أرسل لي أحد أصدقائي اليوم رسالة يعتذر فيها عن تأخّره في الرد على رسالتي صباحاً، موضحاً بأنه كان يتعرّض للضرب في أحد مكاتب الشهر العقاري، أثناء توجهه لعمل توكيل للمرشح الرئاسي المحتمل أحمد الطنطاوي، (ولم يكن الأخير ممن أخبروني بهذا الأمر نفسه) أعتقد أنه ولسبب ما، لم تتوقّع اللجنة الوطنية وقت إعلان مواعيد الانتخابات الرئاسية القادمة أن يبدأ بعض المواطنين في مباشرة أبسط حقوقهم الدستورية، وكأنها مفاجأة ثقيلة، أفقدتهم النطق والقدرة على التصرف، أغلب مكاتب الشهر العقاري ردت على طلبات عمل التوكيلات بالرفض أو التباطؤ وتعطيل الإجراءات، بل ووصلت في الكثير من الأحيان إلى الاعتداء بالضرب على المواطنين، شعرت بالأسف على ما حدث وما زال يحدث لأصدقائي، وكل المؤمنين بوجود بصيص من الأمل في آخر النفق، يأتي لنا بشيء من الحرية المدنية أو الاستقرار السياسي، لا لأنهم يؤمنون، بل لأنهم معرّضون للموت ألف مرة، في كل مرّة يقرّرون فيها أخذ خطوة في سبيل تحقيق أبسط حقوقهم.
خلال الأيام القليلة السابقة، وبينما تحرك أصدقائي لعمل التوكيلات، بقيت ساكنة في مكاني، أتأمل ما يحدث في صمت مطبق، تدور الأفكار في رأسي، تتحوّل لصور متحركة في كوابيسي، أستيقظ وأفكّر مرة أخرى، تتطوّر لتصبح بيانات أو معادلات لا أرى لها حلاً. أول ما أراه في كوابيسي هو نهاية الانتخابات وقد حسمت لصالح الرئيس الحالي، حكم بالتمديد لست سنوات أخرى، لا لأنه سيربح الانتخابات مكتسحاً بنزاهة وشرف، لكن لأن التزوير الانتخابي هواية مفضلة لحكومتنا.
أول ما أراه في كوابيسي هو نهاية الانتخابات وقد حسمت لصالح الرئيس الحالي، حكم بالتمديد لست سنوات أخرى، لا لأنه سيربح الانتخابات مكتسحاً بنزاهة وشرف، لكن لأن التزوير الانتخابي هواية مفضلة لحكومتنا
وبالفعل تم أخذ بطاقات بعض الموظفين الحكوميين قسراً لعمل توكيلات للسيسي، أحاول تبسيط عناصر الكابوس ليُطرح على الطاولة كفكرة أو عدة أفكار، لماذا أخاف من فكرة التمديد؟ أردّ على نفسي بأن ناتج جمع الأضرار التي أصابت مصر، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، خلال ما يزيد عن الخمسين عاماً من حكم العسكر المتحول للمدنية، بدءاً بعبد الناصر وانتهاء بحسني مبارك، لا يساوي نصف ما سبّبه السيسي وحكومته، ولا أستطيع تخيل أن تصبح حياتي في السنوات الست القادمة، عبارة عن محاولات فاشلة للوصول لأبسط مستوى من مستويات المحاولة للنجاة في هذه الحياة.
كم أتمنى ألا تشبه الليلة البارحة
في وقت لاحق من اليوم، وبينما كنت أنتظر سيارة تقلني، استوقف أحد أمناء الشرطة عشوائياً شاباً مرّ من أمامه، مهندماً، مرتباً بقميص ابيض وبنطلون كحلي، يرتدي نظارات دائرية العدسات، أرى آلافاً منه كل يوم، الفارق الوحيد أنه اختير دوناً عن كل هؤلاء، ليُسأل عما يفعله في حياته، من أين أتى، وأين سيذهب؟ ولماذا كان هناك أصلاً؟
تلقى الشاب المرتبك كل هذه الأسئلة في مدة لا تتعدّى الدقيقتين، وصلت سيارتي وأنا أشعر بالأسف مرة أخرى، هل تركه مخبر الشرطة يمر بسلام نسبي، أو انتهى به الأمر في أحد الأقسام؟ لا أستطيع تذكّر عدد المرات التي رأيت فيها هذا الموقف خلال الشهور الأخيرة، لكن أستطيع القول بأن خلايا ذاكرتي احترقت من تخزين هذه المشاهد.
تسترجع ذاكرتي المرهقة موقفاً بعينه، فيه أنا وجدتي وأمي وأخوتي نمشي في أحد الشوارع، أيام ثورة 25 يناير/ كانون الثاني، لتتركنا جدتي فجأة متجهة إلى وقفة احتجاجية لا تتعدّى الأربعين شخصاً، تهتف لمبارك بألا يرحل.
ذهبت جدتي تهتف وعادت إلينا وهي مازالت تهتف: "تحيا مصر، يحيا يحيا حسني مبارك". استغربت أمي وسألتها: "لم يمرّ أسبوع على تشجيعك للثورة، و اعتراضك على ما خربه مبارك وحكومته"، لتجيب جدتي: "ده كان الاسبوع اللي فات، بصي حواليكي دلوقتي، كل من هب ودب هيطمع، أنا نادراها لو لقيت وقفة أقف لمبارك. حرامي نعرفه أحسن من حرامي يتمرّع علينا، يسرق عشان يغتني مش عشان عارف قيمة السريقة".
في الحقيقة يمكن القول بأن هذا هو الفارق بين حكومة المخلوع حسني مبارك وحكومة السيسي، أعضاء "الشلة" السابقة كانوا مجموعة لصوص محترفين، كان لديهم نص، أدركوا حقيقة وجودهم على المسرح، وضرورة وجود المشاهدين، عرض مسرحي صدّق فيه الممثلون أنفسهم، ليوقظهم المشاهدون بحقيقة أن لولاهم لما كان هنالك صالة، أو صاحبها وعروضه، أو حتى عدة كراسي يتراقص عليها الممثلون.
في هذه اللحظة، وبعد مرور ما يقارب عشر سنوات منذ بدء فترته الأولى، بات من الواضح أن حكومة السيسي ترتجل لإيجاد حلول هدفها التخدير المؤقت، و أحياناً لا يدوم الحل حتى عدة أيام لتنتج كارثة جديدة، أو الحلول نفسها عقد من الكوارث المتسلسلة. أحد مساوئ الارتجال هو صعوبة توقع الخطوة التالية، فتضطر للمواكبة مهما كانت الظروف.
في حالتنا هذه علينا دائماً توقع الأسوأ، والحق يقال، لربما كان الهدف أو النية من كل تلك الارتجالات السياسية والاقتصادية إنقاذ المشهد، لكن مع الأسف، دائماً ما كانت النتيجة "إفيه"، فما يحدث الآن من اعتداء صريح على الحقوق المدنية والسياسية والإنسانية، وعدم وجود هيئات رقابية على هيئات أخرى تنظم وتراقب هذه الانتهاكات، هو نتيجة مؤسفة ومتوقعة لما تمّ من تشويه للدستور بيد السلطة في عام 2019، فبعد أن تم تعديل المواد رقم (185) الخاصة باستقلال الهيئات القضائية و(189) الخاصة بالنيابة العامة و(193) الخاصة بالمحكمة الدستورية، مُنح رئيس الجمهورية الحق في اختيار رؤساء الجهات القضائية والنيابية، بعد أن كان قرار الرئيس في هذه التعيينات إجرائياً فقط.
في أغسطس/آب الماضي، صدر قرار بتعيين رئيس محكمة النقض، ولما وجد رئيس الجمهورية أن الإطارات القانونية الموضوعة من قبل، أو حتى تلك التي وضعها بنفسه، لا تكفي، قرّر الارتجال: قاضي ثامن من خارج الدائرة المقترحة المكونة من خمسة مرشحين من أقدم سبع قضاة، يتم منحه أعلى منصب لواحدة من أعلى ثلاث سلطات قضائية في البلاد، لتكتمل عملية اغتيال مبدأ الفصل بين السلطات.
في لحظة من الأمل بإمكانية الاعتراض على أي مما يحدث، أخذ المحامي الحقوقي ناصر أمين خطوة بالطعن على قرار تعيين القاضي المختار، موضحاً بدعواه أن قرار التعيين يعد انتهاكاً دستورياً صريحاً، لتقرّر المحكمة رفض الطعن، وليتضح مدى فساد السلطة القضائية والهيئة التشريعية، جنباً إلى جنب مع السلطة الإدارية والتنفيذية.
وكل هذا الفساد ليس بغريب عن سمعة الحكومات المصرية المختلفة عبر التاريخ، لكن ربما فضّلت الحكومات المصرية السابقة أن تخفيه عن أعين الجمهور، في حين نجد أن الحكومة الحالية تتبجّح في فرض سلطتها على نفس الجمهور، لماذا قد يهم هذا الآن تحديداً؟ لأن آفة حارتنا النسيان، وإن كان قد مرّ وقت بالفعل على إصدار كل هذه التعديلات والقرارات، لكن من المهم أن نتذكر، لربما كان هناك أمل في منع حدوث المزيد منها وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
هل يُحَلّ الموقف؟ أم يُحَلّ وِسطِنَا؟
ما الحل؟ كانت إجابة جدتي الأسرع في كل مرة نصل فيها لطريق مسدود في حوارنا هي "جكك حلّ وسطك"، لتزيد إجابتها أسئلتي: كيف يحلّ وسطي الموضوع؟ أترانا نتحدث عن نفس الحل؟
الآن فقط أدركت الفارق بين الحلّ الذي أردته والحل الذي قصدته جدتي، بل أكاد أجزم أني أستطيع الشعور بحلّ الوسط هذا، ليس في "وسطي" فقط، لكن أيضا في تفكك خلايا مخي أثناء تفكيرها المستمر في حلول قد تنقذنا، طريقة للهروب أو للخلاص، لا لأنها قد تهم أي شخص على الكوكب، بل لأني أحاول رؤية هذا البصيص الذي رآه الآخرون .
هتفت جدتي: "يحيا حسني مبارك". استغربت أمي وسألتها: "لم يمر أسبوع على تشجيعك للثورة"، لتجيب جدتي: "ده كان الاسبوع اللي فات، أنا نادراها لو لقيت وقفة أقف لمبارك. حرامي نعرفه أحسن من فلاح يتمرّع علينا، يسرق عشان يغتني مش عشان عارف قيمة السريقة"
المادة رقم 159 تنص على إمكانية اتهام رئيس الجمهورية بانتهاك أحكام الدستور، أو بالخيانة العظمى، أو أية جناية أخرى، بناء على طلب موقع من أغلبية أعضاء مجلس النواب على الأقل، ولا يصدر قرار الاتهام إلا بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس -بالطبع في حالتنا لا يهم إن كان ثلثا الأعضاء موافقين أم لا- وبعد تحقيق يجريه معه النائب العام يحاكم رئيس الجمهورية أمام محكمة خاصة يرأسها رئيس مجلس القضاء الأعلى، وعضوية أقدم نائب لرئيس المحكمة الدستورية العليا، وأقدم نائب لرئيس مجلس الدولة، وأقدم رئيسين بمحاكم الاستئناف -الذي تم اختيارهم جميعاً من قِبل رئيس الجمهورية- وبما أنه قد تم انتهاك المادة رقم 184 التي تنص على استقلال السلطة القضائية فمن المستبعد جداً أن يتم سحب الثقة من رئيس الجمهورية، حتى وإن قام علانية بانتهاك عدد ليس بالقليل من المواد الدستورية والحقوق السياسية والمدنية، وحتى إذا افترضنا سحب الثقة من الرئيس فهل تكون المحاكمة فعلا عادلة للشعب، باعتبار أن الهيئة القضائية كلها ستكون في محل محاكمة ولي نعمتهم؟
آمنت جدتي بأن مهما حدث فمصر محفوظة ومحروسة وفي أسوأ الأحوال سيتدخل الجيش المكون من أبنائنا وإخواننا ليحمينا من بطش السلطة إذا انتهكت حقوقنا، ماذا إذا كان الجيش يتعاون مع الحكومة على قمع الشعب، من ينقذنا حينها؟
والسؤال الأهم، لماذا لا نستطيع الإيمان بقوتنا في إصلاح ما تم تخريبه؟ لماذا ننتظر دائما التدخل الداخلي أو الخارجي لإنقاذنا؟ لماذا لا يحق لنا اختيار الرئيس القادم؟ ما هو اتجاه سياسة السلطة المصرية الحالية؟ هل تنتهي شخصنة القوانين؟ ما الذي قد يحد من كل هذه الانتهاكات المتتالية والمتوالية لكل القوانين، الدولية منها والمحلية؟
للأسف لم تعش جدتي كفاية لترى ما جرى لنا أو لتجيب عن أسئلتي. وتعود ذاكرتي المفككة مرة أخرى لتعرض ومضات من 2010 وما تلاها من ثورات، الفارق هنا أننا لا نستطيع تحمل الكلفة الاقتصادية والاجتماعية لقيام ثورة أخرى في هذا الوقت تحديداً، فهل يا ترى ترضخ حكومة السيسي أخيراً وتعترف بفشلها الذريع في إدارة الدولة؟ هل تتركنا نختار بحرية و نعيش ما تبقى لنا من سنوات في سلام؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع