القادة الاستراتيجيين والمقاومين..
بعد توقيع اتفاق التهدئة في أعقاب صراع عام 2021، صرح الجيش الإسرائيلي بأنه دمر أكثر من 100 كلم من الأنفاق في الغارات الجوية. لكن "المقاومة" كذبت هذا التصريح، بالقول إن ما تم استهدافه لا يتعدى 5% فقط من مساحة أنفاقها الممتدة والمتشابكة على مساحة 500 كلم.
لتخيل المساحة المذكورة في التصريح السابق، والذي من تسمياته الكثيرة في إسرائيل مترو غزة، يمكن مقارنتها بطول مترو باريس الذي تبلغ مساحته 219 كلم، أو بالمسافة بين مكة المكرمة والمدينة المنورة والتي تبلغ 400 كلم.
الأنفاق من الجانب المصري
ليست الأنفاق مشكلة إسرائيل وحدها، فقد واجهت الأردن ومصر مشكلة أمنية مع الأنفاق نتيجة تفجير خط الغاز المصري الأردني الذي يمد المملكة بالطاقة من مصر أكثر من مرة في العام 2012، لكنها تظل مشكلة مصرية بالمفهوم السيادي ولو تأثر بها الأردن.
في فترة حكم الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، اتهم المجلس العسكري حركة حماس بأنها من تقف خلف حادثة مقتل 20 جندياً مصرياً في رفح في آب/ أغسطس 2012.
حرب الأنفاق أصعب بكثير من حرب الشوارع... الغموض البصري، نقص التهوية، المساحات الضيقة، الأصوات التي يشتتها الصدى فلا يُعرف مصدرها، وعدم إمكانية الهروب أو العودة إلى الوراء
بحلول أذار/مارس 2013 بدأ المجلس العسكري المصري عملية واسعة لإغلاق الأنفاق التي تربط غزة بسيناء، من خلال ردمها أو إغراقها بمياه الصرف الصحي، ولم تتوقف هذه العملية برغم طلب الرئيس محمد مرسي من السيسي الذي كان وزيراً للدفاع عدم استهداف الأنفاق، وبرغم مناشدات حماس لمصر بعدم إفساد الأنفاق إلى حين فتح المعبر، وبرغم تعهد المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين محمد بديع لرئيس وزراء حكومة حماس اسماعيل هنية آنذاك بوقف هدم الأنفاق.
مع انتقال الحكم للمجلس العسكري، أقام الجيش المصري منطقة عازلة وتوسع في عملية ردم وهدم الأنفاق التي تربط غزة بسيناء للسيطرة على "تسلل الإرهابيين" بحسب بيانات الجيش.
هل سنرى حرب الأنفاق؟
في تصريح جديد له حول احتمالية حرب الأنفاق يقول كولين كلارك مدير مركز صوفان للأبحاث في نيويورك إن حركة حماس "تعرف أنفاقها عن ظهر قلب"، مشيراً إلى أن "بعضها مفخخ" وأنهم "على استعداد للقتال في مثل هذه الأماكن، وإلى أن إسرائيل لا تمتلك المعلومات الاستخباراتية التي تحتاجها لهكذا قتال".
استخدمت مقاومة الـ"فيت كونغ" الأنفاق في مقاومتها للقوات الأمريكية في حرب فيتنام، وهي الأنفاق التي بناها الشيوعيون في الأربعينيات خلال حرب الاستقلال من الاحتلال الفرنسي.
من جهته يقول خالد السيد: "حرب الأنفاق أصعب بكثير من حرب الشوارع والقتال الجوي والبري، قد يكون رفيقك على بعد مترين منك ولا تعرف أين هو، وقد لا تعرف إن كان من ورائك من طرفك أو من طرف العدو. الغموض البصري، نقص التهوية، المساحات الضيقة، الأصوات التي يشتتها الصدى فلا نعرف من أين جاءت، وعدم إمكانية الهروب أو العودة إلى الوراء، كل هذا سيكرر كابوس الجيش الأمريكي في فيتنام مع الإسرائيليين".
حفرت أنفاق "كو شي" الفيتنامية على يد الشيوعيين خلال حرب استقلالهم من الفرنسيين، وفي الخمسينيات والستينيات خلال الحرب الأمريكية في فيتنام، استخدمتها مقاومة الـ"فيت كونغ" لإيقاع الخسائر بالقوات الأمريكية حتى سميت تلك الحرب بمستنقع فيتنام.
يختم السيد: "لا أتخيل حرب أنفاق تنتهي في أسبوع أو شهر، إن حدثت، فستجعل حرب الشوارع تبدو كنزهة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع