"أديتم الأمانة وصُنتم الكرامة ليس لمصر وحدها، وإنما لأمتكم العربية بأكملها"، كلمات وجهها الراحل محمد أنور السادات، للجيش المصري عقب انتصارهم في الحرب. ذكر السادات في حديثه من خطّط للحرب من قادة الجيش، ومن حملها على أكتافه بين ضباط وجنود الذين نفّذوا بالنار والدم، وحققوا ما وصفه بـ"معجزة على أي مقياس عسكري".
ثلاثون عاماً من عمري أنتظر وإخوتي احتفالات أكتوبر، نشاهد أفلاماً حفظناها عن ظهر قلب، ولقاءات لأبطال الحرب، يروي كلا منهم مشهد النصر من زاويته، وفي بيتنا كنا نشاهد زاوية جديدة لهذا المشهد، فيضم منزل أسرتنا أحد أبطال قوات الدفاع الجوي في الجيش المصري طوال 7 سنوات سبقت نصر أكتوبر، كلما تحدث أبي عن أيامه في الحرب، تبادر إلى ذهني سؤال بديهي: لماذا لا يتحدث مع هؤلاء على شاشة التلفزيون؟
لم يخرج السؤال من عقلي ولم أبح به أمام أحد، لكن صوته كان يعلو عاماً بعد آخر، فمنذ عملت في الصحافة، شاركت في تغطية كثير من الندوات التكريمية لأبطال أكتوبر، وأجريت مع عديد منهم لقاءات مصورة، وكلما سمعت رواياتهم أردّد: أبي أيضاً انتصر في الحرب، فلماذا لم يكن بينهم؟ هل يقتصر الأمر على المراتب الأعلى؟ أليست للتفاصيل الإنسانية قيمتها؟
ثلاثون عاماً من عمري أنتظر وإخوتي احتفالات أكتوبر، نشاهد أفلاماً حفظناها عن ظهر قلب، ولقاءات لأبطال الحرب، يروي كلا منهم مشهد النصر من زاويته، وفي بيتنا كنا نشاهد زاوية جديدة لهذا المشهد، فيضم منزل أسرتنا أحد أبطال قوات الدفاع الجوي في الجيش المصري
في العام الماضي، قرّرت شقيقتي الكبرى أن تلتفّ وأحفاد أسرتنا حول أبي ليروي لهم حكاياته عن الحرب، علمت حينها أن السؤال ذاته بدر إلى ذهنها، فقرّرت التعبير عنه بتلقائية، بخلق جمهور مستمع، ولو كان من الأحفاد، لسماع كنز الجدّ الذي لم يسع أبداً للتفاخر به أو الانتفاع منه.
نحتفظ في ألبوم صور العائلة بصورة أبي مع زملائه من الجنود، مدوّن عليها من الخلف أسماء بعضهم، تتسم وقفتهم بالبساطة والتلقائية وكأن هذا الجيل لم يعِ ما حقق من إنجاز يصعب علينا رؤيته من زاوية البساطة، فالانتصار على العدو بعد 7 سنوات من التجنيد، بعيداً عن الأهل ودون وسيلة اتصال يومية، شيء لم أتخيل تحمله.
يروي أبي معاناتهم مع تحمّل استفزاز جنود جيش العدو أثناء تواجده في نقطة تمركزه بقرية أبو سلطان في الإسماعيلية، فكانوا يطلقون نداءات مُسيئة للجنود المصريين، ينادونهم بـ "يا مصري يا فوّال، تتغدى كورة وتتعشى أم كلثوم"، في إشارة لانشغالهم عن القتال، تتدفّق الدماء لرؤوس الجنود، فتزيد رغبتهم في القتال لتنقلب محاولات الاستفزاز مُحفزّاً يضاعف من الرغبة في الثأر.
شارك أبي في الحرب كأحد جنود الدفاع الجوي، كانت مهمتهم إسقاط طائرات العدو بواسطة مدافع "مواسير"، يعمل على تشغيله فريق من 8 أفراد. كان دوره "تقدير المسافات"، أي تحديد المسافة بين المدفع والطائرة المُستهدفة. يحكي لنا عن لحظة إبلاغهم بساعة الصفر، قبل بدء الضربة الجوية الأولى لسلاح الطائرات المصري بنصف ساعة فقط، ليستعدوا لاختيار بين اثنين لا ثالث لهما: النصر أو الشهادة.
وقف أبي وزملاؤه يهللون ويهتفون لحظة هجوم الطائرات المصرية، منتظرين أن يحين دور سلاحهم للمشاركة، وكان في اليوم التالي 7 أكتوبر، تمركز وزملاؤه في منطقة "الطاسة". اشتبكوا على مدار 13 يوماً. نجحوا في اصطياد طائرات العدو، حتى يوم 19 أكتوبر. كانت قوات العدو بقيادة أرييل شارون تضغط للمرة الثانية للوصول إلى الإسماعيلية والاستيلاء على سرابيوم. شهد أبي استشهاد اثنين من زملائه، وأصيب بعدما سقطت دانة صاروخ أمامهم. للحظات خُيّل إليه أنه فقد النصف السُفلي من جسده فلم يعد يشعر به، وحينما تحسّس قدميه، تأكد أن جسده مازال هناك لكنه غارق في الدماء.
لم تكن رواية أبي الوحيدة من جنود الانتصار المجهولين. كان عبد الفتاح، والد صديق لي، قد شارك في الحرب بعد 7 سنوات من التجنيد كما أبي، وفي أكتوبر 1973 بعد إعلان انتهاء الحرب والانتصار، لم يعد إلى قريته، وانقطعت أخباره. عاد كثير من الجنود وتواصل الباقي مع أسرهم عدا هو، عاشت أسرته شهرين من الانتظار، تحمّل والداه خلالها آلام الفقد يدفعانها بأمل العودة. شاركهم أهالي القرية، فرفضوا الاحتفاء بعيد الفطر ولم يذق أحد طعم حلوى العيد "كعك وبسكويت" إلا بعد عودته في عيد الأضحى، ليصل إلى قريته حاملاً في قلبه صوراً لشركائه في الانتصار.
روى عبد الفتاح لأبناء القرية كيف قدّم عدد من زملائه أرواحهم حلاً سريعاً ليمر باقي أفراد المجموعة، فسدّوا بأجسادهم النوافذ الموجودة في الدشمة العسكرية والتي يختبئ خلفها جنود العدو لاصطياد الجنود المصريين أثناء مرروهم، وتحدث عن فترة حصاره وزملائه في الدفرسوار، وكيف تقاسموا لقيمات صغيرة مع انتهاء مخزونهم من الطعام، حتى أنهم بدأوا بنبش الأرض بحثاً عن لُقيمات قد تكون سقطت منهم، ليتمكنوا من الصمود أطول فترة ممكنة ومواصلة مهمتهم المقدسة.
في أحد الفواصل المصورة والمُذاعة على شاشات التلفزيون المصري تحت عنوان "أنا حاربت إسرائيل"، يقول أحد المشاركين في حرب أكتوبر، إن قيادته حينها اختارت أفضل مجموعة بينهم، لم أستوعب ما قال، فكيف لأحد ممن شارك في هذه الحرب أن يكون أقل أفضلية من غيره؟
لم يسع أبي للفوز بوحدة سكنية أو قطعة أرض، حين زارتهم جيهان السادات في مستشفى العجوزة، فكان همّه الأوحد أن يضمن عودته للعمل في الشركة التي يعمل بها، فكان سؤال زوجة السادات: "بس؟ مش عاوز حاجة تاني؟"، رأى أنه لم يفعل شيئاً غير الطبيعي ليطلب مكافأة لقاءه
يقتنع عقلي وقلبي منذ سنوات طويلة أن كل من شارك في أكتوبر 73 يحمل من البطولة جزءاً، لا فرق بين قائد أو جندي، فلو حذفت دور أي منهم لما كان النصر، بل يذهب قلبي لأبعد من ذلك، فأرى أن أسر من شاركوا وجيرانهم وأصدقائهم جميعاً أبطال وشركاء في النصر.
بعد إصابة أبي في 19 أكتوبر ونقله لمستشفى العجوزة، رفضت أمي البقاء في منزلها بالإسكندرية، وقررت السفر للمرة الأولى للقاهرة وهي في الـ 17 من عمرها، لتبحث عن زوجها بين المصابين. لم تكن تعرف حجم إصابته. لم تبك رغم صغر سنها. جنبت مشاعرها في سبيل الاطمئنان عليه، فغمرتها روح الحرب بقوة الانتصار.
منذ 2014 بدأت الدولة المصرية توجهاً جديداً بتكريم أسر شهداء حرب أكتوبر، وعدداً من الأبطال الباقين على قيد الحياة. وفي نوفمبر 2022 أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي مبادرة لحصر أسماء الشهداء الذين شاركوا في كافة الحروب المصرية، بداية من 1948 حتى أكتوبر 1973 (شارك فيها 300 ألف جندي، كان بينهم أكثر من 8 آلاف شهيد، وما يزيد عن 18 ألف جريح) لضمهم إلى المستفيدين من خدمات صندوق الشهداء، ولم يرد في البيان ذكر الأحياء منهم سواء من أصيبوا في الحرب أو غيرهم.
لم يسع أبي للفوز بوحدة سكنية أو قطعة أرض، كما طلب زملاؤه حين زارتهم جيهان السادات في مستشفى العجوزة، فكان همّه الأوحد أن يضمن عودته للعمل في الشركة التي يعمل بها، فكان سؤال زوجة السادات: "بس؟ مش عاوز حاجة تاني؟"، رأى أنه لم يفعل شيئاً غير الطبيعي ليطلب مكافأة لقاءه، يشترك معه آلاف من الجنود الباقين على قيد الحياة في الشعور ذاته. هزمتهم الحياة أمام مشكلاتها واحتياجات أسرهم، ولم يحاولوا الاستفادة من كونهم "أبطالاً". رجال في العقد الثامن، يعمل بعضهم في مهن صغيرة بحثاً عن لقمة العيش رغم ما حققوه من نصر.
يجلس أبي كل عام يشاهد الاحتفالات سعيداً، بينما أتعجّب من كونه ليس بينهم. أشعر بالغيرة، ففي بيتنا من خاض الحرب ويستحق التكريم. لم يسعى للانضمام إلى جمعية المحاربين القدامى، كجارنا الذي فاز برحلة حجّ من خلالها، ولم يحاول الحصول على أي امتياز. يفضل السير هادئاً دون الإعلان عن نفسه أو ما قدم، فقرّرت البوح نيابة عنه بما لم يقل أبداً إنه أيضاً انتصر في أكتوبر 1973.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه