شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
هل ترحل مدننا معنا؟

هل ترحل مدننا معنا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

وكأنها سيجت الذاكرة بأسوارها فأصبح الفرار منها محض سراب، تلقي بصورها من نافذة أيامنا وحين نغمض عيوننا نجدها أمامنا... تركض نحو مدن جديدة، تفتح ذراعيها تستقبلنا وكأطفال تائهين نخاف حضنها، يفزعنا مطرها ويقلقنا هدوؤها، فنلجأ لضواحي مدينة أخرى لعنتنا وأقسمنا لأنفسنا في يوم عاصف على نسيانها، وخطونا أول خطواتنا خارجها محتفلين بالاستقلال. لكن ذاكرتنا ظلت تتسلل إليها دوماً تطير نحو أزقتها تبكي عند بيوتها، تراقب أشجارها، ووجوه أهلها وكأن الزمن توقف عندهم فهم لا يكبرون مهما مرت السنين.

قد نردد كما ردد الشاعر اليوناني كافافيس، ونصرخ: "سوف أرحل/إلى بلاد أخرى /إلى بحار أخرى/إلى مدينة أجمل/من مدينتي هذه".

ويردّ صدى أصواتنا علينا:

"لا أرض جديدة يا صديقي هناك/ولا بحر جديد /فالمدينة ستتبعك /وفي الشوارع نفسها سوف/تهيم إلى الأبد".

 تحكي الشاعرة العراقية لميعة عباس بلسان المغترب عن وطنه وارتباطه بالأرض الأم مهما سافر ورحل بعيداً عنها قائلة: "لا نستمتع بجمال الأشياء التي نراها في العالم إلا إذا شبهناها بمكان بالعراق، نرى الجبال ونقول هذه جبال الشمال، نرى النهر ونقول هذا دجلة"

تستحضر الذاكرة صوت نخلة سومرية اقتلعت من بغداد، لكن جذورها بقيت وتمددت فكانت في كل يوم تطرح ثمر قصائدها. عرفت الشاعرة العراقية، لميعة عباس عمارة، الغربةَ عن قرب كما الظلم والهرب، فقد فصلت من وظيفتها وصادروا كتبها وأصبح اسمها رسمياً ضمن المطلوبين أمنياً وأعدمت فتاة بريئة بدلاً عنها كان ذنبها أنها حملت ذات الاسم.

كان ذلك في الستينيات بعد الانقلاب على عبد الكريم قاسم. بدأت غربة النخلة العراقية في السبعينيات من القرن الماضي في عدة عواصم إلى أن استقرت في بيتها الأمريكي لعقود، ظلت تناجي بغدادها إلى رحيلها الأخير عام 2021 قائلة: "حتى بأحلامي أدور ولا أرى/بيتاً لأهلي فيك أو قبراً/لا أمسي لا تاريخ لي فأنا /ممحوة من عالمي قسراً".

هي كما تقول لا تعرف لنفسها منشأ غير طين العراق،  ولا تعرف أصلاً غير جذورها السومرية البابلية. تحكي لميعة عباس في حوار مرئي بلسان المغترب عن وطنه وارتباطه بالأرض الأم مهما سافر ورحل بعيداً عنها قائلة: "التقيت بعدة مهاجرين من لبنان والعراق، لا نستمتع بجمال الأشياء التي نراها في العالم الا إذا شبهناها بمكان بالعراق؛ نرى الجبال ونقول هذه جبال الشمال، نرى النهر ونقول هذا دجلة، نرى الشارع نقول هذا شارع أبو نواس، وهذه قلعة أربيل. مع أن الأشياء التي نراها الآن أجمل من ذكرياتنا"، وتضيف بلكنتها العراقية المعتقة: أشبهها بوجه أمي. هناك ملكات جمال "بس مايصيرون أحلى من وجه أمي".

كتب العديد من المبدعين والأدباء أقدارهم خارج أسوار مدنهم لكن أعينهم بقيت دوماً عليها، منهم من عاد حاملاً نجاحه معه ومنهم من عاد محمولاً على الأكتاف في نعش خشبي.

حلب

لا يشكّ الصحافي السوري محمد العمر بأن علاقة المرء بمدينة مثل حلب معقّدة إلى أبعد الحدود، إذ تتراوح بين التعلّق المرضي بتفاصيلها إلى كره البقاء فيها يوماً إضافياً.

علّمني التنقل بين دمشق واللاذقية وبيروت وعنتاب وإسطنبول أن لحلب نكهةً خاصة. يقول العمر، ويضيف لرصيف22: "يمكن للشخص أن يتذوقها حقاً في طعامها الذي أجزم أن الدنيا لم تأتِ بأشهى منه، ويمكن أن يشمّ روائح حاراتها القديمة التي تروي حكايا آلاف السنين لمجرد أن يفكّر العابر فيها بأن هذه البقعة من الأرض عاش فيها البشر منذ 12 ألف سنة".

كيف لا نحب هذه المدن ونفكر بهجرها ونسيانها وهي في نسيج الدم وإن متنا بعيدين عنها فما وصيتنا إلاّ أن نُحمل إليها لنُدفن في ترابها؟

يضيف محمد: "أما الغياب عنها فهو الوسيلة الوحيدة لاستكشاف التعلق فيها والانتماء لها. ستتعلّم جيداً أي قيمة لها في القلب وأي طقوس تمنحها لأبنائها وتفشل المدن الأخرى في ذلك، لا سيما وأنها المدينة التي قصمت الحرب ظهرها، ثم حيت واستقامت وعاندت مليّاً للبقاء برغم الحروب والغزوات، بل وحتى منذ زلزال القرن الثاني عشر حتى زلزال شباط/فبراير 2023".

ويقول: "لكن نظرة عن بعد أو ارتفاع إلى أحيائها ستدمي القلب. هذه المدينة الراسخة في الوجود بدأت تذبل تحت وقع الحرب والفقر، وبدا أنها لم تعد تحتمل كل هذا الجور من الحصار والتضييق، المدينة التي غادرتُها حين عطشت ذات 2015، كنت أكره تذكّر تفاصيلها إلى أن اشتقتها غربةً. وهو السرّ الذي يجعل فراقها شهياً في البداية وندماً لاحقاً لا يزول، كونها مدينة عصيّة على النسيان وقادرة على صناعة الذكريات الراسخة في الحواس في كل دقيقة تعايشها وتلمس جدرانها، هذه المدينة الحيّة بعناد لن تغادر ذاكرتك بسهولة وستترك بصمتها في عمرك طالما جرّبت أن تعانقها مرة واحدة".

الجزائر

على الرغم من طبيعتها وموقعها المميز وأهلها الذين يوصفون بأكرم الناس وأكثرهم احتفاء بالضيوف، إلا أن الكاتبة ليلى أحمد تجد مشاعرها حيادية تجاه مدن الداخل الجزائري التي تنتمي إليها والبعيدة عن العاصمة والمنسية. ولا تعلم لماذا! تقول: "لي فيها ذكريات وطفولة وأيام جميلة وقاسية. آخر مرة زرتها كأني بها تسعى إلى الأحسن وكأن الطريق شاق وطويل".

تحكي ليلى عن زياراتها السريعة إلى مدينتها الأم قادمة من إسطنبول، قائلة لرصيف22: "أتحمس لزيارة الأحبة في بيوتهم التي عرفتها، أما الشوارع في أغلبها، خاصة الحديثة منها، لا تصيبني الا بالإحباط، وأحياناً بالألم والاختناق. للأسف أكاد لا أخرج من بيتي هناك. حاولت عبر سنين عمري جمع كل ما يغنيني عن الخارج.  هناك خط رفيع يفصل بين المكان وساكنيه والمدن بساكنيها وهم أطياف وألوان لا يشبه بعضه بعضاً وإن بدا غير ذلك، ولا يمكن فصل المدينة عن أناسها".

تؤكد ابنة الجزائر أن من يترك مدينته وقد بلغ سن النضج واحتفظ في كل زواياها بذكرى، فإن المدينة ترحل معه أينما ذهب وتقول: "من يهاجر صغيراً ليس لديه هناك ما يشده إجمالاً، إلا إذا هاجر مع ذويه وظل التواصل بينه وبين المدينة عبر أحاديث الصباح والمساء عنها".

بيروت

تتساءل الإذاعية اللبنانية أمل المصري: "هل تصنعنا المدن أم نحن نصنعها؟ أهي هبة الله بطبيعتها أم الأخرى المنسية أنشئت بلا حب وعلى كرهٍ نسكنها؟". وتقول: "قد تقسو المدن فتنبذك وتسلبك حريتك وتطردك نحو المنافي، لكن أهي من تفعل ذلك؟".

تؤكد ابنة الجزائر أن من يترك مدينته وقد بلغ سن النضج واحتفظ في كل زواياها بذكرى، فإن المدينة ترحل معه أينما ذهب

عن بيروت مدينتها تردد كلمات الشاعر نزار قباني: "نعترف الآن/بأنّا لم ننصفك ولم نرحمك/بأنّا لم نفهمك ولم نعذرك/وأهديناك مكان الوردة سكيناً"، وتضيف: "بيروت اليوم تتجرع مرارة الحصار فهل أكرهها؟ قد أخجل من نسيانها واستبدالها بحقيبة نحو مدينة أخرى تعزيني بفقدان حبي الأول لمدينتي".

كاتب ومدينة

روايات الحنين ومراثي الشعراء عن مدنهم الحافرة عميقاً في وجدانهم؛ هذا الحبل السرّي الذي يربط الإنسان بمكان المنشأ كان حافزاً لتتبنى أمل المصري برنامج "كاتب ومدينة" الذي أعدته وقدمته عبر أثير "إذاعة لبنان". تقول: "شاهدت أكثر من أربعين مدينة بلسان كتابها أو شعرائها وصحافييها. عن بغداد حدثتني بحب الفنانة الراحلة سحر طه التي لم يثنِها ألمُ السرطان عن فعاليات الفن والحب والوفاء لبغداد. أما حديث القاهرة ومقاهيها الشهيرة بأدبائها ومساجدها وتاريخها فمن أفضل من الراحل طلال سلمان ليحدثنا عنها؟ فهو مصري الهوى وقضى فيها سنوات من عمره،  والقاهرة شكلت انتماءه ومزاجه وخياره السياسي. وحكت ببراعة الدكتورة إلهام كلاب، الباحثة في العمارة، عن مدينة جبيل اللبنانية وجمالياتها، وكيف كانت صدىً لأثينا العظيمة. وعن نواكشوط حكى الإعلامي سامي كليب عن ذكرياته فيها، وعن ثقافة أهلها في الشعر وقد ربط بينها وبين الأندلس.

تصف أمل المصري حلقة الباحثة الدكتورة بيان نويهض الحوت ومدينتها القدس القديمة بالأجمل وتقول: هي تحدثت عن "بواباتها ومساجدها وكنائسها. عن الرائحة الحميمة في أسواقها، ودكاكينها العتيقة المزدانة بالكعك والزعتر، وعاديات لا تجدها إلا هناك، حيث يحمل الهواء صدى الصلوات فيها. مدينة الأنبياء، وإليها تهفو القلوب من كل الأديان".

كيف لا نحب هذه المدن ونفكر بهجرها ونسيانها وهي في نسيج الدم، وإن متنا بعيدين عنها فما وصيتنا إلاّ أن نُحمل إليها لنُدفن في ترابها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard