شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
صبري نخنوخ...

صبري نخنوخ... "دفَّاس" الزمن الجميل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الأربعاء 4 أكتوبر 202303:47 م

في حرافيش نجيب محفوظ، صورة راسخة للفتوة: "ابن البلد" بالتعريف، هو قوي، لا يشق له غبار، يستخدم البطش للدفاع عن حارته، ولديه منظومة مبادئ وإن لم يتفق معه عليها الجميع إلا أنها تمثل مرجعية ملزمة له ولغيره من "الفتوات" تحظر البطش بالضعفاء أو الطمع بـ"في أيديهم" من أموال ونساء، ناموس لا يجوز للفتوة الخروج عنه وإلا تبدأ رحلة انهياره.  

خلال ثمانينيات القرن الماضي، توسعت السينما المصرية في الاقتباس من ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ، وأصبحت حكايات الفتوات تجد طريقها لجمهور أوسع من جمهور القراء المحدود بطبعه في مجتمع كان يعاني وقتها من ارتفاع نسب الأمية، لتتشرب الأعين والأذهان صورة الفتوة المثالي كما رسمها محفوظ، مجردة من الأبعاد الفلسفية التي تحملها ملحمته الأدبية، ولا أستبعد أن تكون تلك الصورة المقدمة سينمائياً للفتوة الجدع هي ما ألهمت المعلم صبري نخنوخ، رجل الدولة الذي تولى "تأمين احتفالات ترشيح الرئيس عبد الفتاح السيسي" ليصنع شخصيته التي باتت حاضرة بقوة بعد الإعلان عن "شرائه" أكبر شركة للخدمات الأمنية في مصر. 


للمفارقة؛ لم تبدأ صورة الفتوة عند نجيب محفوظ في رواياته، بل عندما شارك في كتابة سيناريو "فتوات الحسينية" لنيازي مصطفى عام 1954، خلت قبلها رواياته أو قصصه القصيرة من الفتوات، قبل أن يستدعيهم إلى عالمه من خلال تجاربه الشخصية التي رآها في طفولته، ليمنحهم بعداً فلسفياً، ويطرح من خلالهم سؤالي العدالة والقمع، إذ يخطو الفتوة دائماً على شعرة تفصل بين أن يكون عادلاً وبين أن يتحول إلى مجرم، يروع هو ورجاله الناس عقاباً على أقل إيماءة.

السمة التي رسخها نجيب محفوظ في الفتوات، هي تثبيت الأوضاع الظالمة: فرض الإتاوات، إشاعة الذعر، بحسب ملاحظة الناقد كمال رمزي في مقاله، فتوات نجيب محفوظ، ووسيلتهم في ذلك النبوت.

يوصف صبري نخنوخ دائماً بأنه جدع؛ يذبح الأضاحي ويوزع لحومها باستمرار على الفقراء، يدعمهم بالمال، مع شهادات متواترة بوقوفه مع الناس في شدائدهم، يعرف الأصول ومسيحي وابن بلد "وينفع نتكلم معاه"

هم إذن قوى البطش ورمز السلطة المطلقة التي لا تؤدي إلى إلا فساد مطلق، حتى يبزغ من بينهم من يعهد للناس أن يقيم العدل، ويتحول نبوته للأهالي لا عليهم، لكن في الأغلب الأعم، ينتهي الحال بالفتوات إلى نكث هذا العهد ما أن يتذوقوا حلاوة السلطة والثروة والحياة الناعمة، فينقلب الفتوة من نصير للأهالى إلى غول لا يرحم.
كأن نجيب محفوظ ينسف فكرة المستبد العادل من أساسها، وهو ما لم تتنبه له معظم الافلام المأخوذة عن أعماله احتراماً لمبدأ النهايات السعيدة.

أي فتوة هو "صبري نخنوخ"؟

يوصف دائماً بأنه جدع؛ يذبح الأضاحي ويوزع لحومها باستمرار على الفقراء، يدعمهم بالمال، مع شهادات متواترة بوقوفه مع الناس في شدائدهم، يعرف الأصول ومسيحي وابن بلد "وينفع نتكلم معاه" كما وصفه الباحث محمد نعيم في سخرية دقيقة ومكثفة، لكن صحيحة.

عن صبري نخنوخ أتحدث.

لا بد لنا شئنا أم أبينا أن نقارن بين عهدين، عهد مبارك وما نعيشه الآن، تميل الكفة لترجيح كفة مبارك فيما يخص احتراف رجاله على الأقل في منح متنفس للتيارات المختلفة والتنويع بين الترهيب والترغيب مقارنة بالعهد الحالي الذي يرى متابعون غربيون أنه لا يرى إلا الترهيب إجابة وحيدة على سؤال إدارة المجتمع.

للأسف ينجح رجال كفتحي سرور، كمال الشاذلي، صفوت الشريف وغيرهم من علامات ذلك الزمن، في تلك المقارنة، كرجال دولة يحاولون تفادي الوصول إلى مرحلة الغليان القابل للانفجار، وعندما تركوا دفة إدارة التوازن، خسروا كل شيء، وليس لأنهم تركوا اللجام منفلتا كما يظن نظام العهد الحالي.

ورغم أن مبارك ورجاله مسؤولون بشكل لا لبس فيه عن مآلات الحاضر، بل إن ذلك الحاضر هو الإفراز الواضح لذلك العهد بعد تجريف مصر سياسيا وثقافياً على مدار ثلاثين عاماً إلى الدرجة التي تصل إلى الإهانة وتحطيم كبرياء المصريين، إلا أن ذلك أن يمنع أننا مع قسوة الحاضر الذي لا يعترف بالسياسة من بابها، قد نشعر بقليل من الحنين إلى زمن القمع الوسطي الجميل، ونستدعي ذلك المشهد من فيلم العار، الذي يخبرنا "أن التخزين كان من اختصاص أبو دقشوم والدفاس".

للمعلم صبري نخنوخ تاريخ طويل في دعم نظام مبارك في الانتخابات، ويعود الآن للعب الدور ذاته ولكن بشكل قانوني أو جرى تقنينه من خلال ترأُّسه لشركة "فالكون" للخدمات الأمنية، التي كانت مملوكة قانونياً لأحد الأجهزة السيادية حتى أسابيع قليلة سبقت بدء مراحل الانتخابات الرئاسية المنتظرة

لذا ربما قرر النظام الحالي الاستعانة بواحد من "دفاسي" الزمن الجميل، صبري نخنوخ، لكن ليس في إدارة تسكين التيارات المختلفة في وضع التراضي والصمت؛ بل في القمع الصريح والمباشر، إذ أن مجرد ترديد اسمه في المجال العام يكفي لبث الخوف لتاريخه الذي لا يخفى على أحد.

كما في عالم الفتوات القديم، يعمل الفتوة لصالح النظام Regime ممثلاً في "التُمن" أو قسم الشرطة الذي تتبعه الحارة، تستخدمه السلطة في الضبط والربط، وتغض الطرف عن خروجه ورجاله عن القانون، مقابل أن يظل "النظام" order محفوظاً.

@king0masr ♬ الهيبه يظل هيبه - احمد العكيدي

لا يختلف الأمر في حالة المعلم صبري نخنوخ، صاحب التاريخ الطويل في دعم نظام مبارك في الانتخابات، الذي يعود الآن للعب الدور ذاته ولكن بشكل قانوني أو جرى تقنينه عبر ترأُّسه لشركة "فالكون" للخدمات الأمنية، التي كانت مملوكة قانونياً لاحد الأجهزة السيادية حتى أسابيع قليلة سبقت بدء مراحل الانتخابات الرئاسية المنتظرة. 

يوصف نخنوخ أنه رجل أعمال مصري، وأكبر مسجل خطر – سابقاً- في مصر- قبل أن يحظى بعفو رئاسي في مايو/ أيار 2018 أصدره الرئيس عبد الفتاح السيسي، على الرغم من إدانته في واحدة من أشهر قضايا حيازة الأسلحة خلال عام 2012، وصدر فيها ضده فيها حكماً باتاً من محكمة النقض بالسجن المؤبد عام 2014.

ألقت السلطات المصرية القبض على نخنوخ في أغسطس/ آب 2012 بعد بلاغ قدمه القيادي في جماعة الإخوان، محمد البلتاجي، ودعا فيه وزير الداخلية وقتها، أحمد جمال الدين، للقبض على أكبر مورد للبلطجية في مصر، وبالفعل تم القبض عليه في مسكنه الخاص الذي حوله لثكنة عسكرية بمحافظة الإسكندرية.

اكتسب نخنوخ الآن صفة رجل الأعمال، خاصة بعد نشره عبر منصة فيسبوك، صوراً له في أثناء ترأسه اجتماعاً داخل مجموعات شركات فالكون للأمن والحراسة وخدمات الأموال. وبحسب صحيفة الشروق "أهمية شركة فالكون تبرز لكونها إحدى أكبر شركات الأمن والحراسة في مصر وأكثرها حضوراً، حيث لا تقل حصتها السوقية عن 62% من سوق الحراسة والخدمات الأمنية"، ولعبت شركة فالكون أدواراً في السيطرة على تظاهرات طلاب الجامعات بعد أحداث منتصف 2013.

يستدعي نخنوخ في المخيلة، تركيبة من تراث بصري وأدبي، يذكرنا بتركيبة فتوات نجيب محفوظ حيث للبطش حدود ينظمها قانون ما لا يتخطاها، لغة يمكن التفاهم معها

ابن البلد

في شهادة لمسجون سياسي سابق عن صبري نخنوخ، كتب التالي:

"الكل عارف صبري نخنوخ اللي عنده مشاكل كبيرة وخطيرة، لكن كل إنسان عنده جانب مختلف لما كنت في السجن سنة 2015 كنت في زنزانة 10/2 عنبر 2 سجن طرة تحقيق. كنت محبوس وسط الجنائيين والعنبر كله في الفترة دي كان جنائيين بس، لكن قضيتي كانت فيها مشاكل وفرقونا في كل العنابر وأنا حظي كنت في زنزانة سرقة ومنوعات والزنزانة اللي جنبي كانت زنزانة انفرادي اللي ساكن فيها صبري نخنوخ، كان بيدافع عن المساجين لو شاف أي مخبر ولا ضابط بيمد إيده عليه، وكان لطيف معايا ومتعاطف إني كنت 18 سنة وازاي بقيت في المكان ده، وبقى صحبي في الوقت ده وكان بيثق فيا جداً كل أما مسجون هيترحل لسجن تاني وهو محدش بيجيله زيارة كنت أروح اقوله الظروف دي يقولي ادخل زنزانته آخد شنطة وألم فيها أكل وهدوم وأي حاجة براحتي واديها للمسجون ده. وحصلت كتير أوي ولما كنت ممنوع من الزيارة ومفيش حد عارف يجيلي من اهلي كان بيبعتلي سجاير وأكل وكان بيوصي عليا في الزنزانة علشان محدش يتصرف معايا باستغلال لأني سياسي وسط جنائيين في قضايا خطرة كان محبوب وسط المساجين وكان فيه مرة وإحنا راجعين من جلسة المحكمة الظباط اعتدوا على زمايلي راح وقف قدام الحكومة وحاول يدافع عن زمايلي. أنا متفهم اي حد هيقولي كلام سخيف لكني والله مش بقول غير اللي شوفته بعيني وده ملوش علاقة باللي معروف عنه قدام الناس".

الكل عارف صبري نخنوخ اللي عنده مشاكل كبيرة وخطيرة، لكن كل إنسان عنده جانب مختلف"

بينما صورة أخرى كانت عبارة عن منشور لأحد الموظفين في شركة فالكون، أشاد فيه بـ"الرئيس الجديد الذي يعمل على تطوير الشركة وازدهارها، مع منحة مقدمة منه بمناسبة المولد النبوي".

من ناحيتي ورغم أني أعلم خطر وجوده في ساحة السياسة ودلالة ذلك، فإ شيئاً صغيراً بداخلي يجبرني على احترامه. ففي مجتمع يسيطر عليه مجموعة من الهواة الباطشين، بنى نخنوخ إمبراطورية حقيقية، محترفة في أداء مهامها، بشبكة علاقات واسعة النطاق، شكلها ببطء على مدار عقود، عبر الجدعنة؛ التي هي ليست براءة صافية أو شراً صافياً بالضرورة، لكنها لغة هذا العالم، الذي يجمع بين الترغيب والترهيب، والذي يعرف أنه قد يجني بالحب أضعاف ما يجنيه بالإكراه، فهو يعرف أن الإكراه هو لغة النهاية لا البداية.

يستدعي نخنوخ إذن في المخيلة، تركيبة من تراث بصري وأدبي، يذكرنا بتركيبة فتوات نجيب محفوظ حيث للإجرام حدود ينظمها قانون ما لا يتخطاها، لغة يمكن التفاهم معها.

ورغم كل هذا يتمنى المرء لو أن ظاهرة صبري نخنوخ، ظهير الأنظمة، لم تكن توجد من الأساس، ولا يتبادر في ذهني سوى جملة أبو سويلم (في فيلم الأرض ليوسف شاهين) لعسكري الهجانة رداً على جدعنته، ليذكره بالحقيقة الوحيدة الواضحة وسط ضباب الخير والشر، الجدعنة والكرباج:

  • إنت مش ضيف... إنت جي عشان تضربنا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image