"هي المرة الأولى التي أشعر فيها بأنني أكره بيروت... أو ربما، لا أحبها... أو ربما، أنا فقط حزينة عليها". أحدّث أحد أصدقائي بعد عودتي لدمشق من زيارة قصيرة لبيروت، هي الأولى بعد "الانهيار الكبير" خلال الأشهر الأخيرة أو العام المنصرم. ربما، لم أكن مستعدة كفاية لما سأراه في الأيام القليلة التي سأقضيها في مدينة وقعت في غرامها مذ كنت صغيرة، أو لعلّي كنت أعرف مسبقاً لكني أرفض التصديق، فبالنسبة لي، بيروت على الدوام جميلة، نضرة، لا يمكن أن تهرم، لكني هذه المرة رأيتها شاحبة، رمادية، تشبه دمشق كثيراً في وجعها وأنينها.
أنزل من سيارة الأجرة لتتلقفني رطوبة بيروت الصيفية المعتادة. جو ثقيل يصعب تحمله، وتلطّفه عادة المكيفات والمراوح التي لا يمكن أن تتوقف ليل نهار خلال أشهر الصيف، لكن المفاجأة هذه المرة، هي أن مدة وصل الكهرباء بأحسن الأحوال لا تتجاوز الساعتين، ومعظم المنازل والمحال لا تملك وقوداً كافياً لتشغيل المولدات خلال ساعات الانقطاع الطويلة.
والنتيجة: يجلس الناس في منازلهم أو أماكن عملهم وهم يتصببون عرقاً، فيما يتوقف العقل عن العمل تماماً. لا قدرة على التفكير في جو رطب كهذا، ويختار البعض الخروج إلى الشوارع والأرصفة. يمسكون مراوح يدوية صغيرة تعجز عن تحريك الهواء الثقيل الذي يرفض أن يصبح أخف ولو قليلاً، وكأنه يتآمر مع "الحكام" على سكان المدينة المتعَبين.
حتى في حال توفر الوقود لمولدات الكهرباء، إلا أن تكلفة الاشتراك بهذه المولدات لم تعد بمقدور شريحة كبيرة من اللبنانيين. يسيطر الأمر على أحاديث سائقي التاكسي-سرفيس وزبائنهم. أسمع أرقاماً مرعبة لم أعتد عليها قبل عام ونصف.
"اشتراك المولدة 5 آمبير بـ500 ألف ليرة، والـ10 آمبير بمليون ليرة. يعني إذا بدنا نشغل المكيف بدنا ندفع مليون بالشهر. شو شايفين عنا مطبعة مصاري؟"، يقول أحد السائقين وهو يتصبب عرقاً ويقود سيارته في زحام بيروت المعتاد، ويؤكد لي بأن عائلته لا تستطيع تشغيل المكيف في هذا الجو الحار، إذ لا قدرة له على دفع الاشتراك اللازم لذلك.
يجلس الناس في منازلهم أو أماكن عملهم وهم يتصببون عرقاً، فيما يتوقف العقل عن العمل تماماً. لا قدرة على التفكير في جو رطب كهذا، الهواء الثقيل يرفض أن يصبح أخف ولو قليلاً، وكأنه يتآمر مع "الحكّام" على سكان المدينة المتعَبين
انقطاع الكهرباء بطبيعة الحال لا يعني فقط الاضطرار لتحمل الحرارة والرطوبة العاليتين، وإنما يبدو الأمر أعقد لأصحاب المحال الصغيرة والمهن التي تعتمد على الكهرباء بشكل تام.
يخبرني صاحب صالون لتصفيف الشعر بأنه يقضي معظم يومه جالساً أمام باب محله، فصاحب مولدة الكهرباء التي يعتمد عليها بات مزاجياً للغاية، ولا يمكن التكهن بمواعيد تشغيل أو إطفاء المولدة، "يتحكم بنا وبعملنا، ويطلب الدفع بالدولار، وما أدراكِ ما يعني ذلك مع انهيار قيمة الليرة اللبنانية بشكل غير مسبوق. هل يمكن أن أطلب من زبوناتي أن يدفعن لي بالدولار؟". إنه الانهيار بأبسط وأبشع صوره.
بورصة سعر صرف الليرة اللبنانية تشغل بال الجميع، بعد فقدانها ما يقارب 90% من قيمتها. إن تحسّن سعر الصرف ولو بشكل طفيف، يهرع الجميع للأسواق لشراء ما يريدونه من حاجيات، على أمل انخفاض الأسعار قليلاً، ثم يعودون بخفي حنين بعد أن يكتشفوا بأن كل شيء على حاله. "مافي شي بيغلى وبيرجع بيرخص". عبارة أسمعها كل يوم في دمشق، والتي تعيش منذ سنوات انهياراً بطيئاً باتت ملامحه أكثر وضوحاً في العام الأخير.
ألتقي مع عامل مياوم في أحد "السرافيس". يقول بأنه عمل اليوم بمبلغ 120 ألف ليرة (6 دولارات وفق سعر الصرف ذلك اليوم). يسكت قليلاً ثم يصرخ: "يالله اختنقنا. اختنقنا". لا يعلم إن كانت هذه المئة والعشرين ألفاً ستكفي لإطعام عائلته الصغيرة أم لا. يصمت جميع الركاب ولا أحد يجرؤ على التعليق، فلا أحد بالتأكيد يملك أي إجابة. أتخيل بأن علينا جميعاً أن نصرخ: "ياالله اختنقنا".
وعند كل منعطف، أرى طوابير السيارات على محطات الوقود، لأسترجع مشاهد لا تزال حية في ذاكرتي، وقد اعتدنا الوقوف لساعات طويلة في دمشق بانتظار أن نملأ خزانات سياراتنا بما يسمح لنا بالتنقل بين منازلنا وأماكن عملنا. أرى الناس يتشاجرون في بيروت وهم ينتظرون لساعة وساعتين وأكثر، ينزعجون من "أصحاب الواسطات" الذين يدخلون المحطات من الجهة الثانية دون انتظار، وأحس بغصّة كبيرة وأنا أتمنى لو أنني لم أعش هذه المشاهد مرتين، مرة في مدينتي وأخرى في مدينة أحبها كثيراً.
أفتقد أضواء بيروت التي اعتدت أن أراها مشعّة، ونحن نعيش في ظلام شبه دامس في سوريا منذ عشر سنوات. على غير العادة، أشعر بأني أريد العودة لدمشق بأسرع وقت، أو ربما أريد الذهاب لمدينة لا أحبها، فلا أحزن لخيباتها وانكسارها
المشهد الأكثر إيلاماً ربما في إحدى الصيدليات. لا يتوقف الزبائن عن الدخول والسؤال عن عشرات أنواع الأدوية، وصاحبة الصيدلية تجيبهم بكل برود أعصاب: "مفقود. مفقود. بعتذر منك. مافي منه اليوم. ما موجود". هذه الأعذار لم تعنِ الكثير لشاب لم يجد طلبه من مسكن الآلام "بانادول"، ليقف وسط الصيدلية ويصرخ بملء صوته: "طيب وشو نعمل نحنا؟ نموت من الوجع؟ بدنا حل". لا أحد يملك الحل.
أحمل كل هذه المشاهد والأصوات وأقرر السير على غير هدى رغم الحر الشديد. تقودني قدماي نحو المرفأ لأستدير وأعود أدراجي. لا أريد النظر حتى ولو من بعيد لمشهد حفظته عن ظهر قلب على "يوتيوب" و"فيسبوك" لأكثر حادث مروع عاشته المدينة منذ عام تماماً.
اقرأ من بعيد عبارة "دمرتوا بلدنا ومستقبل ولادنا". أستمر بالسير ويحلّ ليل المدينة الحالك والرطب. أفتقد أضواءها التي اعتدت أن أراها مشعّة، واعتدت أن أحسدها عليها ونحن نعيش في ظلام شبه دامس في سوريا منذ عشر سنوات. أفتقد محالها وباراتها الصغيرة الجميلة، وكثير منها اليوم بات يغلق قبل العاشرة ليلاً لعدم توفر الوقود للمولدات. على غير العادة أشعر بأني أريد العودة لدمشق بأسرع وقت، أو ربما أريد الذهاب لمدينة لا أحبها، فلا أحزن لخيباتها وانكسارها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...