شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
نقاش في جريمة بيت حانون... أين الفرد من الأخلاق في زمن الحرب؟

نقاش في جريمة بيت حانون... أين الفرد من الأخلاق في زمن الحرب؟

تحيي الحرب الحالية على قطاع غزة، سؤالاً في صميم أخلاقيات الحروب، إذ لطالما بررت إسرائيل قصف المنشآت المدنية والمؤسسات العامة في قطاع غزة الفلسطيني في عدوان عام 2014 وما بعده، باستخدامها من قبل حركة حماس، كمخازن ومخابئ للأسلحة والصواريخ والقذائف التي تطلقها الحركة باتجاه المدن الإسرائيلية في الجنوب، ولطالما أنكرت حركة حماس ذلك في تصريحات عديدة عبر مسؤوليها في القطاع أو ممثليها في الخارج. إلا أن قصف مدرسة أو مؤسسة تابعة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين أونروا (UNRWA)، يُعدّ مسألةً دوليةً للنقاش لدى كل الداعمين لكل من الجانبَين، ولدى غيرهم من المنظمات الحقوقية العالمية والأمم المتحدة كذلك.

وعليه، أحاول كباحث تناول المواضيع التالية وفق الترتيب التالي:

أولاً، وجهة نظر كل من الجهتين: حركة حماس، وإسرائيل في تصوير الوضع الواقع والإشكالية، عبر تناول عدد من الأحداث التي تم التعرض فيها لملجأ تابع للأمم المتحدة في حادثة معروفة في الحرب على غزة عام 2014، أو قصف مؤسسات مدنية أو تابعة لوكالات دولية، وقتل مدنيين فيها على أساس خلفية معيّنة، وذلك بالاعتماد على ثلاثة أخبار من الصحف والمواقع التي تنتمي إلى مصادر فلسطينية أو عربية وإسرائيلية وأخرى عالمية، وما يتصل بها في ما يتعلق بمبدأ التأثير المزدوج DDE.

ثانياً، الانطلاق من هذه الحادثة لمناقشة الأخلاق في وقت الحرب لمن يعايشها بالأسفل تحت القصف، أو تحت التأثير المباشر للحرب. وعليه، سيكون الجانب الأول إخبارياً تقريرياً، والثاني أقرب ما يكون إلى صياغة أدبية تحليلية المنهج. وأنبّه إلى أن هذا السؤال حاضر في هذه الحرب، وأشدد على أهميته خلال الحرب لا بعدها.

ملجأ بيت حانون في غزة

في 8 تموز/ يوليو 2014، وعلى إثر تفجر موجة من التوتر في القدس، بدأت بعد حرق مستوطنين إسرائيليين للطفل محمد أبو خضير في 2 تموز/ يوليو 2014، وحوادث عديدة أعقبتها، بدأت إسرائيل عمليةً على قطاع غزة بهدف "وقف إطلاق الصواريخ من غزة على إسرائيل"، في حرب أطلقت عليها اسم "الجرف الصامد". وفي المقابل، أعلنت حركة الجهاد الإسلامي إطلاق عمليتها ضد إسرائيل بعنوان "البنيان المرصوص". استمرت الحرب العسكرية حتى نهاية آب/ أغسطس من العام نفسه، بخسائر مادية وبشرية كبيرة.

ما يهم في هذا التحليل، يتعلّق بحادثة ضرب إسرائيل ملجأً تابع للأمم المتحدة في منطقة بيت حانون في غزة، فقد "ضربت غارة إسرائيلية الملجأ التابع للأمم المتحدة ما أسفر عن مقتل وإصابة العديد من الفلسطينيين بجراح بحسب ما أعلن المتحدث باسم الأمم المتحدة". وما عقّد الموقف، أولاً تبعية هذا الملجأ للأمم المتحدة فرع الأونروا UNRWA، كونها منظمةً أدانت ضربه، خصوصاً بتصريحات صادرة عنها بأنه "تم إعلام الجيش الإسرائيلي بموقع المدرسة 17 مرةً متتاليةً، كانت آخرها الساعة التاسعة إلا عشر دقائق من مساء الثلاثاء في 11 تشرين الأول/ أكتوبر، ساعات قليلة قبل القصف المميت على المدرسة".

 مناقشة موضوع أخلاقيات الحرب لا تهتم بالأفراد فعلاً، وإنما تهتم بالمؤسسة ككل، أي الدولة والجماعات. وعليه، فإن الخوض في مسألة أخلاق الحروب هي مسألة متعلقة بالسياسة وتبرير أفعال الدولة غير الإنسانية

وبناءً على ذلك، شكلت إسرائيل لجنة تحقيقات عسكرية تابعةً لها؛ "لجنة تقييمات لتقصي الحقائق"، بناءً على تصريحات الأمم المتحدة وتحميلها إسرائيل مسؤولية ذلك كونها أطلعت إسرائيل على مكان المدرسة والهدف منها كملجأ. وعليه، أظهرت نتائج لجنة التحقيقات التابعة لإسرائيل استخدام حركة حماس للملجأ كمخبأ للصواريخ والقذائف مستخدمةً المدنيين كذلك دروعاً بشريةً.

وكما صوّر الجيش الإسرائيلي الوضع لـ"هيومن رايتس ووتش"، فقد "عرض صوراً لما قال إنها كانت صواريخ مخبأةً وتم إطلاقها من مجمعات مدرسية". لكن ردت "هيومن رايتس ووتش" بـ"لم تكن أي من الصور من المدراس الثلاثة التي تديرها الأمم المتحدة، والتي حققت هيومن رايتس ووتش فيها حيث قُتل الكثير من المدنيين". وقد أشارت المنظمة إلى استهداف إسرائيل للعديد من المدارس التي استخدمها المدنيون الفلسطينيون كملاجئ في هذه الحرب، وهي الرؤية التي اشترك فيها الجانب الفلسطيني في قطاع عزة.

من بعيد: الأخلاق في الحرب

انطلاقاً من التصوير الإسرائيلي الذي يتبنى استخدام حركات "المقاومة الفلسطينية"، وحركة حماس على وجه الخصوص لهذه المدارس كمخابئ للأسلحة أو كمنصات إطلاق للصواريخ على المناطق الإسرائيلية، فهل يمكن دراسة الحادثة بالتصور التالي على فرضية أن الجيش الإسرائيلي قصف هذه المدرسة آخذاً بمبدأ التأثير المزدوج في استهداف المكان بقصد معيّن، مما يذهب ضحيته العديد من المدنيين الأبرياء؟

لتناول السؤال ومناقشته، وبغض النظر عن التصوّر كونه خطأً أو أقرب إلى الخطأ أو صائباً أو أقرب إلى الصواب، أو كون الحرب عادلةً أم غير عادلة على قطاع غزة، هناك ضرورة لتصوير الوضع بمبدأ التأثير المزدوج. فاعتماداً على الفرضية السابقة، قامت إسرائيل بالفعل الذي تعتقد أنه صحيح، وهو ما يحقق أقصى قدر من الفائدة العامة، بالرغم من إصابة المدنيين في الملجأ بضرر. وإن ضرب هذا الملجأ من شأنه القضاء على المقاومة وضرب الأسلحة التي يتم تخزينها فيها، بالإضافة إلى تخويف المقاومة وردعها عن ضرب المناطق الإسرائيلية.

من تناول هذه الصياغة؟ هنا يمكن الانطلاق من أن المؤسسات الدولية والدول ككيانات سياسية هي من تناول هذه القضية ودرسها، فكان على الجانب الإسرائيلي، التبرير للمهتمين من المجتمع الدولي، وكان على الجانب الفلسطيني (حركة حماس ودولة فلسطين-الكيان السياسي)، أن يحمّل الجانب الآخر المسؤولية وأن يتخذ إجراءات قانونيةً من شأنها محاسبة المسؤولين عن هذا الفعل غير الأخلاقي/ الأخلاقي.

وحسب المثل القائل "بين حانا ومانا ضاعت لحانا"، فإن الفرد أو الإنسان في كل هذا الخضم ضاع كله. فلم يطالب أحد بتعويض مادي أو علاج معنوي للأحياء، خصوصاً إن تم ربط الحرب هذه، وهذه الحادثة على وجه الخصوص، بفقدان الأمان حتى في الملاجئ التي تتبع لمنظمات عالمية، إذ لم يتم إثبات استخدام حماس لهذا الملجأ في ذلك الوقت لأغراض عسكرية أو أي أهداف أخرى. وحسب ما يشير هرم ماسلو، فإن الأمان هو القاعدة الثانية من هرم الاحتياجات الإنسانية، وتالياً فقدان الأمان لدى الإنسان أو الفرد غير مناقش في موضوع أخلاق الحرب المهتم بتبرير انتهاك خصوصية الفرد وحقه في الأمان.

وعليه، من يتناول الموضوع كما هو مصوّر بهذه الصورة؟ الباحثون؟ الدول المعنية؟ منظمة الأمم المتحدة؟ منظمات حقوقية؟ الهيئات والمحاكم الدولية؟

في البحث عن موضوع الحرب، لن تكون المؤلفات إلا في السياق التالي: موضوعات عامة عن الحروب، مثل أسباب الحروب، تداعياتها، موسوعات الحروب، الحرب العالمية الأولى والثانية والتحالفات، الإرهاب، الحروب الأهلية، تقارير الأمم المتحدة في ما يتعلق بالحروب، وموضوعات أقرب ما تكون خاصةً، كالسير الذاتية في الحروب، فلسفة الحرب كذا، صور فوتوغرافية... وهي الأقل عددياً.

 الفرد أو الإنسان في كل هذا الخضم ضاع كله. فلم يطالب أحد بتعويض مادي أو علاج معنوي للأحياء، خصوصاً إن تم ربط الحرب هذه، وهذه الحادثة على وجه الخصوص، بفقدان الأمان حتى في الملاجئ التي تتبع لمنظمات عالمية

وفي سياقات مختلفة قد يكون هناك من يبحث في العلاج السيكولوجي وآثار الحروب على الأفراد. ومن هذا المنطلق، فإن مناقشة موضوع أخلاقيات الحرب لا تهتم بالأفراد فعلاً، وإنما تهتم بالمؤسسة ككل، أي الدولة والجماعات. وعليه، فإن الخوض في مسألة أخلاق الحروب هي مسألة متعلقة بالسياسة وتبرير أفعال الدولة غير الإنسانية. وبربط ذلك بواقعة ملجأ بيت حانون، فإن الأفراد الذين سقطوا ضحايا هذه الحادثة لم يؤخذوا بالحسبان أو حتى التعويض المادي على الأقل، ومن هنا هناك حاجة إلى إعادة صياغة أخلاقيات الحرب على أساس منظور تكوينها، فهذه الأخلاق تتم صياغتها من بعيد لا من قريب، خصوصاً أن من يدير الحرب ويشعلها هي مؤسسات الدولة أو الجماعات التي تتخذ الجيش أو الجماعات المسلحة أساساً لتحركاتها.

من قريب: عمر ضائع

هل يهم هذا كله؟ سؤال بسيط قد يسأله من يتعرّض للقصف: من ضحايا هذه الحرب؟ من مات في هذه الحروب؟ من وُلد وعاش فيها؟ ومن كانت هذه الحروب جزءاً من حياته التي أصبحت اعتياديةً؟ الشائع في آثار الحروب هي الأرقام، الخسائر المادية، وعدد الأموات، وفي كل هذه المأساة، لا يلتفت أحد إلى البؤس الذي تتركه الحروب في نفوس الناس، فموتى الحروب ليسوا أرقاماً، والناجون منها ليسوا أحياء تماماً.

بجانب كل هذا البؤس، هناك ما لا يلاحظه إلا الأفراد في ما يخص الوقت الضائع وحياة الفرد وحياته التي تتوقف فجأةً. فمثلاً، تقول دلال البزري في كتابها "دفاتر الحرب الأهلية": "يتوقف الوقت تماماً عندما تصيبك الحرب مباشرةً بأسهمها. بعد تهجيري من الضاحية، واختطاف زوجي أو ابني، لا يعود ثمة وقت، بل يتبخر. تصبح أيامي ولياليّ مثل وصلات متتالية من الخوف والبحث والسؤال والانتظار. حينئذ، يتحول الوقت، حتى وهو ميت، إلى غول كونيّ. فكأن الوقت لم يكتفِ بـ'موت' الوقت؛ يريد التمثيل بجثته، فيمعن في ضياعي...". فالحروب هي تهجير، خطف، قتل، آثار نفسية، خوف، قلق، تشرد، عدم الشعور بالأمان، وقت ضائع، خسارة مادية، خسارة أشخاص، وخسارة وقت وذكريات.

الحرب حسب التعريفات اليوم، هي حين تقوم الدول أو الجماعات باستخدام النزاع المسلح. هل نحن بحاجة إلى نزاعات مسلحة لنرى الحروب؟ وهل نحن بحاجة إلى نزاعات مسلحة أو قتل مدنيين وأفراد لنلجأ إلى تحكيم الأخلاق في الذين يموتون؟ هناك العديد من الحروب اليوم التي لا تُستخدم فيها النزاعات المسلحة كأداة للحرب، خصوصاً في تلك المناطق التي تُستخدم فيها الأدوات الناعمة. فمثلاً، الحرمان من الجنسية، أو العنصرية تجاه عرق معيّن، الاستيطان، التفتيش، إغلاق الطرق، منع التحدث بلغة معينة وتبعات هذه السياسات وأشكالها العديدة، وبث الأيدولوجيات... هل هناك حاجة إلى نسمع صوت المدافع وهدير قصف الطائرات لنعي بأن هناك بؤساً يسكن الأفراد جراء خوض هذه الحروب؟ هناك حاجة إلى إعادة تعريف الحروب، وتفعيل مستويات أخرى من الأخلاق.

أين الفرد؟ 

لم تخلّف حادثة قصف بيت حانون القتلى أو الشهداء فقط، ولم تدمّر المبنى فحسب، وكذلك لم تترك أثراً لمناقشة الموضوع على الساحة الدولية في لوم إسرائيل أو في الدفاع عن السبب في قصفها لهذا الملجأ التابع للأمم المتحدة/ الأونروا. ولم تعد حادثة كهذه تتعلق بآثارها المادية أو المعنوية فقط، أو ما أشعلته من نقاشات أكاديمية أو فلسفية أو سياسية.

لم تخلّف حادثة قصف بيت حانون القتلى أو الشهداء فقط، بل حرمت الفرد من الأمان حتى في ظل المؤسسات الدولية. كذلك حرمته من الأمل في أخلاق المجتمع الدولي

حادثة كهذه، تركت أثراً لدى الفرد أكثر مما تركته لدى المؤسسة أو الدولة أو المنظمة. لقد حرمت الفرد من الأمان حتى في ظل المؤسسات الدولية. كذلك حرمته من الأمل في أخلاق المجتمع الدولي في وقت الحرب وحالاته وتركت فيه خيبة أمل لا يمكن أن يُشفى منها أو تزول.

والأهم من ذلك، تركت في النفوس تساؤلاً في دروس أخلاقيات الحرب التي يحتاجها العالم على مستويات مجتمعاته ومؤسساته ودوله: هل هناك أخلاقيات حرب تختص بالفرد في حروب تخوضها الدول وتضحي بالأفراد في سبيل فائدة عامة؟ هذا المبدأ يدفع الدول إلى التضحية بالأفراد في سبيل منفعة عامة، أي منفعة عامة قد لا تسأل في شؤون كل أفرادها! حادثة بيت حانون بحاجة إلى إعادة مناقشة ليس فقط لإلزام إسرائيل بتحمل المسؤولية تجاه الفلسطينيين الأفراد والمدنيين، بل لإعادة النظر في مبدأ التأثير المزدوج، وكذلك في أهمية النظر إلى الأفراد بشكل مختلف، وبتأثير الحروب الناعمة والمسلحة بشكل آخر. ولربما هناك حاجة للنظر إلى أخلاقيات الحرب بشكل واقعي يأخذ الفرد كمركز لا الجماعة، فللفرد أهمية لا تقل عن الجماعة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard