شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
من يمتلك

من يمتلك "الحق" في الإجرام... حياة الفلسطينيين العارية على خط النار

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والخطاب الديني

الأحد 15 أكتوبر 202311:22 ص

بعد كل عملية عسكرية مهمة يقوم بها أبناء الأراضي التي تحتلّها اسرائيل، ويكبدونها خسائر، ترتد إسرائيل على الجهة المنفّذة، وعلى البلد الذي تنطلق منه، بقصف عنيف واسع على العمران والسكان والموارد، الأمر الذي يخلّف دماراً كبيراً وضحايا كثراً وخسائر اقتصادية يصعب حصرها. من الطبيعي أن يولّد هذا الرد الانتقامي، لدى قسم كبير من الأهالي، موقفاً سلبياً إزاء الجهة التي "ارتكبت" العملية ضد إسرائيل. هذه هي الغاية من مثل هذا الردّ المدمّر، إضافة، بالطبع، إلى إشباع الرغبة في الانتقام.

ولأن إسرائيل تمتلك تفوقاً عسكرياً واسعاً، فقد حصلت الردود الانتقامية مراراً في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. حصل في الغزو الإسرائيلي للبنان في حزيران/يونيو 1982 ضد منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت عملياتها تنطلق من لبنان، وكانت الحجّة حينها محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في بريطانيا، رغم أن المحاولة كانت على يد تنظيم فلسطيني لا ينتمي إلى منظمة التحرير، ومناهض لرئيسها ياسر عرفات.

يفرضون على التفكير في الموضوع الفلسطيني أن تنحصر حركته في المساحة الضيقة، بين الحق المغتصب الذي يحرّض أصحابه على العمل لاستعادته بالقوة طالما أن السبل السلمية لاستعادته مسدودة، وبين الانتقام الشديد الذي يلي استخدام القوة، والذي يطال كامل البلد وأهله

وقد نجم عن الغزو حصار بيروت لثلاثة شهور تقريباً وتدميرها. وتكرّر هذا في حرب تموز/يوليو 2006 في لبنان، عقب قيام حزب الله بعملية أسماها "الوعد الصادق"، خطف فيها جنديين إسرائيليين بغرض مبادلتهما مع أسرى عرب لدى إسرائيل. وقد نتج عن القصف الإسرائيلي في هذه الحرب، رغم أنها لم تحقق أهدافها المعلنة في تدمير حزب الله وتحرير الأسرى دون تبادل، خسائر باهظة في العمران وفي الأرواح على لبنان، أثقلت على ما سُمّي "النصر الإلهي" بحسب وصف الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، الذي صرّح لاحقاً إنهم لو كانوا يعلمون ما ستجرّه الحرب من دمار وخسائر، لما أقدموا على خطف الجنديين.

اليوم نشهد شيئاً مشابها عقب عملية "طوفان الأقصى" التي ما زلنا في بدايات تداعياتها، وإن قادت، حتى الآن، إلى فرض حصار شامل على غزة، مع قطع الكهرباء والماء والطعام والدواء، وتدمير أحياء كاملة في غزة، وإلى قتل وإصابة آلاف الفلسطينيين، بفعل القصف الإسرائيلي الذي يمهّد على الأرجح لغزو بري. ومن غير المستبعد أن تكون لهذه العملية تداعيات تصل إلى مستوى نكبة 1948، وذلك على ضوء الموقف الأمريكي والأوروبي المنحاز بالكامل لإسرائيل.

من المفهوم، والحال هذه، التساؤل المطروح عن فائدة الدخول في معركة لا يوجد فيها تناسب في القوى، وستكون نتيجتها دماراً واسعاً على صاحب الحق الضعيف الذي تجرأ على المغتصب القوي، ولكن من المفهوم أيضاً أن تخرج دائماً مجموعة من أهالي الحق المهضوم، غالباً من الشباب، وتسعى لاستعادة هذا الحق بكل ما يتاح لها من سبل، متجاهلة العواقب. يمكننا أن نقول إن هذه حماقة مثلاً أو إن هذا السلوك مدمر ... إلخ، ولكن لا يمكننا إنكار الدوافع المحقة لهؤلاء الشباب.

هكذا يفرضون على التفكير في الموضوع الفلسطيني أن تنحصر حركته في المساحة الضيقة، بين الحق المغتصب الذي يحرّض أصحابه على العمل لاستعادته بالقوة طالما أن السبل السلمية لاستعادته مسدودة، وبين الانتقام الشديد الذي يلي استخدام القوة، والذي يطال كامل البلد وأهله. من المهم ملاحظة اختلاف الموضوع الفلسطيني عن موضوع الاحتلال الإسرائيلي لجزء من سوريا أو من لبنان، من حيث إن في سوريا ولبنان دولة لا تتوفر للفلسطينيين.

قوة الدولة السورية ومركزيتها الشديدة منعت دائماً نشوء أي مقاومة سورية مستقلة بغرض تحرير الجولان، وعليه كانت سوريا بعيدة عن معادلة الحق المسلوب والانتقام القاسي الرادع. اليوم تتلقى سوريا ضربات إسرائيلية متكرّرة، هي ضربات وقائية وليست انتقامية، وقد ترافق هذا مع تزايد ضعف الدولة السورية وتحولها أكثر فأكثر إلى ميدان للفعل الإيراني المباشر بعد 2011. أما في لبنان، فقد كان ضعف سيطرة الدولة اللبنانية أحد أسباب نشوء مقاومة وطنية ثم إسلامية فيه. ولذلك كان لبنان مسرحاً لانتقامات إسرائيلية متكرّرة.

وفي فلسطين، ملأت التنظيمات المقاومة فراغ غياب الدولة الفلسطينية، ويشير مسار المقاومة الفلسطينية إلى تراجع المقاومة الوطنية لصالح سيطرة المقاومة الإسلامية، كما حصل في لبنان أيضاً.

الانزياح الإسلامي بمثابة خشبة خلاص لمغتصبي الحقوق، ليس فقط بسبب موقف العالم السلبي تجاه الإسلاميين، بل أيضاً لأن الحركات الإسلامية لا تخدم القضية المحدّدة التي تتولاها بقدر ما تستخدمها في إطار قضية "دينية" هي بالنسبة لها، أهم وأعم

من اللافت أنه كما في النضال السوري الذي اندلع ضد الاستبداد الأسدي منذ أكثر من 12 سنة، كذلك في النضال الفلسطيني ضد الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، حصل انزياح إسلامي صريح. في الحالتين، كان هذا الانزياح بمثابة خشبة خلاص لمغتصبي الحقوق، ليس فقط بسبب موقف العالم السلبي تجاه الإسلاميين، لأسباب باتت معروفة ولا محل لتناولها هنا، بل أيضاً لأن الحركات الإسلامية لا تخدم القضية المحدّدة التي تتولاها بقدر ما تستخدمها في إطار قضية "دينية" هي بالنسبة لها، أهم وأعم، الأمر الذي من شأنه تهميش القضية المحدّدة، ومن شأنه استعداء أهل القضية المباشرين، الذين من الطبيعي أن لا تقبل نسبة كبيرة منهم إدراج قضيتهم في قضية أخرى لا يريدونها.

واضح أن في الهجوم الانتقامي الذي تقوم به اليوم إسرائيل ضد غزة، ما هو أبعد من الانتقام. إنه يشبه غزو لبنان في 1982. في الحالتين هناك هدف يتجاوز الردع إلى تغيير المعطيات على الأرض. في السابق نجحت إسرائيل بعد حصار بيروت، في إبعاد منظمة التحرير إلى تونس. اليوم تهدف إسرائيل إلى تفريغ غزة من أهلها. وبقدر جسامة ما تنوي إسرائيل تحقيقه في هذه الحرب، التي تشبه إلى حد بعيد، حتي الآن أقلّه، الحرب من طرف واحد، نجد مدى الاصطفاف الغربي مع إسرائيل، ومدى وقاحة التصريحات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، من اعتبار غزة مدينة الشر، بحسب رئيس الوزراء الإسرائيلي، إلى اعتبار الفلسطينيين وحوش على هيئة بشر، بحسب وزير دفاعه.

لا يبدو أن المجتمع الدولي في وارد منع إسرائيل من ارتكاب عملية تهجير واسعة، ولا يبدو أن مصر ستستطيع، في ظل الضغط الغربي، قد تستطيع الاستمرار في رفض التعاون. لا يبقى أمام المدنيين الفلسطينيين سوى أن يرفضوا الرحيل. أن يضعوا حياتهم عارية على خط النار.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

لا يزال الماضي يحكمنا ويمنعنا من التقدّم، ولا يزال فقهاء عصرنا ينسخون من أفكارٍ بعضها فاق عمره الألف سنة، من دون التفكير في العلاقة بين النص الديني والواقع المعيش، وهو ما نسعى يومياً إلى تحدّيه، عبر احتضان الأفكار التجديدية الساعية إلى بناء عقد اجتماعي جديد يحدد دور الدين في الحياة ويحرره من السلطة السياسية. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard