القاهرة هي الواقع وهذا الواقع صلب، لأنه وفي لحظة زمنية سوداء، ارتدت هذه المدينة عباءة التدين الزائف، منفصلة بشكل حاد عن تاريخها وإرثها الحضاري العريق، فصارت مسخاً. وعندما تُتاح الفرصة لشاعر من هذه المدينة، للسفر والارتحال إلى عالم آخر، سيكون السفر أرضاً خصبة للأحلام، لتنكسر صلابة الواقع، ويتفجر الشعر.
هكذا كانت رحلة الشاعر والمسرحي جرجس شكري (1967)، إلى عدة مدن أوروبية، على مدار عدة سنوات بشكل متقطع، قصيدة ممتدة بطول أوروبا، تتردد أصداؤها في فضاءات مسرحية، وسط الكنائس القديمة، وعلى مقربة من الغابة السوداء، وفي بيوت مزارعي البلقان، وقبل كل شيء، داخل نفس الشاعر، الذي يقول في مقدمة كتابه "كل المدن أحلام" (دار آفاق للنشر بالقاهرة)، إن رحلته إلى أوروبا كانت محاولة لاكتشاف الذات، عبر رحلة طويلة سافر فيها إلى نفسه في الماضي والحاضر والمستقبل؛ "أصعد إلى الطائرة، فأتذكر طفولتي وسنوات الدراسة والبيت وأصدقائي. أتذكر الموتى والجنازات التي مشيت خلف أصحابها حتى مثواهم الأخير. تتراكم أمامي سنوات وشهور وأسابيع وأيام. أسافر بعيداً وكأن الطائرة تتوجه إلى الماضي تسافر بي عبر الزمن قبل أن تعبر المكان".
في سنوات المراهقة كان جرجس شكري، يبني المدن من الشعر والموسيقى والفلسفة والشخصيات التاريخية، وقد لازمه هذا النهج الشعري، في رحلته إلى أوروبا، فكان يبحث عن هؤلاء الذين شيدوا العمارة الروحية للمدن.
في سويسرا، كان يتأمل الوجوه باحثاً عن دورينمات، وكلما مرّ بقرية، بحث بين الغابات والمزارع عن جان جاك روسو، هائماً على وجهه في الريف، في سنوات الصبا والتشرد يطلب طعاماً من الفلاحين. وفي أمستردام بحث عن باروخ سبينوزا متشرداً في الشوارع بعد حرمانه من الكنيس اليهودي، واتهامه بالهرطقة، متخيلاً أنه سيجده جالساً في دكانٍ صغيرٍ، يصقل العدسات ويُناقش الزبائن في طبيعة المادة ووحدة الوجود.
يقول جرجس شكري في مقدمة كتابه "كل المدن أحلام" إن رحلته إلى أوروبا كانت محاولة لاكتشاف الذات، عبر رحلة طويلة سافر فيها إلى نفسه في الماضي والحاضر والمستقبل
وفي برلين عاش يوماً كاملاً بين بيت ومسرح ومقبرة بريخت، وكذلك في بيت جوته. هذا ما كان يبحث عنه صاحب "ضرورة الكلب في المسرحية"، في شوارع المدن الأوروبية، لكن ما الذي خطفه هناك، حدّ النشوة والحلم؟
متحف مفتوح للزمن
ثمة اتصال عميق بين الأوربيين وماضيهم، بكل ما يحمله هذا الماضي من إرث حضاري وثقافي؛ فالأزمنة تحيا وتتألق متجاورة، حتى أن الزمن يُصبح صفراً، وتكون القيمة الجمالية هي المعيار الأساسي.
نظريات الحداثة وما بعد الحداثة لم تلغ هوية هذه الشعوب، التي تتمسك بالطقوس والعادات والتقاليد حدّ تمسكها بالحياة، وكان ذلك التمسك بالماضي وهذا التجاور بين الحقب التاريخية المختلفة، الذي يحيل هذه المدن إلى فضاءات مسرحية وشعرية، السرَّ وراء اندهاش جرجس شكري وحسرته في آن. حسرة جرجس على الميراث الحضاري المصري المهدر، الذي جرى تأثيمه، بل دهسه في حرب شعواء على الهوية، شنها ذلك التيار المظلم.
يقول صاحب "رجل طيب يُكلم نفسه: "في أجمل المدن الأوروبية، يحتفظون بعمارة القرون الماضية، بالبيوت الصغيرة، بالأبواب والنوافذ والشوارع الضيقة التي تتكئ فيها البيوت فوق بعضها وكأنها صفحات من التاريخ متناثرة في فضاء المدن لتقرأها الأجيال التالية فهذا الشارع من القرن السابع عشر، وبعد خطوات بناية من القرن السادس عشر، وهكذا تتجاور الأزمنة. أما نحن فقد تخلصنا من تاريخنا، كما يتخلص شخص من ملابسه البالية، هدمنا كل ما له علاقة بهويتنا، واستوردنا بيوتاً ونوافذ وأبواباً لا نعرفها، وهي أيضاً لا تعرفنا، فصرنا غرباء، نحن وبيوتنا، في المدينة التي نعيش فيها".
مشاهد من مسرح الحياة
كانت مدينة زيورخ السويسرية، هي المحطة الأولى لجرجس شكري في أوروبا (2002)، وهي أكثر المدن الأوروبية التي زارها، وعاش فيها، وأقام علاقة ودية معها. كان يقضي وقته في الشوارع، ضيفاً على المقاهي والمطاعم والحانات الصغيرة والأرصفة، متأملاً المدينة وقد تحولت بكاملها إلى مسرحية؛ فهناك الشاب الذي يرتدي معطف الطبيب، ممسكاً بيده مطرقة صغيرة، عادة ما يستخدمها طبيب العظام، يخطو ضاحكاً وحوله مجموعة من الشباب، يتقدم المقهى، ويسأل فتاة تجلس في الطاولة التي بجواره، فتبتسم وتشيح بيدها.
"أسافر بعيداً وكأن الطائرة تتوجه إلى الماضي تسافر بي عبر الزمن قبل أن تعبر المكان"
يسأل جرجس الفتاة التي تجلس إلى جواره عما يحدث، فتخبره أن هذا الشاب يودع أيام العزوبية بهذا المشهد، سوف يتزوج غداً وبالتالي يودع أيام الفوضى ويمارس أفعالاً سوف يمتنع عنها. ومن قبل كان جرجس قد شاهد فتاة تُحيط رأسها بالزهور، مثل تماثيل ربات المثيولوجيا اليونانية، وترتدي فستاناً أبيض وطرحة زفاف وتحمل سلة من الخوص بها زجاجات نبيذ، وحولها الفتيات صديقاتها، كأميرة ومعها الوصيفات، يطفن الشوارع "وهذه أيضاً عروس تودع حياة العزوبية بليلة صاخبة من السكر والعربدة مع صديقاتها ولن يُشارك أيّ رجل في هذه الليلة، كما لم تُشارك أي فتاة في وداع العريس للعزوبية.
الإله الشريد... صانع الخمر والجنون
في آب/أغسطس من كل عام، يسيطر الجنون على المدينة (زيورخ، ويحكمها، حيث يتخلى الأوربيون عن عاداتهم وسلوكهم الحضاري، ويتحولوا إلى كائنات عشوائية، ترقص وتسكر وتطلب النشوة، وهذه الاحتفالية تسمى بـ "موكب الشارع"، ويتوافد إليها أكثر من مليون سائح من المدن الأوروبية، إذ يتحول وسط مدينة زيورخ إلى حفل صاخب يرتدي فيه هؤلاء ملابس تبدو تنكرية.
ويكون الفضاء مزدحماً بـ"جنود في ملابس عسكرية ورجال شرطة لا تتجاوز أعمارهم العشرين عاماً، وأطقم بحارة وطيارين، وجامعي قمامة، مبشرين ولصوص، فتيات يرتدين الملابس الداخلية، يضعون جميعاً الشَّعر المستعار بألوان صاخبة، الأحمر والأصفر، والأخضر مع النظارات الشمسية الملونة، والموسيقى تهدر في جميع الاتجاهات".
يقول جرجس إن الإغريق كانوا يقيمون هذا المهرجان قبل الميلاد بسنوات طويلة، احتفالاً بالإله ديونيسيوس، إله الخمر والحدائق، الذي أطلق عليه الرومان اسم باخوس، وكان لإله الخمر طقوس سُكرٍ تُقام لأجله في المعبد، وكانت له حاشية يُسمونهم عفاريت الغابة، ولهم أبواق ينفخون فيها، وخلال الاحتفالات كان المحتفلون يمثلون دراما قصة حياته بالجوقات الموسيقية، وهي أشبه بالتراجيدي، وكان المحتفلون يسيرون في موكب ضخم، وهم يحملون تماثيله، وهو يحمل رُمحاً ومتوجاً بحلية مخروطية تحيط بها أوراق العنب.
فتاة "تل العمارنة" التي تحلم بالعودة إلى مصر
في عام 2004، وتحديداً بعد معرض فرانكفورت، كانت رحلة جرجس شكري إلى مدينة سان جالن، وهي مدينة صغيرة، تقترب من الحدود الألمانية أكثر من قربها للمدن السويسرية، وهي تحمل اسم القديس "جالن". وتقول الحكاية الشعبية إن القديس جالن راهبٌ أيرلندي جاء إلى هذا المكان في القرن الثامن عشر، وهو أول إنسان سكن في المدينة مع الوحوش والدبّ.
وقد أسس هذا الراهب ديراً ضخماً، وبداخل الدير – في ما بعد- تم تأسيس واحدة من أضخم المكتبات في العالم، من حيث أهميتها وندرة المخطوطات الموجودة بها، حيث تضم ما يزيد على مئة ألف عنوان في تاريخ الفن والموسيقى والأدب وأبحاث اللغة الألمانية، وتاريخ القانون، بالإضافة إلى 1650 مخطوطة نادرة.
"غادرتُ المكتبة، وربما نسيتُ كل شيء فيما عدا وجه هذه الفتاة الفرعونية، التي تنام وحيدة بين المخطوطات النادرة، وتراقب الجليد من النوافذ القوطية في المكتبة"
لكن ما أدهش جرجس، هي تلك الفتاة الفرعونية التي تحتل ركناً كبيراً في المكتبة "حين شاهدتها لم أصدق نفسي، مومياء فرعونية حقيقية لفتاة صغيرة عمرها لا يزيد على ستة عشر عاماً، وعلى الفور سألت كيف جاءت إلى هنا، فأخبرني المسؤول عن المكتبة أن نابليون بونابرت أهداها لحاكم سان جالن، وبالطبع تم ذلك إبان الحملة الفرنسية على مصر. وعرفت أنها مومياء لفتاة من تل العمارنة، غادرت المكتبة، وربما نسيتُ كل شيء فيما عدا وجه هذه الفتاة الفرعونية، التي تنام وحيدة بين المخطوطات النادرة، وتراقب الجليد من النوافذ القوطية في المكتبة".
الغابة السوداء
ومن سان جالن السويسرية، اتجه جرجس إلى ألمانيا، حيث حمله صديقه الشاعرخوزيه أوليفر بسيارته إلى قرية صغيرة في الغابة السوداء، ليقضي هناك أوقاتاً ساحرة، يقرأ الشعر وسط جمع غفير من الفلاحين، ويعود إلى الغابة السوداء مرة أخرى في عام 2017، ليزور متحف يسمى "متحف القرية"، أقيم بعد أن مات آخر الفلاحين القدامى، الذي كان يسكن البيوت القديمة، فأقيم المتحف حول البيت، والقرية يرجع تاريخها إلى القرن السادس عشر، وفي نفس القرية، تناول العشاء في مطعم "الشمس" الذي كان يعود عمره إلى أكثر من خمسة قرون.
ويتذكر جرجس الحوار الذي دار بينه وبين صاحب المطعم، فقبل أن يغادر وهو يهبط الدرج، استوقفه صاحب المطعم ليقول له: هل تعلم أن هذا المطعم أقدم من أمريكا بعام؟ أجدادي بنوا البيت قبل أن يكتشف كولومبس أمريكا!
ومن مدينة بازل السويسرية سافر جرجس إلى النمسا بالقطار للقراءة لليلة واحدة، ويصف هذه الرحلة بالخيالية. وفي مدينة كريمز النمساوية، أمام المركز الثقافي الذي أقام فيه، سيصدم جرجس حين يكتشف أن نافذة غرفته تطل على سجن المدينة العمومي، وهو دير سابق تعلوه منارة ضخمة يتوسطها صليب كبير، وهناك عاش محاطاً بإلهي "الصمت" و"الصقيع"، غير أن الأمسيات الشعرية التي شارك فيها، كانت تبث الدفء في كل الأشياء.
وهذا لم يحدث في النمسا فقط بل في كل المدن الأوروبية التي زارها، فثمة علاقة حميمية، بينه وبين قصائده قد تنامت في أوروبا، حين أصبح لنصوصه حيوات أخرى جديدة "في أوروبا في كل المدن التي زرتها أقمت علاقة وثيقة مع الشعر، الذي هو بلا جمهور في مصر. قصائدي صار لها حياة صاخبة في القارة العجوز، وكأن مخرجاً قام بتجسيدها على خشبة المسرح فبُعثت، ورحت أتأملها من جديد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون