"عندما عاد علينتو من القاهرة إلى قريت، سأله الناس: هل رأيت جمال عبد الناصر؟ فقال: نعم، ومنذ قابلته وهو يصر على أن أذهب معه إلى كل مكان حتى مللت. قالوا: ولم الملل؟ قال: كلما ذهبنا إلى مكان يقول الناس: من هذا الذي يمشي مع علينتو؟".
جحا النوبي- سحر جبر
نكشف السخرية عن طبيعة المجتمعات، وترتبط ارتباطاً عميقاً بخصوصيتها الثقافية، يتخفى وراءها نقد ما لا يمكن نقده، فأوجه السلطة الاجتماعية والسياسية والدينية، تحار أحياناً في مواجهة الساخرين، القادرين على تقزيم المقدسات الاجتماعية والسياسية بسلطة الضحكة اللاذعة الذكية، وهذا عينه ما صنع لشخصية "جحا" تلك السلطة الخاصة في الوجدان العربي.
النوادر والحكايات الشعبية الطريفة المتوارثة التي ارتبطت بشخصية "جحا" في نسخه المتعددة "العربي أو التركي أو الصيني" تحتل مكانة خاصة في وجدان تلك الشعوب، ويتنافسون على نسبته إليهم فيما تتشابه الحكايات المنسوبة لتلك الشخصيات بينهم وفق تنويعات قليلة.
يختلف النوبيون عنهم، فقد عرفوا النوادر أيضاً ولديهم نسختهم الخاصة من جحا، إلا أن "جُحاهم" شخص حقيقي، رجل نوبي عاش في القرن الماضي ورحل عن عالمنا في منتصف الثمانينيات، تاركاً نوادر وحكايات عديدة، جمعتها الباحثة سحر جبر المتخصصة في التراث النوبي في كتابها "جحا النوبي…علينتو".
نجده في إحدى حكاياته يربط يده بقطعة من القماش وعندما يسأله صديقه، لماذا يفعل ذلك، يرد بأن الموضع الذي سوف يضربونه فيه يؤلمه
علينتو الذي عُرف بجحا النوبي، اسمه الحقيقي ابن علي أو محمد علي هندي، وكان ممثلاً ومغنياً ورسام جرافيتي، وعازفاً لألة القربة الاسكتلندية والتي تعلمها خلال التحاقه بالكشافة النوبية، وصانعاً لآلة الطار "الدف النوبي"، ونجاراً ومهن ومواهب أخرى عديدة.
تحكي جبر لرصيف22: "تعرفت على علينتو عن طريق أحد جيراننا. يميل النوبيون إلى السكن في مناطق متفاربة، جاري واسمه زكريا سمل، تميز بطريقة حكي تجعل النوادر التي يرويها شديدة الطرافة، أثار اهتمامي بطل تلك الحكايات وبدأت أبحث عنه، وكان من حسن حظي أن التقيت بعض من قابلوه وعرفوه شخصياً مثل الشاعر النوبي الراحل محي الدين صالح، وغيره ممن ساعدوني في جمع المادة. وكلما زادت معرفتي بعلينتو، كلما شعرت أني أتعرف أكثر على النوبة، خلال رحلة البحث وجدت ملاحظات دالة تستحق وحدها مزيد من البحث، مثلا لاحظت أن معظم الرجال النوبيين الذين سألتهم يعرفونه مع اختلاف القري التي ينتمون إليها، بينما لا تعرفه الكثير من النساء، باستثناء من ينتمين إلى قريته أبو سمبل".
تعكس حكايات علينتو الكثير من العادات والتقاليد النوبية، مثل الحرص على زخرفة وتزيين المنازل من الخارج والداخل وخاصة الحائط خلف "المزيرة"، وهي مكان كان يوضع فيه في المعتاد ثلاثة أزيار، وهي عادة مستمرة حتى اليوم وإن اختلفت الرسوم والألوان، لأن الرسوم قديما كانت تعكس البيئة النوبية والألوان لم تكن زاهية كما نراها اليوم، لأنها كانت أيضا من البيئة. وتضيف جبر: "عندما سمعت زكريا يحكي عن علينتو لاحظت التشابه بين حكاياته وحكايات جحا، ثم اكتشفت فيما بعد أنهم بالفعل يطلقون عليه جحا النوبة، وبسبب دراستي للأدب الشعبي، ومعرفتي أن هناك أكثر من جحا، جحا العربي وجحا التركي وحتى جحا الصيني، أدرك ضرورة هذه الشخصيات في كل المجتمعات لأنها تنتقد المجتمع بشكل ساخر وتضحكه بطريقة مقبولة من الجميع".
السخرية من النفس سمة من سمات السخرية النوبية، وتعكس ارتياحهم مع ثقافتهم وأنفسهم والعالم، ومن الملاحظ أنهم حتى عندما كانوا يسخرون من العالم يكون ذلك بطريقة مهذبة وغير مؤذية
براح السخرية
في دراستها، يتضح لدى جبر ارتباط السخرية عند جحا النوبي بالنقد الاجتماعي، فقد انتقد "علينتو" مشاجرات الأفراح النوبية، وهو المغني الذي يحيي الأفراح، فنجده في أحد حكاياته يربط يده بقطعة من القماش وعندما يسأله صديقه، لماذا يفعل ذلك، يرد بأن الموضع الذي سوف يضربونه فيه يؤلمه، وفي حكاية أخرى عن مشاجرات الأفراح، تعكس معرفة علينتو بالقرآن الكريم، واستعارة صوره في التعبير عن الأحوال، يقول لصاحبه حسن برسي: "وكأنهم يرمون بحجارة من سجيل، هيا بنا نجري قبل أن نصبح عصف مأكول".
وهناك حكاياته في القاهرة، إذ تعكس الاختلافات الكبيرة بين القرية الهادئة والمدينة الصاخبة، فيحكي في واحدة من النوادر عن زحام القاهرة الشديد لدرجة أنه لم يجد مكاناً سوي لقدم واحدة من قدميه واضطر أن يحجل عليها حتى وصل إلى بيته، وكثيراً ما كان يسخر من نفسه، فيحكي أنه وجد السيارات واقفة في إحدى الإشارات، فوضع يده على أنفه الذي كان يمتاز بالطول والذي تخيل أنه أوقفهم، وأشار إلى السيارات باليد الأخرى وقال: فوتوا فوتوا.
تضيف جبر: "السخرية من النفس سمة من سمات السخرية النوبية، وتعكس ارتياحهم مع ثقافتهم وأنفسهم والعالم، ومن الملاحظ أنهم حتى عندما كانوا يسخرون من العالم يكون ذلك بطريقة مهذبة وغير مؤذية".
أسألها عن مدى حضور روح الدعابة في المجتمع النوبي فتقول: "النوبيون لهم تاريخ طويل من المقاومة ضد القوى المحتلة، مما جعلهم شعب ساخر ولديه روح الفكاهة، وهم شعب محب للحياة ويقدرها، كما أن لديهم تنوع ثقافي بسبب أن بلاد النوبة كانت تشمل في الأزمنة القديمة أثيوبيا وأماكن أخرى من أفريقيا إضافة إلى مكانهم الحالي في جنوب مصر وشمال السودان، كما أن النوبيين بطبيعتهم شعب اجتماعي محب للتواصل، والسخرية هي واحدة من الطرق التي تستخدم لكسر الجليد وخلق جو من المرح. وقد وجدت في علينتو انعكاساً لكل أحوالهم".
للضحك مكان وسط الحزن
فرض التهجير على النوبة واقعاً جديداً، تفككت فيه مجتماعاتهم وتشتتت قراهم، فهل تعامل النوبيون بنفس البساطة مع سخرية أهالي مدن المهجر؟ تجيب جبر: "أظن أن النوبيين كان يتعاملون مع العالم ببساطة ولم يشعروا أبدا أنهم أقل من غيرهم، ودائما حكاياتهم ونوادرهم غير جارحة، ولكن التغير حدث بسبب التهميش والظلم الذي شعروا به بعد التهجير، والصور النمطية التي شاعت عنهم في الأفلام، وتعرض الأبناء للتنمر في المدراس، بسبب لونهم أو لكنتهم التي تسببها لغتهم الأم، مما جعل بعض الأمهات لا يرغبون في تعلم أبناءهم اللغة النوبية. كل هذا أوجد لدي النوبيين رغبة في الدفاع عن الهوية، ولكنهم لا يشعرون في رأيي بالدونية، لأنهم يعلمون أن لهم تاريخ عظيم مرتبط بالتاريخ المصري وموازٍ له".
اعتاد النوبيون على جلسات السمر وقت العصاري في انتظار انتهاء الساقية من رفع الماء وري الأرض مع شرب الشاي، وتبادل الحكايات المرحة والفوازير والأحاديث الساخرة. كان هذا قديماً جزءاً من حياتهم اليومية
لكن الحنين للنوبة القديمة باق، حتى في نفوس من لم يروها، وهو ما توضحه جبر من خلال النوادر التي جمعتها، فلم تخل حكايات علينتو من الحنين للنوبة القديمة ونقد الأوضاع التي واجهها النوبيون بعد التهجير، منها أنه ذهب بعد التهجير لاستلام أرضه، وعندما وجد الطريق طويلاً واستغرق الكثير من الوقت وكأنه سفر ما بين بيته وأرضه، قال: "نسيت أن أودع من تركتهم فوق".
أسألها عن حضور الحزن والشجن أو الفرح والانطلاق في التراث النوبي أكثر من السخرية فتوضح: "أظن أن حس السخرية والمرح موجود بنفس قدر الحزن والحنين، والسخرية أحياناً تكون وسيلة للتأقلم مع الظروف الصعبة، وقد تساعد الناس على التخفيف من صعوبة الخبرات. النوبيون اعتادوا على جلسات السمر وقت العصاري في انتظار انتهاء الساقية من رفع الماء وري الأرض مع شرب الشاي، وتبادل الحكايات المرحة والفوازير والأحاديث الساخرة. كان هذا قديماً جزءاً من حياتهم اليومية".
لا تنكر جبر أن الحزن والشجن من العناصر الأساسية في التراث النوبي، لأنهم ببساطة يعكسون ثقافة النوبيين وتاريخهم وكذلك معتقداتهم، فالنوبي له طبيعة روحانية ويؤمن بعالم ما بعد الموت، ولكنه ككل البشر يشعر بالحزن والفقد سواء لأحبائه الذي غيبهم الموت، أو لأرض أجداده التي اختفت تحت البحيرة ويعبر عن هذا الحزن في موسيقاه ورقصاته الجماعية كما في أدبه الشعبي، وتضيف: "تاريخهم الطويل حفل بالحروب والصراعات والاحتلال والتهجير القسري، وقد ترك ذلك أثره علي نفوسهم وطريقة تفكيرهم وفنونهم، لكن من ناحية أخرى، يحب النوبيون الاحتفال، ويعبرون عن فرحهم بالغناء والرقص، ولأنهم شعب ذو تاريخ طويل فقد ورثوا الحكمة وعلمتهم بيئتهم القديمة الخيال، فأصبحوا قادرين على صياغة الحكمة في أمثال شعبية تعكس موروثهم الثقافي الغني بالمعتقدات والأساطير والخرافات".
"علينتو"... كل شيء هدف للسخرية
السخرية التي تطال حتى القيم النوبية الراسخة، تظهرها دراسة محمد متولي بدر، الباحث الذي جمع "حكم وأمثال النوبة" في كتاب يحمل العنوان نفسه.
وكما في "جحا النوبي" نرى في هذا الكتاب وما يحويه معان عميقة مرتبطة ببيئة النوبي وحياته، لكنها في نفس الوقت تحمل صوراً كاريكاتيرية ومرحة، مثل الحكمة التي تقول: "المرأة البلاء تضربها عتبة الباب سبع مرات" وهو ما يمكن فهمه في إطار "المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين"، وقد يوازي المثل المصري "اللي على البر عوام"، "القرد يمشي مع النسناس" بمعنى أن "المرء على دين خليله"، وكذلك "الخنفساء تسمي ابنها لولا" للدلالة على ولع الأم بأبنائها وغيرها من الصور الطريفة المحملة بحكم حياتية في صورة امثال شعبية.
بعض تلك الأمثال مرتبط بحكايات نوبية خرافية، مثل "الخنفساء لا تكل من العمل" وهو مأخوذ من حكاية خرافية نوبية تحكي عن خنفساء أعجبت بالقمر وأرادت أن تتزوجه فطلب منها القمر أن تطهر الأرض من فضلات الإنسان والحيوان ثم تعود ليتزوجا، فظلت تعمل بدأب؛ ولم تنته الفضلات بالطبع.
صور مماثلة تقرب لنا دور الحكايات والطرائف في الوجدان النوبي، يوردها كتاب "الخرافة والأسطورة في بلاد النوبة" للشاعر وكاتب الأطفال الراحل إبراهيم شعراوي، ومن حكاياته قصة خرافية بعنوان "خالي جاءه المخاض" تحكي عن سيدة لا تنجب فتستعين بساحر يصف لها شراباً يساعدها على الإنجاب؛ لكن أخاها يطمع فيه ويشربه فيأتيه المخاض.
هذه القصة كانت عنصراً في رواية الأديب النوبي حجاج أدول في روايته "خالي جاءه المخاض" الذي استعان بها ليكتب رواية تحمل خفة ظل مميزة لأعماله الأدبية.
بالعودة إلى "علينتو" أو حجا النوبي، نجد أن مخزون اللغة والدين والأدب الشعبي من أمثال وحكايات وشعر وفوازير وغيرها من المكونات الأساسية منعكسة فيما جمعته جبر من حكايات. لكنها ترى أن حكايات علينتو حوت كذلك تفاعلاً مع مشاهداته وخبراته كإنسان وفنان موهوب، وكان كتاب "الخرافة والأسطورة في بلاد النوبة" هو مدخل جبر للتراث النوبي.
تعود أصول الباحثة إلى قرية "قتة" النوبية، وهي نفس القرية التي ولد فيها محمد خليل قاسم، صاحب أول رواية نوبية "الشمندورة"، درست جبر الأدب الإنجليزي والترجمة ثم استهوتها فكرة قراءة الحواديت الشعبية النوبية، ثم كان الالتحاق بالمعهد العالي للفنون الشعبية لدراسة الأدب الشعبي لتبدأ رحلتها الأكاديمية، وكذلك الكتابة للأطفال مستلهمة التراث النوبي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين