شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
وإن أعادوا لنا الأماكن والرفاق... فمن يعيد لنا الخريف؟

وإن أعادوا لنا الأماكن والرفاق... فمن يعيد لنا الخريف؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والبيئة

الأربعاء 6 سبتمبر 202312:32 م

"ليست الحياة ما عاشه المرء، بل ما يتذكره وكيف يتذكره، لكي يرويه"... جملة في صفحة ما قبل البداية، في مذكرات غابرييل غارسيا ماركيز، التي حملت عناوين كثيرة حسب مترجمها: "نعيشها لنرويها"، أو "نعيش لنروي".

الحقيقة أن الجملة وعناوين المذكرات، يمكن أن تعبّر بشكل تام عما أريد أن أفعله بحياتي، فكل ما أريده، أن يسنح لي الزمن بفرصة أن أحكي ما عشته من وجهة نظري، مجرد "بروفة صغيرة" لما قد يحصل في "يوم القيامة".

*****

أعتقد أنني لو أردت أن أعطي مخاوفي اسماً، لن يكون أشمل من "النسيان"، أخاف أن أنسى أسماء من أحب، ذكرياتهم معي، ذكرياتي معهم. أخاف أن تمر الأيام وأنسى بعض الحزن، فأخون الذكرى، بل قل إنني أخاف أيضاً، أن أنسى الذين يكرهونني والذين أساؤوا لي يوماً.

*****

الآن، تبدو ذكرياتي مشوشة، لا أعلم كيف كنت أسير في منتصف أيلول/ سبتمبر، أرتدي ملابس الشتاء، منذ زمن ليس بالبعيد، والآن أسير حتى بداية كانون الأول/ ديسمبر في الشوارع نفسها، بملابس صيفية!

أخشى أن تصير ذاكرتي في المستقبل، كذاكرة صناع الأعمال الدرامية والسينمائية، عن الناس في قلب القاهرة في السادس من أكتوبر 1973، الموافق للعاشر من رمضان، في الساعة الثانية ظهراً، يستمعون إلى خطاب العبور العظيم، بينما يتناولون المشروبات. رمضان تغير كثيراً عن زمان، أو أن المغرب كان مبكراً عن غروب الشمس!

يسكنني الخوف، وتهاجمني نوبات الذعر من فقدان الذكريات، حين أقرأ عن الاحتباس الحراري. بعد عدة أعوام سيتداخل الخريف والصيف والشتاء، ولماذا بعد عدة أعوام؟ منذ اللحظة أنا لا أستطيع تمييز سوى فصلين: الشتاء والصيف، ماذا سأفعل مع الأيام كي تحتفظ بذاكرتي كما هي؟

*****

صباحاً، كنا نمشي في مجموعات إلى المدرسة، بنات المنطقة، كنا سبع فتيات أم كنا خمساً؟ شارع واحد طويل. الآن في ذاكرتي هذا الشارع طويل جداً جداً، من النقطة التي انتظرهن فيها وحتى باب المدرسة الإعدادية كنا نستغرق 15 دقيقة سيراً على الأقدام.

نرتدي جميعاً "بلوفر" ثقيلاً أزرق، ومن تحته قميص المدرسة الأبيض، وبنطلوناً أو "جونلة" زرقاء، حذاءً أسود وجوارب بيضاء. كنا نتبع قواعد المدرسة الصارمة: لا ألوان مخالفة للزي الرسمي، لا هاتف محمول، لا لطلاء الأظافر. للمحجبات لونان للحجاب: أبيض وأزرق، ولغيرهن، فإن الشعر معقود على شكل ضفيرة أو ذيل حصان، مسموح بوضع "توك" بيضاء أو زرقاء.

"لا مجال للبهرجة... أنتن بنات في مدرسة محترمة وقدوة للمدارس الأخرى"، أتذكرها الآن بصوت مديرة المدرسة ذات الوجه العابس على الأغلب، والذي لا يضحك إلا لبعض الطالبات.

أذكر ملامح مديرة المدرسة ضبابية في رأسي، لكني أتذكر سمة مميزة: حاجبيها الرفيعين اللذين يأخذان شكل الرقم 88، إذا ما حاولت إحدانا العبور من الباب المخصص للمدرسين والوكلاء، أتذكر ملابسها وألوانها، لكن كل ما أتذكره تظلله سماء غائمة، لا تعرف الشمس.

أراجع صوري الفوتوغرافية الملتقطة في تلك المرحلة، فأشعر بالصقيع، وبالفراشات تسكن أمعائي.

أراجع صوري الفوتوغرافية الملتقطة في تلك المرحلة، فأشعر بالصقيع، وبالفراشات تسكن أمعائي، يختلط الخوف برائحة المطر في أنفي، وبدقات القلب المتسارعة إذا ما أعلنت القناة الأولى المصرية عن بدء الفقرة الرياضية في برنامجها "صباح الخير يا مصر".

كان ذلك يعني لي أنني أفوّت طابور الصباح، ما يعني أنني سأتلقى "كلمتين" في جانبي.

انتصاف أيلول/ سبتمبر كان يعني كوب اللبن الصباحي ذا القشرة السميكة الذي نشربه غصباً، وملعقة العسل الأسود والليمون، ويعني أيضاً الامتحانات والواجبات المتصلة، والحصص ذات الخمس وأربعين دقيقة.

*****

كان الصيف يبدأ في منزلنا، ومنازل أصدقائي، بانتهاء الامتحانات النهائية، تقريباً في منتصف أيار/ مايو، ولا أعرف كيف كنا نرتدي الملابس الشتوية حتى هذا الوقت!

في منزلنا، الذي كان يُنظر إليه باعتباره من منازل الطبقة المتوسطة العليا، أتذكر أننا حتى المرحلة الثانوية (انتهت بالنسبة لي في العام 2007)، لم نكن نملك إلا مروحة واحدة، تتنقل في المنزل نهاراً، أما ليلاً فلم نكن في حاجة إليها.

وكان ينظر لمنزلنا أيضاً باعتباره منزلاً حاراً، لكن كان يكفي أن نسكب بعض المياه على البلاط للمسح، لتصبح الشقة "جنة". لم تكن هناك فوضى المعطرات الرائجة حالياً، بل كانت روائح "الفنيك" (سائل مطهر يخلط بماء المسح) هي الأكثر رواجاً، وفي بيوت الطبقات الأقل كان "الجاز" (وقود السيارات الأجرة)، الذي كان رخيصاً بما يكفي، يحل محل الفنيك.

هناك روائح أخرى كانت تصاحب مسح البيت، رائحة النعناع الأخضر المغسول، والشبت والخضرة، والطعام في الفرن الطيني الذي ورثناه عن جدتي لأبي، والذي تخلينا عنه لاحقاً في مقابل الفرن الغاز.

كل هذه الروائح كانت في كفة، ورائحة الخبز في هذه الأفران، وصينية "كيكة" في كفة أخرى.

الآن، تبدو ذكرياتي مشوشة، لا أعلم كيف كنت أسير في منتصف أيلول/ سبتمبر، أرتدي ملابس الشتاء، منذ زمن ليس بالبعيد، والآن أسير حتى بداية كانون الأول/ ديسمبر في الشوارع نفسها، بملابس صيفية!

كنا ليلاً نتنسم الهواء العليل في هذا المنزل الحار، باتباع حيلة فتح النوافذ وباب الشقة (خاصية كانت متوافرة في بيوت العائلات، فما من غريب يمكنه الدخول ولا قريب سيصعد قبل أن ينادي). نجلس في هذه الأثناء نتناول البطيخ والعنب أمام مسرحيات سهرة الخميس في التليفزيون المصري.

*****

الآن صار التكييف في المدينة ذاتها من أولويات الزواج، إضافة لمراوح السقف ومروحة "ستاند" على أقل تقدير.

أما أنا التي رحلت إلى العاصمة قبل 4 سنوات، فحين أعود خلال زياراتي الخاطفة إلى المدينة لا أستطيع تحمل الحرارة المنبعثة من الأرضية "السراميك"ولا الجدران، وكأن منزلنا فرن مشتعل، لا تفلح معه محاولات سكب المياه لأنها تتبخر ولا نحتاج لمسحها، أو فتح الأبواب.

كان يكفي أن نسكب بعض المياه على البلاط للمسح، لتصبح الشقة "جنة".

*****

يسكنني الخوف، وتهاجمني نوبات الذعر من فقدان الذكريات، حين أقرأ عن الاحتباس الحراري. بعد عدة أعوام من الآن، سيتداخل الخريف والصيف والشتاء، ولماذا بعد عدة أعوام؟ منذ اللحظة أنا لا أستطيع تمييز سوى فصلين: الشتاء والصيف، ماذا سأفعل مع الأيام كي تحتفظ بذاكرتي كما هي؟

هذا الحنين بداخلي إلى الأيام، كانت تحمله نسمة خريف معتدلة، أو تفتح زهرة بعينها، فيحملانني في ثوانٍ كما آلة الزمن، إلى مكان غير المكان وزمان غير الزمان.

ليلة عاصفة في آذار/ مارس، ويوم ممطر في أيار/ مايو يجلب الذباب، كما يصفه أهل مدينتي الصغيرة، وثلوج كانون الأول/ ديسمبر، كلها تبدلت وصارت الشمس والعواصف محلها.

كنت أرى الحزن في مقولة "وإن أعادوا لنا الأماكن، فمن يعيد لنا الرفاق؟"، والآن أتساءل: وإن أعادوا لنا الأماكن والرفاق، فمن يعيد لنا الخريف؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما أحوجنا اليوم إلى الثقافة البيئية

نفخر بكوننا من المؤسّسات العربية القليلة الرائدة في ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺇﺫﻛﺎﺀ ﺍﻟﻮﻋﻲ البيئيّ. وبالرغم من البلادة التي قد تُشعرنا فيها القضايا المناخيّة، لكنّنا في رصيف22 مصرّون على التحدث عنها. فنحن ببساطةٍ نطمح إلى غدٍ أفضل. فلا مستقبل لنا ولمنطقتنا العربية إذا اجتاحها كابوس الأرض اليباب، وصارت جدباء لا ماء فيها ولا خضرة.

Website by WhiteBeard