ارتبطت في طفولتي بثقافة المدينة التي ولدت بها، القاهرة، لكن جسدي ووجداني ارتبطا بالمكان الذي تنتمي إليه جذوري عبر الموسيقى والرقص، وكانت للأفراح النوبية دور كبير في ذلك إذ كانت تُقَام في الشوارع وفوق أسطح المنازل في مناطق تجمعات النوبيين في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي قبل أن تصبح قاعات الافراح وساحات النوادي الاجتماعية النوبية مسرحاً لتلك الاحتفالات.
كان النوبيون الذين هُجِّروا من أراضيهم إثر غرقها بعد بناء السد العالي عام 1964 نحو النوبة الجديدة أو مدن مصرية أخرى، أو من غادروا قبل ذلك للبحث عن الرزق بعيداً عن أرض الذهب؛ قد كوّنوا تجمعات تحافظ على هويتهم. وبدا أن الرقص الجماعي بات وسيلة من وسائل تعبيرهم عن تلك الهوية وعن اختلافهم عن سائر الهويات التي شكلت ثقافة العاصمة.
في الأفراح التي تقام في العاصمة المصرية، قد يكون هناك راقصات وراقصون أحياناً يقدمون عروضهم للمدعوين، أما في الأفراح النوبية فالمدعوين هم الراقصون؛ ليس هناك جمهور، الرقص للجميع.
في حفل تخرج بإحدى الجامعات المصرية رقصت فتاة نوبية فرحاً لتثير جدلاً متوقعاً في المجتمع الحضري والريفي المصري الذي يتزايد ميله للمحافظة، لكن اللافت أن أتت انتقادات من نوبيين، يعرفون جيداً معنى الرقص في تراثهم ولم يجدوا فيه من قبل "فضيحة" أو خروجاً على التقاليد، فكيف ومتى وقع ذلك التحول؟
ما زالت تلك الأفراح تقام في مناطق تجماعات النوبيين القديمة في المدن التي هجروا إليها، وإن تفرق النوبيون في أنحاء المدن وفقاً لمستوياتهم الإجتماعية، ودرجة ارتباط الأجيال الجديدة بتراثهم.
في الأيام الأخيرة عاد الرقص النوبي إلى الواجهة في حفلات تخرج الطلبة، حين رقصت إحدى الخريجات الجامعيات النوبيات المقيمات في القاهرة على المسرح رقصة نوبية أثارت الجدل، فبدأت تظهر فيديوهات أخرى لطلبة وطالبات نوبيات يرقصون ويرقصن على إيقاعات أغاني نوبية في حفلات التخرج، والتي جرت العادة منذ سنوات أن تقام على نفقة الطلبة خارج الحرم الجامعي، ويتقدم كل طالب على المسرح بأغنية يختارها.
دافعت الطالبة ذات الأصول النوبية صاحبة الفيديو الأول عن نفسها قائلة إنها تعبر عن ثقافتها، أو ثقافة الجنوب على حد تعبيرها.
إلا أن الرقص كان وسيظل تعبيراً عن الذات حتى وسط المجموع. الفتاة النوبية صاحبة الفيديو الذي اثار جدلاً معتاداً في المجتمع المصري خارج المحيط النوبي، لم تكن تعبر عن أي شيء سوى نفسها وهويتها من خلال جسدها، بينما هوية النوبيين لم تعد خالصة، فقد اختلطت بهويات أخرى مختلفة في نسقها عن هويتهم، حتى أن بعض النوبيين وجدوا في الرقص الذي شكل لعقود مكوناص رئيسياً في الثقافة النوبية، خروجاً عن العادات والتقاليد!
ربما يعبر هذا عن تماهي أبناء النوبة - الذين خرجوا بعيداً عن الرحم الحاضن لثقافتهم- مع هوية أكثر تشدداً، وجدت منفذاً لها عبر وسائل التواصل الإجتماعي لتتداخل مع الهوية النوبية التي تشكلت في بيئة أكثر تسامحاً وانتقلت عبر أجيال، وما زالت جزءاً من الوعي الجماعي رغم تغير طبيعة الحياة في المناطق التي انتقل إليها النوبيون، وتشكُّل أجيال من أبناء النوبة بعيداً عن البيئة التي أفرزت عناصر هذا الرقص.
في الأفراح التي تقام في العاصمة المصرية، قد يكون هناك راقصات وراقصون أحياناً يقدمون عروضهم للمدعوين، أما في الأفراح النوبية فالمدعوين هم الراقصون؛ ليس هناك جمهور، الرقص للجميع
الرقص النوبي… تاريخ كبير
إن كان الرقص هو محاكاة جسدية لعناصر البيئة، فالنوبي القديم الذي عاش في بيئة نهرية استعان بعناصر كالماء والساقية والنخيل والطيور كملهم أساسي لحركات رقصاته، ورغم ابتعاده عن الطبيعة التي نشأ بها، إلا أن هذه الرقصات استمرت في الوجود، إذ أصبحت جزءاً من موروثه وارتبطت بلحظات فرحه بالحياة، من خلال الميلاد والزواج والحصاد وغيرها من المناسبات.
الرقص للنوبي كذلك تمسك بالروح الجماعية، وقد عثر على رسومات كهوف على جانبي النيل من مصر إلى السودان - مناطق وجود النوبة تاريخياً - تدل على ممارسة الرقص كأحد الطقوس الحركية، المرتبطة بعلاقة الإنسان بالطبيعة وتصوراته عن الظواهر الخارقة بالنسبة له.
يشير جون هامرتن في كتابه "تاريخ العالم" إلى أن النوبيين القدماء أهتموا بالرقص اهتماماً بالغاً في طقوسهم الدينية في المعابد والقصور الملكية "حكمت أسرة نوبية مصر في العصور المتأخرة"، ومع مرور الزمن خرج من الإطار الملكي والديني وصار يؤدى لعامة الشعب في الساحات والاحتفالات.
وتشير مصادر تاريخية عدة إلى أن هناك احتفالات نوبية بفيضان النيل كان يلقى فيها عروس خشبية في النيل مثلما كان يحدث في مصر القديمة، وكان لهذا الطقس أيضاً رقصاته الخاصة.
وفي كتابه "الرقص الشعبي في النوبة" يؤكد الباحث محي عبد الحي أن الممارسات الطقسية التي تناقلها النوبي عبر أجيال هي بقايا ممارسات قديمة مستوحاة من البيئة، إضافة إلى العناصر الأخرى المكتسبة من الثقافات التي وفدت إلى المنطقة، سواء أكانت عن طريق الحروب أم من خلال الهجرات المختلفة لليونانيين أو الرومانيين أو الأتراك أو العرب. فقد عرفت النوبة تعدد الأعراق واللغات والديانات والنشاطات، وثقافتها هجينة ومركبة لها ملامح أفريقية وعربية، إسلامية ومسيحية، وكان لهذا الخليط دوره في حيوية الرقصات النوبية.
"الأراجيد" هي الرقصة الأكثر شهرة في النوبة، والأكثر انتشاراً في الأفراح النوبية بعد التهجير، تلك الرقصة التي تعتمد على الخطوات المنتظمة في التقدم إلى الأمام ثم إلى الخلف مع الإنحناء، تشبه كثيراً حركة انتظام أمواج النيل
أشهر الرقصات
"الأراجيد" هي الرقصة الأكثر شهرة في النوبة، والأكثر انتشاراً في الأفراح النوبية بعد التهجير، ويوضح عبد الحي في كتابه السابق الذكر أن تلك الرقصة التي تعتمد على الخطوات المنتظمة في التقدم إلى الأمام ثم إلى الخلف مع الإنحناء، تشبه كثيراً حركة انتظام أمواج النيل.
ويضيف أنه كان هناك بعض تنويعات الأداء تعتمد على تنويعات حركية بين المؤدين والمؤديات بأن تكون الأيادي متشابكة، بحيث تضع الفتاة المؤدية كف اليد اليمنى على كف اليد اليسرى للشاب المؤدي، وهو غالباً من أقاربها، وتتشابك الأيدي أحياناً بين الشاب والفتاة مما يعكس طبيعة المجتمع الذي يستنكر الآن أداء فتاة منفردة على المسرح لرقصة تراثية معتبرين أنها تكسر عاداتهم وتقاليدهم!
يرتبط الرقص الشعبي النوبي بالإيقاع والغناء، كما كان مرتبطا بالملابس والحلي، الفساتين الملونة تحت "الجرجار" أو الجلباب الأسود الشفاف الذي يظهر ألوان الفساتين والحلي الذهبية المختلفة وفقاً للمناسبة
ويشير الدكتور مصطفى عبد القادر في كتابه "أثر تهجير النوبيين على طقوس دورة الحياة"، إلى أن النساء في رقصة الكف يتبادلن الرقص في منتصف الدائرة في ثنائيات، متمايلات مع الإيقاع.
ويوضح أن رقصتين هما "بلاجة" و"فري" متشابهتان في خطواتهما وتشكيلاتهما، وتعتمدان على الفتيات اللاتي يرقصن فرادى أو ثنائيات بحركات بها اهتزاز وخطوات سريعة على إيقاعات أغاني تكرس للقيمة الإجتماعية التي تكتسبها المرأة التي يغني لها الفنان.
وإن ارتبط الرقص قبل التهجير بكل مناحي حياة النوبي القديم، منذ الميلاد وطقوسه المرتبطة بالرقص أيضاً، وحتى الوفاة والحركات الجسدية المرتبطة بالندب وعاداته، مروراً بالزواج والحصاد والفيضان وجلسات السمر والذكر وغير ذلك، فإنه اقتصر بعد التهجير على الأفراح إلى حد كبير، وتداخلت معه الهويات الأخرى التي رافقت كل نوبي في بيئته الجديدة، خاصة بالنسبة للأجيال الجديدة.
يرتبط الرقص الشعبي النوبي بالإيقاع والغناء، كما كان مرتبطا بالملابس والحلي، الفساتين الملونة تحت "الجرجار" أو الجلباب الأسود الشفاف الذي يظهر ألوان الفساتين والحلي الذهبية المختلفة وفقاً للمناسبة.
لكن مع اختلاف العصور والأماكن بعد التهجير، اختلفت الملابس وصارت في أغلب الأحيان ملابس عصرية تعبر عن البيئة الجديدة التي يقيم فيها النوبي.
وربما كانت التابلوهات الراقصة التي قامت بها فقرة رضا في الستينات ممثلة للصورة الذهنية التي عرف بها الرقص النوبي بملابسه وحليه، وهي شكل استعراضي مستوحى من طبيعة الرقصات النوبية وتعطي صورة عامة عنها،لكنها ليست مشابهة له تماماً.
ولكن الأكيد أن أغلب الرقصات النوبية ظلت مرتبطة بالحياة وقائمة على الندية بين الرجل والمرأة على خلاف كثير من الرقصات الشعبية الأخرى التي تفتقر لهذا التواجد بين الجنسين متجاورين بنفس الدرجة، فالرقص النوبي عرف طريقه للساحات والشوارع، للرجال والنساء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com