شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عقاقير مهدئة وعنف مجتمعي... أزمة المناخ تفترس حياة الغزّيين

عقاقير مهدئة وعنف مجتمعي... أزمة المناخ تفترس حياة الغزّيين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بيئة ومناخ نحن والنساء نحن والبيئة

الأربعاء 4 أكتوبر 202312:53 م
Read in English:

Sedatives and societal violence: The climate crisis slowly preying on the lives of Gazans

في الأشهر الأخيرة، كنت أتردد باستمرار إلى إحدى الصيدليات في قطاع غزة لشراء أدوية القلب لوالدي، وفي كل مرة كنت أقابل مصادفة شاباً أربعينياً، لاحظت اعتياده على شراء أدوية مهدئة دون وصفة طبية، فاستوقفني ذلك وسألته باستغراب عن الدافع وراء ذلك.

الجواب بالنسبة لي لم يكن مبرراً، لكن بالنسبة لمواطن يعيش في القطاع المحاصر، قد تكون له دوافعه التي يراها منطقية، تحدث عنها بينما كان يمسك منديلاً يمسح العرق المتصبب من جبينه، وينفث سيجارته.

"أتناول المهدئات بشكل شبه يومي لتجنب العصبية والتوتر والتقليل من الضغوط اليومية، فأنا كمواطن أعيش ظروفاً غير طبيعية، ارتفاع في درجات الحرارة، رطوبة شديدة، لا هواء، ولا كهرباء، ولا حتى عمل، وخلافات متكررة مع زوجتي، ماذا تريدين بعد!". هكذا شرح عاصم حسّان حياته اليومية باختصار.

جولة واحدة في فصل الصيف بين أزقة المخيمات ومنازل الغزيين تكشف كمية المعاناة والغليان التي يعيشها الأهالي.

يعيش عاصم في منزل لا تتجاوز مساحته ثمانين متراً، بين أزقة مخيم جباليا للاجئين، غير المجهز لاستقبال الصيف، يعلو منزله سقف "الزينكو" أو التنك وتأكل جدرانه الرطوبة، وهو أب لخمسة أطفال، يقضي معظم وقته في المنزل، واصفاً الوضع الإنساني بـ"النار والمرار".

يقول لرصيف22: "لا يكاد يمر يوم دون نشوب خلافات بيني وبين زوجتي وأولادي، ارتفاع درجات الحرارة والضغوطات تخلق بيئة دائمة من التوتر، جميعنا نغلي، وأحاول الهروب من الخلافات تفادياً لأي عنف قد أندم عليه، بتناول مهدئات حتى إن كانت نتائجها سلبية".

منازل ضيقة

تكشف البيوت التي تشبه الصناديق المغلقة، المتراصة بعضها قرب بعض، في غزة عامة والمخيمات بشكل خاص، عدم الجهوزية للتعامل مع أي اضطرابات مناخية تزيد من ارتفاع درجات الحرارة، فجولة واحدة في فصل الصيف بين أزقة المخيمات ومنازل الغزيين تكشف كمية المعاناة والغليان التي يعيشها الأهالي. تارة تسمع أصوات بكاء الأطفال، وتارة أخرى أصوات خلافات الأسر، ناهيك عن الافتقار لأماكن الترفيه المجانية، فأغلب أماكن الترفيه عبارة عن مقاهٍ على البحر دخولها مرتبط بدفع النقود.

لذا تلجأ معظم العائلات للمكوث في المنزل عوضاً عن الخروج للتنزه، وهذا ما يزيد فرص الاحتكاك بين أفراد العائلة مولداً عنفاً مجتمعياً. يقول عاصم: "تراكم أعباء الحياة يجعل سلم أولوياتنا متجهاً لتوفير المأكل والمشرب، متناسين أي نوع من الترفيه، وهذا يولد ضغطاً نفسياً. في أيام ارتفاع درجات الحرارة طلب مني أطفالي وزوجتي اصطحابهم للبحر، للحصول على نسمات هواء باردة والقليل من التنزه عوض الجلوس في المنزل طويلاً، فرفضت كوني لا أملك مالاً كافياً، ونشب بيننا خلاف حاد".

وكما هو حال عاصم، عاش كثير من الغزيين هذا الصيف حالة من التوتر وتقلب المزاج، لكنهم عوض التفكير في الذهاب إلى طبيب نفسي، يلجؤون لشراء مهدئات سراً خوفاً من الوصمة المجتمعية.

تأثيرات فيزيولوجية

تعقيباً على ما ذكر، يشير الطبيب النفسي خالد دحلان إلى أن هنالك عوامل متداخلة تؤثر على السلوك البشري في فصل الصيف تحديداً في قطاع غزة، فنلاحظ البعض يعاني من تقلب في المزاج والعدوانية والتوتر، لعدة أسباب منها جينية ووراثية أو مجتمعية ومعيشية، وأيضاً عوامل البيئة والحروب المتكررة والتغيرات المناخية سواء ارتفاع درجات الحرارة أو انخفاضها.

أواجه قيوداً على لباسي إذ يشترط أن أكون محتشمة حتى إن كنت في المنزل، كذلك في الحصول على وسائل التهوية فالأولوية لأشقائي الشباب، إذ إننا لا نمتلك سوى مروحة واحدة يسيطر عليها الذكور، وإن حاولت الحصول عليها خاصة فترة الليل تنشب مشاجرات بيننا

ويشرح: "تؤثر درجات الحرارة المرتفعة على هرمونات الجسم فتنتج عنها سلوكيات قد تكون مضطربة وردود فعل عنيفة، خاصة وأن بعض سكان القطاع يعانون أساساً من اضطرابات ما بعد الصدمة بسبب تكرار الحروب ضمن فترات قريبة".

وينبّه إلى أن الرجال عموماً هم أكثر عرضة للتغيرات الهرمونية المتأثرة بدرجات الحرارة من النساء، لذا نجد أن بعضهم قد يكونون أكثر عدوانية وتزيد عندهم فرص الانهيارات العصبية والقلق تجاه أبسط القضايا، خاصة إذا كان الجسم يفقد كميات المياه بسرعة فتزيد درجة حرارته.

ويوضح دحلان أن بعض المصابين يلجؤون للتحايل على الدماغ بتناول عقاقير مهدئة تعمل على تحفيز مراكز السعادة للحظات مؤقتة، مما يشعر الشخص بتحسن في حالته المزاجية وبنوع من الراحة والهدوء. لكنه يحذّر من تناول المهدئات التي لقد تجر صاحبها للإدمان، فبعد فترة من تعوّد الدماغ يرفض الجرعات القليلة فيزيد احتياجاته لجرعات أكبر، مما يؤدي لعواقب تصعب السيطرة عليها.

وتشير دراسات حديثة إلى أن التعرض لطقس شديد الحرارة يعزز ميول الأشخاص نحو الأعمال العدائية، وإلى ازدياد معدلات جرائم العنف مثل القتل والاغتصاب خلال فصل الصيف. وكان فصل الصيف هذا العام الأشد حرارة على الإطلاق وفق ما سجلته التقارير. وبالنسبة للغزيين الذين يضعون على سلم أولوياتهم قضاياهم السياسية والمجتمعية والاقتصادية، فإن أزمة المناخ العالمية أمر معقد جاء ليزيد الطين بلة، لعدم جهوزيتهم للتعامل معها، في ظل الواقع المركب الذي يعيشونه.

تشير دراسات حديثة إلى أن التعرض لطقس شديد الحرارة يعزز ميول الأشخاص نحو الأعمال العدائية.

تمييز مضاعف ضد النساء

الظروف المناخية في غزة ليست مجرد أزمة بيئية، مع تبعاتها التي تضرب المجتمع والعائلات الفلسطينية، خاصة فئة النساء، فآثار ارتفاع درجات الحرارة في منطقة كانت تتميز بالمناخ المعتدل تبدو أكثر قسوة عليهن، فمثلاً تجبر بعضهن على ارتداء ملابس ذات جودة رديئة تزيد من حرارة أجسادهن، لكن المهم أن تتناسب مع عادات وتقاليد أسرهن، وأخريات يضطررن إلى الطهو باستخدام الحطب في فصل الصيف الملتهب، كما يتعرضن لتمييز في استخدام مصادر التهوية.

تفصح الشابة سهى كامل (27 عاماً) عن شعورها بخجل شديد تجاه جسدها في حال ارتدائها ملابس مريحة ومناسبة لفصل الصيف، لكنها غير لائقة بالنسبة لعائلتها التي تصفها بالمحافظة جداً، وإن خرجت يفرض عليها ارتداء اللباس الشرعي "الجلباب"، لذا تفضل أن تقضي أغلب وقتها في غرفتها، مما يقيّد مشاركتها في أي أنشطة اجتماعية وعائلية صيفاً.

تقول لرصيف22: "زادت اضطرابات المناخ من أزماتنا كنساء إذ نعيش في مجتمع يغلب عليه الطابع المحافظ. على صعيدي الشخصي لا يمكنني أن أمارس أدنى حقوقي المتناسبة مع الظروف المناخية، فأواجه قيوداً على لباسي إذ يشترط أن أكون محتشمة حتى إن كنت في المنزل، كذلك في الحصول على وسائل التهوية مثل المراوح الكهربائية، فالأولوية لأشقائي الشباب، إذ إننا لا نمتلك سوى مروحة واحدة يسيطر عليها الذكور، وإن حاولت الحصول عليها خاصة فترة الليل تنشب مشاجرات بيننا وقد أتعرض لعنف إذا لم أنسحب دون نقاش".

تشعر سهى التي تعيش في منطقة خزاعة على الحدود الشرقية لقطاع غزة، بأنها فريسة للأوضاع المعيشية والاقتصادية وكذلك المناخية التي زادت من الأعباء المفروضة عليها والمتعلقة بدورها الاجتماعي في رعاية أسرتها، فإضافة للتمييز الذي تعاني منه، تضطر أحياناً إلى مساعدة والدتها في الطهو على فرن الطينة كبديل عن استخدام الغاز، كون عائلتها تعيش أوضاعاً معيشية صعبة، ما يزيد فرص اعتمادهم على بدائل الطاقة.

"كنساء غزيات نحن بحاجة لتمكين اقتصادي أولاً واجتماعي ثانياً وإيجاد بيئة تنصفنا، مما يجعلنا أكثر جهوزية وصموداً أمام الكوارث والأزمات، سواء كانت حروباً وحصاراً أو أزمات المناخ والفقر"، هذا ما طالبت به سهى كشابة تعيش في بقعة جغرافية محاصرة تظهر أزمة المناخ عليها بشكل واضح لا يمكن انكاره.

في أيام ارتفاع درجات الحرارة طلب مني أطفالي وزوجتي اصطحابهم للبحر، للحصول على نسمات هواء باردة والقليل من التنزه عوض الجلوس في المنزل طويلاً، فرفضت كوني لا أملك مالاً كافياً، ونشب بيننا خلاف حاد

وتتحدث دراسة صادرة عام 2022 عن مركز أطلس للبحوث والدراسات في غزة تحت عنوان "قطاع عزة وأزمة المناخ"، عن أن متوسط درجات الحرارة في فصل الصيف والفصول الانتقالية سيزيد في القطاع، كما أن الصيف سيطول على حساب الشتاء، وسيرتفع متوسط الحرارة بمقدار 1.5 درجة حتى العام 2050. ينبئ ذلك بمزيد من معاناة سكان القطاع في ظل تردي أوضاعهم المعيشية والبنية التحتية التي يملكونها.

تعزيز ثقافة العلاج النفسي

تقدم نور شمعة، المختصة بقضايا البيئة وعلاقاتها بالخدمة الاجتماعية، بعض النصائح لمواجهة أزمة المناخ وتداعياتها على الغزيين في ظل ارتفاع درجات الحرارة، ومنها ممارسة أنشطة مجتمعية كالرياضة والرسم والفنون الحرفية والموسيقى، فهي تساهم في حد كبير في التخلص من الطاقة السلبية والتوتر والقلق، خاصة لدى الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات تزداد مع درجات الحرارة، ذلك إلى جانب الإكثار من شرب المياه والخروج للبحر.

وتشير شمعة في حديثها مع رصيف22 إلى ضرورة تعزيز ثقافة الاستشارة أو العلاج النفسي بعيداً عن أي وصمة مجتمعية نمطية، في حال كان الشخص يعاني من اضطرابات معينة ناتجة عن ارتفاع درجات الحرارة.

وتدعو المؤسسات المجتمعية لتشكيل مبادرات لمواجهة أزمة المناخ، وتوعية المواطنين للتعامل معها دون تمييز بين فئات المجتمع، وتوفير الأمن الغذائي للعائلات الفقيرة، وتقديم إستراتيجيات لحماية النساء من العنف خاصة الناتج عن الاختلال في المناخ.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image