هذا المقال جزء من ملفّ "على رصيف المستقبل"، بمناسبة عيد ميلاد رصيف22 العاشر.
عندما أنام، أحلم ببيتي في دمشق، بالنخيل الصغير المطل على ساحة البيت المجاور، بصوت المؤذن يدندن عند الفجر وحده في سماء يلوح فيها الأزرق المغبرّ، بصديقات صغيرات، عبرن معاً طريق المدرسة سيراً مئات المرات، ببيت جدتي، بعائلتي الكبيرة التي تلاشت فجأة فأصبحت أصغر من أن تملأ أصابع يد واحدة.
عندما أستيقظ، أتذكر أنني منذ غادرت دمشق عشت في خمسة بلدان.
في كل مدينة عشتها، كنت أفتح فصلاً جديداً من كتاب لم أعرف عنه شيئاً من قبل، عوالم جديدة، أناس لم أعرف عنهم من قبل، دول مختلفة، سلطات وسياسات غريبة، أوراق ثبوتية وإقامات وملفات طبية وقصص أطفال ومقالات، وذكريات جديدة.
قابلت في رحلاتي العديدة أشخاصاً من معظم الدول العربية. كانوا جميعاً، بشكل أو بآخر، يبحثون عن بيوتهم. في دول الخليج العربي، يعيش العرب حياة مرفّهة في معظم الأحوال، يصنعون بيوتاً من ورق، تنفخ عليها قرارات الكفالة والإقامة وشروط أصحاب العمل، فتطير بنفخة واحدة فقط.
عندما يصبح جواز السفر أول بطاقة للحرمان من العودة إلى الوطن، وللحصول على أبسط الحقوق في دول أخرى، يصبح الحصول على بيت آمن أمراً عبثياً. أنت لا تملك شيئاً على أية حال، فلماذا تحاول أن تملك شعوراً مؤقتاً بالأمان؟
ليست تلك مبالغة، كل العرب القاطنين في دول الخليج العربي يعرفون ذلك تماماً، هذه ليست حياة حقيقية، هذه ليست حياة دائمة. على الجميع أن يبحثوا عن بيت ثابت، وعن جواز سفر.
عندما يصبح جواز السفر أول بطاقة للحرمان من العودة إلى الوطن، وللحصول على أبسط الحقوق في دول أخرى، يصبح الحصول على بيت آمن أمراً عبثياً. أنت لا تملك شيئاً على أية حال، فلماذا تحاول أن تملك شعوراً مؤقتاً بالأمان؟
عندما وصلت إلى أوروبا، اكتشفت أن العرب هنا أيضاً يبحثون عن بيوت آمنة، ويحومون في حالة من التخبّط بين ما يريدون أن يعيشوه وأين يريدون أن يعيشوا.
هل سنكون دوماً غرباء؟
عندما أنام ليلاً، أحلم بنهار عادي في دمشق. أنزل إلى السوق وأمشي بين البسطات وبائعي الخضار، أعبر الأرصفة التي أحفظها وأمرّ لزيارة جدتي، سيراً على طرف النهر، وبين الياسمينات والكولبات العسكرية، قرب "الركن الفرنسي" و"الليوان"، وهي محلات لبيع الحلوى والمعجنات اللذيذة والكرواسان المحشي بالجبن البلدي وحبة البركة، وبالزعتر أيضاً.
تستقبلني جدتي بحفاوة، وتؤكد على أن هذا كل ما تريده منا نحن الحفيدات، أن نزورها دون موعد في أي وقت. أن نكسر رتابة يومها بدقة خفيفة على الباب، بزيارة قصيرة وأحاديث عميقة. لم تكن تفوّت فرصة واحدة لتقول لي ما تعلّمت هي من الحياة.
وعندما أستيقظ، أشعر بثقل الغربة. صباح آخر ويوم آخر، وأنا لازلت غريبة. لكنني لم أنس في رحلاتي الطويلة أن أعيش الحياة كما يمكن أن تعاش بأقصى ما لديها، لم أنس أن أقوم بمغامراتي السرية والعلنية، ورغم ذلك بقيت "الغريبة".
أحاول أن أفسر لأولادي أننا لسنا وحدنا من نعيش هذه الغربة، كل القادمين من البلدان العربية هم غرباء مثلنا. تستفحل الهوة بين بلداننا وبلدان العالم الأول، فهم لا يعرفون معنى أن تكون غريباً ليوم واحد، ولا يعرفون معنى فقدان البيت، وفقدان كل ما كان مألوفاً، ومعنى أن يتم حرماننا من مشاركة ذاكرتنا الخاصة مع أولادنا.
فما أحلم به اليوم، هو أن يعرف أولادي أين عشت وكبرت، أين مشيت، أين وقعت في الحب للمرة الأولى، وأين سكن أمي وأبي، وأين كان أقاربي يعيشون، بين التجارة ومشروع دمر وأبورمانة والروضة، وأين فقدت أول صديقة من طفولتي في داريا، وأين سمعت أول مظاهرة في دمشق…
هل سنزور بيوتنا مرة أخرى؟
عندما أفكر مع صديقاتي الفلسطينيات بأحوالنا، غالباً ما نناقش تجارب غربتنا كأمهات وحيدات هنا.
وحيدات دون عائلاتنا، ودون دوائر الدعم التي تسندنا وتخنقنا في نفس الوقت. عندما أتكلم مع صديقتي المصرية عن أحلامنا، نفكّر بأننا يجب أن نكون ممتنات للمدن الأوروبية التي تحضننا اليوم، لأننا نريد أن نعيش كما تُحب الحياة أن تُعاش… يبدو أن الوقت أصبح قصيراً لنقوم بتغييرات جذرية جديدة ونحن على مشارف الأربعين، لذا لا بد لنا من أن نحاول الانتماء إلى مدننا الجديدة.
عاشت إحدى صديقاتي السودانيات مؤخراً أياماً وليالي طويلة دون نوم أو طعام أو رفة جفن. كانت تتابع أخبار البلد بغصّة وحرقة، ذكرتني حالتها بحالتي عند بداية القصف على المدن السورية. كنت مرّة أقوم بتقديم حصة دراسية في مدرسة أطفال في السعودية، نظرت إلى هاتفي للحظة، فوجدت رسالة من أختي: "شارع بيت أهلنا عم ينقصف، ما بعرف شي عنهم، ما عم إقدر أوصللهم".
فما أحلم به اليوم، هو أن يعرف أولادي أين عشت وكبرت، أين وقعت في الحب للمرة الأولى، وأين سكن أمي وأبي، وأين كان أقاربي يعيشون، بين التجارة ومشروع دمر وأبورمانة والروضة، وأين فقدت أول صديقة من طفولتي في داريا، وأين سمعت أول مظاهرة في دمشق…
أتذكّر أن كل شيء توقف للحظة في رأسي. تابعت إعطاء الحصة بانفصال تام عن الواقع، لم يكن من حولي يعرفون أو يفهمون ما هي حقيقة الوضع في سوريا، ففضلت أن أصمت.
تجاهلت الخوف الذي أخذ يعبث بدقات قلبي، اصفرّ وجهي وتسربت دموعي على خدي وحدهما، وتابعت الحصة.
لا أريد أن أقول لصديقتي السودانية اليوم، ربما أنتِ أيضاً ستصبحين مثلي، ربما لن تعودي إلى مدينتك… فأنا لست متأكدة من أي شيء.
هل سنكبر في مدننا؟
يسألني أطفالي باستمرار: هل ستعيشين حياتك هنا؟ هل ستكبرين هنا؟ متى تأخذيننا إلى دمشق؟
أقول دوماً: نعم، سوف نعود إلى هناك للزيارة، سترون بيت تيتي وجدو، سترون مدرستي، وبيتي القديم، وبيت جدتي، وصديقاتي وأولادهن، وبيت عمتي وعمي، وقطط دمشق، هل تعرفون أن دمشق مسكونة بالقطط الشامية، والغربان أيضاً… هل تعرفون أن العوامة المغطسة بالقطر، والمقرمشة هي أطيب مأكولات الشوارع، هل تعرفون أن هناك شارعاً يسمى الصالحية، يشبه الشارع الذي نمشي به هنا كل يوم.
أقول أيضاً إنني سأكبر في دمشق، أريد أن أقضي سنوات عمري الأخيرة هناك.
أحلام قصيرة
عندما أنام ليلاً، أحلم بأنني في سريري الخشبي في غرفة واحدة أنام فيها مع أختي، تفتح أمي الباب صباحاً لتقوم بنشر الغسيل على البلكونة ذات الجدار الزجاجي الملتصقة بغرفتنا.
تتسرب رائحة القهوة وسجائر أمي وأبي، وأصوات زمامير السيارات والباصات، وصخب المدينة، ورغبتي الدفينة بالهرب من هناك، ولكن لمدة قصيرة فقط. وعندما أستيقظ، أكتب على دفتر مذكراتي بخط صغير: هل سنعود يوماً إلى مدننا؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...