نصف قرن مرّ على حرب أكتوبر، دون أفلام مصرية تعبر عن جلال هذا الحدث، باستثناء أفلام قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة، من بينها فيلم "حكايات الغريب" و"أغنية على الممر"، وإن كان "حكايات الغريب" يركّز على شيء أبعد من الحرب، أما "أغنية على الممر"، فقد أنتج أصلاً قبل الحرب، ويركّز في الأساس على بطولات فترة الاستنزاف، أما باقي الأفلام، فكانت مجرد مهازل سينمائية، حرب أكتوبر فيها مجرد تكأة أو حادث محرّض للقصة، أو تخريفة سينمائية على غرار فيلم "الممر"، الذي لجأ، بشكل غير مفهوم، إلى قصة غير حقيقية، رغم توافر عشرات، بل مئات، البطولات، المدونة منها وغير المدونة أو المحفوظة في صدور من شاركوا في الحرب، وما زالوا على قيد الحياة.
الفيلم ربما الوحيد الجيد والجاد الذي يتخذ من حرب 6 أكتوبر موضوعاً أساسياً، هو فيلم "أبناء الصمت" الذي أنتج عام 1974، بسيناريو الأديب المصري الكبير مجيد طوبيا والمخرج محمد راضي، ربما مشاهدته بعد خمسة عقود، تبرز عيوبه بكل تأكيد، لكن بمقاييس عصره يعد الأفضل على مستوى الكتابة والإخراج والهمّ، وبشكل عام، لا يصح أن يكون حدث بحجم حرب أكتوبر، بكل ما فيه من ملاحم، لا يوجد سينمائياً ما يوثقه سوى فيلم واحد.
وبحسب مساعد المخرج في فيلم "أبناء الصمت"، منير راضي، تأتي أهمية الفيلم أيضاً؛ لأنه من أوائل الأفلام التي صورت في مواقع الأحداث الأساسية، وبعد شهرين فقط من انتهاء الحرب، وعبر الاستعانة بالقوات المسلحة و12 مصوراً، واستطاعوا تصوير 90% من المشاهد التي تعرض عن الحرب حتى الآن، والمعارك الحربية ومشاهد حقيقية صورت لايف، حيث أعادت القوات المسلحة مشاهد العبور من جديد، من بينها الطيران وعبور الزوارق للقناة، وهي المشاهد التي استُعين بها في أفلام أخرى، مثل "العمر لحظة"، و"حائط البطولات" وهو الفيلم الذي لم يعرض نهائياً على الشاشة، لأسباب يقال إنها خاصة بأنه أبرز دور الدفاع الجوي في العبور على حساب سلاح الطيران الذي كان يقوده الرئيس السابق حسني مبارك، والذي امتدت شرعيته من اختزال النصر في الطلعات الجوية لحساب سلاح الطيران، ولعل هذا المنع يعطي فكرة ما عن أسباب عدم إنتاج أفلام ذات قيمة عن واحد من أشرف أيام في مصر في تاريخها الحديث.
يمجّد فيلم "غولدا" من قيمة كل روح إسرائيلية مفقودة، وفي المقابل تظهر أرواح الجنود المصريين والسوريين في الفيلم كأنها بلا ثمن، بتحويلهم أولاً من أصحاب حق إلى معتدين
ما ذكرني بمشكلة تلك الندرة هو تلقفنا جميعاً فيلم "غولدا" بفضول، الذي يحكي رواية الإسرائيليين عن الحرب، من خلال شخصية غولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل في تلك المرحلة، وفرحنا بما بدا اعترافاً موثقاً منهم بالهزيمة، رغم أن الفيلم أيضاً مرّر ما أرادوه وخلط الحق بالباطل، إذ يمجّد فيلم "غولدا" من قيمة كل روح إسرائيلية مفقودة، وفي المقابل تظهر أرواح الجنود المصريين والسوريين في الفيلم كأنها بلا ثمن، بتحويلهم أولاً من أصحاب حق إلى معتدين.
الموجع أن غولدا مائير تظهر موجوعة على كل جندي يقتل من جيش الاحتلال، بينما تعلق أن حكام العرب، السادات وحافظ الأسد، لا يهتمون بأرواح شعوبهم، في إشارة إلى الديكتاتورية، وهو عار حقيقي لا يمكننا إزالته أو الادعاء بأنه غير حقيقي، لكن قطعاً لم تكن تلك هي الحال في الحرب.
يمرّر الفيلم فكرة أن جيش الاحتلال يحمي حق الشعب اليهودي في البقاء، نقطة النور الوحيدة في الشرق الأوسط؛ إذ يتمثّل قيم الديمقراطية والإيمان بحقوق الإنسان، بينما يكشف يوًما بعد اليوم أن متعصبيه ومجرميه ما زالوا في طور الغرائز البدائية، الجاهلة والمتخلفة، إذ لا يحركه سوى الخوف والقتل والطمع، والاستناد إلى خرافات الدولة الدينية لا العلمانية المتقدمة.
المحزن هو فرح المصريين بالفيلم، حيث يشهد العدو فيه بهزيمته، رغم أن الفرح في ظاهره يتوجه إلى المشككين في نصر 6 أكتوبر، إلا أنه في الباطن يخفي شكاً عارماً بالذات، كأنه لن يتقبل فكرة النصر بشكل نهائي إلا من فم عدوه.
في الأفلام التي تناولت شخصيات كبيرة كعبد الناصر والسادات، لم نرهما في لحظات ضعف أو شك، أو يرتكبون أخطاء، بل رأيناهم مقدسين كما أرادوا لنا أن نراهم، فصرنا نتشوق إلى رؤيتهم بأعين العدو وأعين الغرب. متى نملك، كمصريين وعرب، أفلاماً بحجم الحدث؟
مفهوم بالطبع أن اعتراف العدو بهزيمته له معنى آخر، لكن إذا ما وضعنا الأمر في سياق الهزيمة الداخلية – التي تحدث عنها بوضوح وشجاعة فيلم "أبناء الصمت"- على كل الأصعدة وعلى مدار عقود، فكما أعطتنا تلك الحرب مبرّراً للكرامة، صارت عقد شرعية مستمر طيلة خمسين عاماً كي لا يخرج الحكم عن أحد رجالات الجيش، لنهزم عشرات المرات على أيدي الطغاة المحليين، حتى أن الذكرى الأخيرة لحرب أكتوبر منذ أيام، انتُهكت بتحويلها إلى تدشين كرنفالي مبتذل لدعم الرئيس الحالي في الانتخابات القادمة، وهو ما يقضي على معنى أكتوبر نفسه.
ترافق الفيلم مع إفراج العدو عن وثائقه عن الحرب، وهو الشيء الذي لا نجرؤ على المطالبة به، ويبدو كحلم بعيد المنال، تحت دعاوى الأمن القومي، ما يجعل الرواية الإسرائيلية المرفقة، بجانب الدعاية المكثفة وهزائمنا الداخلية، بالوثائق لها اليد العليا، بكل ما فيها من تزييف لا يمكن دحضه.
وعلى الرغم من اعتراف فيلم "غولدا" بهزيمته الفادحة أمام المصريين، إلا أنه ادعى قدرة الجيش الإسرائيلي على سحق الجيش الثالث لولا تدخل هنري كيسنجر، وهو ما قد يناقض روايات مصرية تقول إن القوات الإسرائيلية التي كانت تحاصر الجيش الثالث في وسط سيناء، هي بدورها كانت محاصرة، وكان المصريون قادرين على تدميرها، ولولا هذا لما قبل العدو مبدأ المفاوضات من الأساس.
متى نملك، كمصريين وعرب، أفلاماً بحجم الحدث؟ في الأفلام التي تناولت شخصيات كبيرة كعبد الناصر والسادات، لم نرهما في لحظات ضعف أو شك، أو يرتكبون أخطاء، بل رأيناهم مقدسين كما أرادوا لنا أن نراهم، فصرنا نتشوق إلى رؤيتهم بأعين العدو وأعين الغرب. متى يحق لنا أن نرى روايتنا ووثائق من المفترض أن تكون ملك الأجيال، بكل ما فيها من حسنات وأخطاء؟
من العجيب أن صرخة "أبناء الصمت" الحقيقية، وما تجعله فيلما خالداً وجيداً، ليس الحرب نفسها، بل إشارته الواضحة إلى سبب الهزيمة: أننا أخفينا عن عمد الحقيقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوميناوجدتي أدلة كثيرة للدفاع عن الشر وتبيانه على انه الوجه الاخر للخير لكن أين الأدلة انه فطري؟ في المثل الاخير الذي أوردته مثلا تم اختزال الشخصيات ببضع معايير اجتماعية تربط عادة بالخير أو بالشر من دون الولوج في الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والمستوى التعليمي والثقافي والخبرات الحياتية والأحداث المهمة المؤسسة للشخصيات المذكورة لذلك الحكم من خلال تلك المعايير سطحي ولا يبرهن النقطة الأساسية في المقال.
وبالنسبة ليهوذا هناك تناقض في الطرح. اذا كان شخصية في قصة خيالية فلماذا نأخذ تفصيل انتحاره كحقيقة. ربما كان ضحية وربما كان شريرا حتى العظم ولم ينتحر إنما جاء انتحاره لحثنا على نبذ الخيانة. لا ندري...
الفكرة المفضلة عندي من هذا المقال هي تعريف الخير كرفض للشر حتى لو تسنى للشخص فعل الشر من دون عقاب وسأزيد على ذلك، حتى لو كان فعل الشر هذا يصب في مصلحته.
Mazen Marraj -
منذ يومينمبدعة رهام ❤️بالتوفيق دائماً ?
Emad Abu Esamen -
منذ 3 أياملقد أبدعت يا رؤى فقد قرأت للتو نصاً يمثل حالة ابداع وصفي وتحليل موضوعي عميق , يلامس القلب برفق ممزوج بسلاسة في الطرح , و ربما يراه اخرون كل من زاويته و ربما كان احساسي بالنص مرتبط بكوني عشت تجربة زواج فاشل , برغم وجود حب يصعب وصفه كماً ونوعاً, بإختصار ...... ابدعت يا رؤى حد إذهالي
تامر شاهين -
منذ 4 أيامهذا الابحار الحذر في الذاكرة عميق وأكثر من نستالجيا خفيفة؟
هذه المشاهد غزيرة لكن لا تروي ولا تغلق الباب . ممتع وممتنع هذا النص لكن احتاج كقارئ ان اعرف من أنت واين أنت وهل هذه المشاهد مجاز فعلا؟ ام حصلت؟ او مختلطة؟
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممن المعيب نشر هذه الماده التي استطاعت فيها زيزي تزوير عدد كبير من اقتباسات الكتاب والسخرية من الشرف ،
كان عيسى يذهب إلى أي عمل "شريف"،
"أن عيسى الذي حصل على ليسانس الحقوق بمساعدة أخيه"
وبذلك قلبت معلومات وردت واضحة بالكتاب ان الشقيق الاصغر هو الذي تكفل بمساعدة اهله ومساعدة اخيه الذي اسكنه معه في غرفه مستأجره في دمشق وتكفل بمساعد ته .
.يدل ذلك ان زيزي لم تقرأ الكتاب وجاءتها المقاله جاهزه لترسلها لكم
غباءا منها أو جهات دفعتها لذلك
واذا افترضنا انها قرأت الكتاب فعدم فهمها ال لا محدود جعلها تنساق وراء تأويلات اغرقتها في مستنقع الثقافة التي تربت عليها ثقافة التهم والتوقيع على الاعترافات المنزوعه بالقوة والتعذيب
وهذه بالتأكيد مسؤولية الناشر موقع (رصيف 22) الذي عودنا على مهنية مشهودة
Kinan Ali -
منذ 4 أيامجميل جدا... كمية التفاصيل مرعبة...