منذ عرفت الأديب النوبي يحيى مختار وهو يحمل هذه العلاقة المرتبكة مع المكان واللغة في قلبه وعقله، يدرك موقعه كراو لحكايات أرض النوبة الغارقة التي لم يعد لها وجود منذ تهجير 1964 بعد بناء السد العالي، وقبله الهجرات المتعددة التي شهدتها النوبة منذ بناء خزان أسوان في عام 1902 ثم تعلياته الثلاثة حتى عام 1933.
عاش مختار واضعاً قدماً على أرض تشغل وجدانه يغطيها الآن ماء النهر، وقدماً أخرى على أرض تشكَّل فيها فكره بعيداً عن الأولى.
يحيى مختار هو ثاني كتاب النوبة الذين عبروا عن مواجع واغتراب وتفسخ جماعة بشرية لها خصوصية ثقافية، بعد الأديب الراحل محمد خليل قاسم رائد الرواية النوبية وروايته الأهم "الشمندورة". لكن كتابات مختار وكأنه يقبض من خلالها على تراب أرضه ويسعى لتوثيق كل ما عاينه في طفولته، فارتبطت كتابته بالنوبة، ليس بوصفها مكاناً بل بوصفها حياة لا يمكن أن تموت إلا بموت سيرتها.
يحيى مختار هو واحد من روائيين شكلوا ما أصطلح على تسميته بـ"الأدب النوبي"، وهم يحيى مختار والراحل إدريس علي، وحسن نور، وحجاج أدول، وإن كان مختار يعترض على هذا المصطلح، ويرى ما يكتبه هو أدب عربي، وأن أعماله تعبر عما عايشه كإنسان ينتمي لأرض في جنوب مصر.
هذا الوعي لدى مختار شكلته هجرته إلى القاهرة في أربعينيات القرن الماضي، وهو ما زال طفلاً يحمل ميراث من العادات والتقاليد والحكايات واللغة التي صارت في المدينة لغتين، لا يمكن فصلهما في ذهنه عن بعضهما البعض.
عاش يحيى مختار واضعاً قدماً على أرض تشغل وجدانه ويغطيها الآن ماء النهر، وقدماً أخرى على أرض تشكَّل فيها فكره بعيداً عن الأولى
نوبة مصغرة في القاهرة
جاء ابن قرية (الجنينة والشباك) النوبية إلى القاهرة وهو لا يعرف كلمة عربية واحدة.
ولد في ديسمبر/ كانون الأول عام 1936، وفي هذا الوقت لم يكن هناك مدرسة نظامية في النوبة سوى في قرية (عنيبة) تخدم وحدها سكان تلك المساحة الجغرافية الشاسعة، ومن تنقطع بينه وبينها السبل سيجد بعض المدارس البسيطة التي تكتفي لتعليم القراءة والكتابة للكبار. لكنه كان صغيراً فلم يلتحق بها، وكان على موعد مع العاصمة حيث يعمل والده ليلتحق بمدارسها.
يروي مختار لرصيف22 أن والده استقبل عائلته الصغيرة، يحيى ووالدته وأخته الصغرى، في محطة السكة الحديد (القطار)، ثم ركبوا عربية (حنطور) حتى محطة باب اللوق، ومنها استقلوا القطار عابرين شارع 77 في المعادي في اتجاه عزبة جبريل، إحدى المناطق التي أقام بها النوبيين في القاهرة. وطوال الطريق لم يكن يفهم كلمة واحدة مما يتردد حوله؛ كانت اللغة عائقاً ولم يكن عبوره سهلاً.
"كان المطبخ النوبي يعتمد على الملوخية والبامية والفاصوليا، وعندما يحل موسم حصاد البلح، يأتي أهل الصعيد لحصاده ويعودون بمنتجات المدن، مثل الفول والطعمية، وبعد الفاكهة مثل التفاح. الطعام الذي كنت أحصل عليه في قريتي في المواسم فقط؛ وجدته هنا في مطعم المدرسة، كما وجدت المعرفة في مكتبة المدرسة"
في منطقة سكنه لم يشعر بغربة، حيث كان الحديث في بيته بالنوبية، وكذلك في البيوت المجاورة حيث يقيم أيضاً نوبيون، ويقول مختار: "في المنطقة كان هناك خمسة بيوت نوبية يحبون الحياة معاً وعدم الاختلاط بغير النوبة. لم أكن في حاجة للحديث بالعربية سوى في الشارع، فلم أكن أستطيع فهم من يماثلوني في السن من غير النوبيين، وكان نطقنا للغة غريباً ومثيراً لضحكهم إذا حاولنا اللعب معهم، فأرسلني والدي إلى شيوخ لأتعلم القرآن وأردد آياته، وحفظت بعض سور القرآن ثم أتي أبي بشيخ للبيت فبدأت أتعلم اللغة العربية من القرآن، وبدأت أفهم وتمكنت من اللعب مع الأطفال في الشارع، ثم دخلنا المدسة الإلزامية في المعادي، وكان بها نوبيون أيضاً، وتكاتفنا معا لنتقن اللغة، وكنا نترجم من العربي للنوبي والعكس حتى أتقنت العربية".
كانت هناك نوبة مصغرة في هذا الشارع، كأنه لم يخرج من بيئته فلم يشعر بالغربة، وفي المناسبات كان يزور أقاربه في حي عابدين، حيث أكبر كتلة سكنية للنوبيين المهاجرين طوعاً والمهجَّرين قسراً، ويلعب مع أطفالهم بالنوبية فظلت لغته حاضرة. ومع مرور الوقت، بدأ استخدام اللغة النوبية يتقلص نسبياً. في البيت يتحدث النوبية، لغة وجدانه؛ وفي الشارع يتحدث العامية المصرية، لهجة التأقلم والذوبان، وبدأ توثيق علاقته مع اللغة العربية، لغة الكتابة، في المدرسة الإبتدائية.
يعترف يحيى مختار بأنه لم تكن لديه رغبة قوية في العودة إلى قريته، ولم يشغله حلم العودة إلى النوبة القديمة والبكاء على أطلالها مثل الكثيرين، فما الذي كان يحركه ليصبح جل مشروعه الأدبي عن الإنسان النوبي؟
الخروج من جلباب اللغة الأم
وصف مختار المدرسة التي دخلها في منتصف الأربعينيات بأنها "بمثابة إدماج داخل هذا المجتمع، فعندما دخلت المدرسة الابتدائية، وكان أيامها المدارس بمصاريف عشرين جنية مبلغ كبير في الفترة دي، إلا أن منكوبي خزان أسوان كانوا يدخلون مجاناً، وكانت الدراسة تربية وتعليم وأنشطة متنوعة رياضة وكشافة وتعليم خطابة وتحسين خطوط وتمثيل، مما أثر على لغتي، وكذلك موسيقى وفلاحة بساتين وزيارات ميدانية للتعرف على المنطقة التي نسكن فيها، ومكتبة ومطعم".
مع ذلك، كانت مفردات المجتمع النوبي في وجدانه. ظل يعيش العادات والتقاليد النوبية رغم إندماجه في العاصمة خاصة في مواسم الأعياد والأفراح، والأكل النوبي كان يُطبخ في البيوت، فلم يمِلُ النوبي لأكل المدينة لأن الأمهات لم يجدن طبخه.
يتذكر مختار: "كان المطبخ النوبي يعتمد على الملوخية والبامية والفاصوليا، وعندما يحل موسم حصاد البلح، يأتي أهل الصعيد لحصاده ويعودون بمنتجات المدن، مثل الفول والطعمية، وبعد الفاكهة مثل التفاح. الطعام الذي كنت أحصل عليه في قريتي في المواسم فقط؛ وجدته هنا في مطعم المدرسة، كما وجدت المعرفة في مكتبة المدرسة".
يعترف يحيى مختار بأنه لم تكن لديه رغبة قوية في العودة إلى قريته، ولم يشغله حلم العودة إلى النوبة القديمة والبكاء على أطلالها مثل الكثيرين، فما الذي كان يحركه ليصبح جل مشروعه الأدبي عن الإنسان النوبي؟
يجيب مختار: "الرغبة التي كانت تحركني هي رغبة التوثيق وليست العودة، لأن العادات والتقاليد بدأت تختفي".
النوبة في أدب يحيى مختار
"البداية كانت الدهشة، كان والدي يقرأ جريدة الأهرام فكنت أقرأها وأكتسب معلومات جديدة وأتساءل ما هذه الجريدة، ما هذه الصور وكيف تطبع؟ الأسئلة كانت تحيطني كطفل وتدفعني للمعرفة. وكان والدي يأتي بمجلة المختار، وكان مدرس الأشغال والرسم يصحبنا إلى ترعة الخشاب في منطقة المعادي، حيث كان هناك ما يشبه الغابات وكان يجعلنا نقلع جذور الغاب ونأخذها لقاعة الرسوم ويجعلنا نحولها لأعمال فنية وأشكال حيوانات فيفتح أفق واسع وغريب. وتصادف أن هناك مدرسين يكتبون القصة والشعر في إبتدائي وإعدادي، ويلقونها في الحفلات، وكنت أندهش كيف يكتبون من خيالهم؟ وكانت هناك مسابقات للقراءة وعروض الكتب، وكان مدرسي للغة العربية عبد الباسط جبار يوزع دفتره ككتاب فكنت متعجب كيف طبع الكتاب؟ مع إندهاشي من تحويل كراسة لكتاب؛ فقلت أنا أيضاً استطيع كتابة كتاب، فاشتريت قص ولزق وأحضرت كراسة وألصقت صور الحيوانات وكتبت أسماءها تحتها وكتبت علي الكراسة تأليف يحى مختار. كل ما يتعلق بهذه الأمور كان يثير دهشتي".
"كان تفكيري مزدوجا، ما اكتسبته من معارف تتصل بتكنيك كتابة وجمل وصياغة كان بالعربية، أما المشاهد والأفكار ومفردات الحياة فتأتي إلى ذهني بالنوبية"
بدأ مختار كتابة القصة أثناء دراسته للصحافة في الجامعة، ورغم كل ما رواه عن علاقته بالمدينة فإن أول قصة كانت عن النوبة يعلق: "كان عندي احساس عميق أن فهمي للمجتمع النوبي أكبر من فهمي لمجتمع المدينة، بل أن الثقافة المختلفة وتنوع القراءة زادت من رغبتي في التمسك بالأصل والجذر، فيما قرأته من روايات مصرية ومترجمة كان الكتاب يكتبون عما عايشوه وعما يتذكرون، كل واحد من الكتاب المتأصلين كان مرتبطاً بجذوره. فشعرت أن الأصالة هو أنك تعود إلى جذورك المختلفة عن السائد".
رغم إندماجه مع مجتمعه الجديد، كان ما زال يشعر بتميز النوبي عن ابن المدينة، ليس فقط في الحياة، بل في مخزونه الثقافي وعمقه الإنساني أيضاً، لذلك في الكتابة، حيث الانصهار مع الوجدان، انتصر ابن قرية الجنينة والشباك على ابن المدرسة الذي أندمج في المجتمع القاهري.
بأي لغة يفكر ابن اللغتين؟
تقرير اليونسكو عن اللغات يشير إلى أن هناك أكثر من 600 لغة تتلاشى، يقول مختار: "حين عرفت أن هناك لغة تتحدثها سيدتان فقط مع موتهما ستندثر تلك اللغة، خفت!" فكانت احتمالية اندثار اللغة النوبية هاجساً دافعاً في كتابته، فتجد أن معظم أعماله تحمل عناوين بكلمات نوبية، وكذلك يستعين داخل كتابته بكلمات نوبية للتعبير عن مفردات الحياة، ويترجمها بين قوسين بالعربية. فبأي لغة يفكر ابن اللغتين؟
يجيب مختار: "كان تفكيري مزدوجا، ما اكتسبته من معارف تتصل بتكنيك كتابة وجمل وصياغة كان بالعربية، أما المشاهد والأفكار ومفردات الحياة فتأتي إلى ذهني بالنوبية. مزيج، بمعنى أني معايش التجربة النوبية بلغتها النابعة من بيئتها، لكن الكتابة ذاتها مستفيد من الكتابات التي قرأتها لنجيب محفوظ ويوسف إدريس، وغيرهما".
يقول لي في حوارنا: "أنني أحاول التحليل معك الآن، كنت أفكر بلغتين بالفعل، وهذه مهارة صعبة لكني لا أشعر بالراحة وأنا بعيد عن ذلك، وهذه المعاناة كانت السبب في قلة ما كتبت".
لماذا يرفض مصطلح "الأدب النوبي" إذن؟ أسأله فيجيب: "لأن الأدب، من وجهة نظري ينسب إلى لغة الكتابة، واللغة عندي مرتبطة برؤيتي للوجود وقدرتي على التعامل مع المشتركات بين البشر من خلال وعاء لغوي، لكن المكان الغائب يملك حواسي ووجداني مما ينعكس على الموضوع وطبيعة المفردات وروح العالم الذي أقدمه".
يكتب مختار منذ عقود طويلة، لكن فرصة النشر لم تأت إلا في أوائل التسعينيات عندما تولى الروائي الراحل جمال الغيطاني الإشراف على قطاع الثقافة بمؤسسة أخبار اليوم (ثانية أكبر المؤسسات الصحافية المصرية)، وكان صديقاً ليحيى مختار ويعرف أن لدى الأخير مجموعة قصصية مكتملة ظلت سنوات طويلة في درج مكتبه. نشرت مجموعة "عروس النيل" لأول مرة تحت عنوان "رباعية النوبة"، وكتب الغيطاني في مقدمتها: "لقد تأخر صدور هذه المجموعة طويلاً، كان المفروض أن تصدر منذ خمسة وعشرين عاماً على الأقل، وتأخير صدورها يعكس خللاً في الحياة الأدبية لا شك فيه".
حصلت المجموعة على جائزة الدولة التشجيعية عام 1992، وقبل أن ينقضي عام على صدور "عروس النيل"، عاد حماس الكتابة لينجز مختار رواية «تبدد» مع مجموعة قصصية صدرت لاحقاً تحت عنوان "ماء الحياة"، واستمرت أعمال مختار في محاولتها لإنقاذ المجتمع النوبي من الغرق مثل أرضه، فجاءت المجموعة القصصية "كويلا" ثم رواية "جبال الكحل" التي كانت بمثابة وثيقة لأحداث آخر أيام تهجير النوبيين في 1964، ثم رواية "مرافىء الروح"، والمجموعة القصصية "إندو ماندو" ثم أخيرا رواية "جد كاب".
أنجز مختار ثلاث مجموعات قصصية وأربع روايات، بوجدان تكون في ثقافة ولغة، وعقل تحركه ثقافة ولغة أخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي