كانت الساحة أمام السرايا الحكومية في شارع رياض الصلح وسط العاصمة بيروت، شبه خالية. لا يوجد سوى عدة أشخاص ينتظرون ريثما يتم التجمع بشكل أكبر لانطلاق مسيرة الحقوق والحريات التي دعت إليها بعض الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، بينما على الطريق الواصل من الساحة إلى السرايا يجول عدد من الشبان على الدراجات النارية.
بدأ الصحافيون يتوجهون إلى ساحة الاعتصام، وسط طوق أمني من قبل شرطة مجلس النواب وقوى الأمن الداخلي لتطويق مداخل الطرق المؤدية للسرايا. مكان التجمّع مسيّج بالحواجز الحديدية. وصل الصحافيون وعددهم أكبر من منظمي المسيرة، لحظة عبوري الحاجز، أوقفني ضابط في قوى الأمن يطلب مني التعريف عن نفسي فعرفت بأني صحافي مستقل أكتب لـرصيف22. نظر إلي مع ضحكة فيها الكثير من السخرية وقال: "عقبال ما تصير شارع"، وأكمل: "شو بيضمنلي منك فايت تعتدي على المسيرة".
بداية القصة
قبل المسيرة بأيام، بدأت الدعوات على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل رجال الدين بينهم الشيخ حسن مرعب، للتحريض على مسيرة الحريات، حيث غرد على منصة إكس داعياً إلى "محاربة الدعوات المشبوهة لجماعة الشذوذ الجنسي، تحت مسمى الدفاع عن الحريات في لبنان"، وأنه "لا يحمل مسؤولية ما يمكن أن يحصل في الشارع"، في حال لم يتم إيقاف المسيرة. مرعب خرج أيضاً خلال انطلاق المسيرة بتصريحات مصوّرة معلناً فيها التعاون مع جنود الرب وحزب الله لمواجهة ما يسميه "الشذوذ الجنسي".
قبل مرعب، كانت جريدة الأخبار قد نشرت يوم الثلاثاء في 26 أيلول/ سبتمبر الماضي، أن عدداً من المنظمات "المموّلة من الملياردير الأمريكي جورج سوروس، تحضر لسلسلة نشاطات وتحرّكات دفاعاً عن المثلية الجنسية تحت شعار الدفاع عن الحريات والحقوق"، لتبدأ حملات على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل ما يسمى "اتحاد شبيبة لبنان" و"الجبهة الوطنية لمقاومة الشذوذ"، فوصلت الدراجات النارية من طريق الجديدة والكولا إلى ساحة رياض الصلح والسراي الحكومي، ثم توجه أيضاً بعض أنصار حزب الله من الضاحية الجنوبية، وجماعة "جنود الرب" نحو مكان المسيرة.
لحظة عبوري الحاجز، أوقفني ضابط في قوى الأمن يطلب مني التعريف عن نفسي فعرفت بأني صحافي مستقل أكتب لـرصيف22. نظر إلي مع ضحكة فيها الكثير من السخرية وقال: "عقبال ما تصير شارع"، وأكمل: "شو بيضمنلي منك فايت تعتدي على المسيرة"
أمام السرايا تجمع الصحافيون من وسائل إعلامية مختلفة لتغطية الحدث. أيضاً، تجمهر المتظاهرون الرافضون لمسيرة الحريات على دراجاتهم النارية أمام المدخل الرئيسي للسرايا عند حاجز قوى الأمن، وبدأت أولى المناوشات مع الناشطة النسوية حياة مرشاد، إذا قاموا بشتمها ثم التعدي عليها بالضرب، وسط هتافات تدعو لـ"الاغتصاب" متبوعة بتكبيرات، واستمرّ الأمر على هذا الحال حوالي نصف ساعة، والمسيرة التي كان مقرراً أن تتجه نحو وزرارة الداخلية في الصنائع، انتهت بأرضها. أساساً، من أتى غير الصحافيين، يعدوا على أصابع اليد.
انتهت المسيرة بتلاوة بيان سلّط الضوء على إلغاء قوانين التحقير والقدح والذم التي تقيد الحريات في لبنان، والدعوة لحرية الدين والمعتقد والحرية السياسية، إذ "يشهد لبنان في الآونة الأخيرة قمعاً ممنهجاً وغير مسبوق لحرية الرأي والتعبير من قبل السلطة" إضافة لتزايد استدعاءات التحقيق بجرائم القدح والذم والتحقير بوجه الناشطين والصحافيين، على خلفية منشورات تسلط الضوء على فساد المنظومة الحاكمة وتطالب بالمساءلة أو بسبب محتوى ينتقد السلطات الدينية والسياسية والأمنية، ولم يسلم الفن والثقافة والعلم من رهاب التنوع الفكري، وأبدعت النيابة العامة بملاحقة الأساتذة والفنانين والمسرحيين والكوميديين فخفت المسرح والسينما".
لحظات الاقتحام
على أساس أن الأمور انتهت، والمسيرة لم تحصل، والبيان اليتيم صدر. فبدأ الصحافيون بالتجهيز للخروج من الساحة، إلا أن المتظاهرين تجمّعوا وأغلقوا المداخل الثلاثة بالدراجات النارية، وحاصروا كل من في المكان حاملين بأيديهم الأسلحة البيضاء والعصي، فيما كانت شرطة المجلس وقوى الأمن تقف فقط عند الحاجز الرئيس للسرايا، ليبدأ المعترضون على المسيرة بمحاولات منع الصحافيين من الخروج والتهجم عليهم بعبارات مسيئة. كان واضحاً أنهم يريدون الاعتداء على كل المتواجدين في المكان. على وجوههم بدت علامات الحقد والغضب. أتوا إلى المكان وكأنهم مشرّبون كماً من العدائية تجعلهم يدمرون كُل شيء في طريقهم.
وللدراجات والمعترضين قادة "أوركسترا"، توجيهات تأتيهم من شخص يدعى "بكر" من طريق الجديدة وآخر يُدعى "الإيراني"، من الضاحية الجنوبية لبيروت، وشخص ثالث كان يشتم عند الحاجز من أنصار جنود الرب لم يُعرف اسمه. أي صحافي أو ناشط كان سيحاول الخروج من المكان، يعرف أن في انتظاره من يريد ضربه. من يريد أن يُفرغ كل هذا الكم من الغضب، بأناس كُل كما فعلوه أنهم يريدون رفع الصوت ضد الدولة القمعية.
اللافت أيضاً أن قوى الأمن وشرطة مجلس النواب الذي يرأسه نبيه بري لم تحرك ساكناً. كان أغلب العناصر يضحكون على الشتائم وكأنهم يتهيأون لمشاهدة الاعتداءات المتوالية، ثم اعتدوا هم أيضاً على أحد الصحافيين بالضرب، وسط منع المتبقين من التصوير والتغطية بعد حصار دام لقرابة الساعة، حيث ناشدت وسائل الإعلام المحاصرة داخل الساحة وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال بسام مولوي لإخراج الصحفيين والناشطين وإرسال دعم أكثر للمؤازرة، لكن الأمر لم يجد نفعاً.
حاصرونا أمام أعين القوى الأمنية، أحدهم أخرج سكيناً وقال لي تعال، أردنا محاورتهم وأننا لسنا سوى صحافيين، لكن كان هناك من يتحدث على صوت عالٍ أمام قوى الأمن، ويشير نحوي ويقول: "نريدك أنت"
بعد دقائق، ومع ازدياد وتيرة الاعتداءات والضرب والتهجم، وصلت آليات تابعة لقوى الأمن لنقل الصحافيين والناشطين خارج المكان. في هذه اللحظة وقبل تأمين الجميع داخل الآليات، فتحت شرطة المجلس الحواجز الحديدة فاقتحم المتظاهرون المتشددون الساحة وانهالوا بالضرب على كل المتواجدين، حيث اعتدوا على أحد الناشطين وأصيب بكسور في وجهه وعلى مصور آخر انهالوا عليه بالضرب المبرح ليسقط حوالي 7 جرحى من الصحفيين والناشطين.
محاولة الهروب
مشهد الساحة بات مرعباً، المتظاهرون المتشددون سيطروا على الساحة وانهالوا بالضرب على الجميع، حيث تجمعوا بالمئات حول الآليات ومنعوها من الخروج، في هذه اللحظة حاولت الدخول إلى إحدى الآليات، لكن الضابط الذي قابلته في البداية قال: "إنت رصيف"، في إشارة منه إلى الجهة التي أكتب لها، وأضاف: "هروب على المدخل التاني ما فيك تطلع بالآليات".
توجهت أنا وزميلة من المفكرة القانونية، نحو المدخل الغربي للمجلس، كان هناك شبان من المتظاهرين ينتظروننا عند حاجز شرطة المجلس، لحظة الخوف هنا لا أستطع وصفها، بدأوا بالسب والشتم، حاصرونا أمام أعين القوى الأمنية، أحدهم أخرج سكيناً وقال لي تعال، وقوى الأمن تقف مكتوفة الأيدي، أردنا محاورتهم وأننا لسنا سوى صحافيين، لكن كان هناك من يتحدث على صوت عالٍ أمام قوى الأمن، ويشير نحوي ويقول: "نريدك أنت وحدك".
أحد المتظاهرين دخل من مدخل آخر وانهال عليّ بالضرب المبرح بعصا خشبية. لم يكتف بل بدأ بالشتم والضرب مراراً لتقف بوجهه زميلتي، ثم يتدخل زعيمهم "بكر" ويطلب من قوى الأمن وشرطة المجلس تسليمنا إلى المتظاهرين، بحجة أن يتركوننا وشأننا كي نخرج إلى السيارة، وهذا ما حصل، فبدأوا مرّة أخرى بضربنا حتى صعدنا السيارة. اعتقدنا أننا نجونا. لكنّهم لم يكتفوا. خلفنا أربع درجات نارية تطاردنا في أزقة بيروت. حطموا زجاج السيارة الخلفي، حتى وصلنا إلى طريق المطار عند أول حاجز للجيش اللبناني.
إلى العالم الافتراضي
لم ينته الأمر على الأرض في ساحة رياض الصلح فقط، فبعد نقل العديد من الصحافيين والناشطين إلى مستشفى الروم في بيروت للعلاج، كان هناك حملة على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل الأشخاص ذاتهم بعد الفشل في ملاحقتهم بين أزقة بيروت لساعات، حيث انتشرت حملة خطاب كراهية وتحريض على القتل على وسائل التواصل الاجتماعي حملت هاشتاغ "لا للشذوذ الجنسي"، مرفقة بصور للصحافيين الذي تواجدوا لتغطية الحدث، في هجمة ممنهجة أيضاً على وسائل الإعلام، وانتهت بتبريكات رجال دين من طريق الجديدة بينهم رجل الدين "حسن مرعب" الذي قال: "سلمت الأيادي".
أيضاً، كان التحريض في أوجه من قبل وسائل إعلام تابعة لحزب الله، وحملات ترهيب من قبل ناشطين مؤيدين للحزب وآخرين تابعين لـ"جنود الرب"، حيث خرج عبد العزيز طرطوسي" الذي يسمي نفسه بأنه متزعم ميليشيا "جنود الفيحاء" في كما شمال لبنان، متشكراً أبناء طريق الجديدة في بيروت الذين أوقفوا مسيرة ما أسماه "الشذوذ الجنسي"، عاداً بالأسماء من قادوا تلك الحملة التحريضية، وهم "أبو بكر"، الإيراني، حسام البغدادي، عفيف شميطلي، وربيع العراب، واصفاً عملهم بالموقف الرجولي.
قمع الحريات
مشاهد السبت وما حصل من اعتداء على الحريات، كان مخططاً له ومدبراً بهدف محاربة واسكات كل من يطالب بالحقوق والحريات في لبنان، بحجة محاربة "الشذوذ"، وهو ليس إلا تجسيداً للمعركة التي أطلقها زعيم حزب الله حسن نصرالله في 24 تموز/ يوليو 2023 مستغلاً مناسبة عاشوراء لمحاربة مجتمع الميم-عين بشتى الوسائل داعياً المجتمع السني والمسيحي إلى نبذهم، محللاً قتلهم.
أتخيّل وجوه الحاقدين الذين تركوا كل ما يعانونه، وأتوا يفرغون ما تراكم لديهم من أسى، في مجموعة من الناس، تريد الحرية وتريد المحاسبة، وتحاول بلحمها الحي أن تقول لا. أو على الأقل أن تحافظ على حق اللبنانيين في قول لا
دعوة نصرالله باتت حجة جاهزة تُقدم لمحاربة أي مطالب حقوقية في لبنان وسط تزايد ملاحقة الصحفيين والحقوقيين واقتيادهم للتحقيق بحجة القدح والذم، على مستوى القمع السلطوي، إذ لاقت تجاوباً سنياً من قبل ما يسمى جنود الفيحاء، وشيعياً من قبل أنصار الحزب، ومسيحياً من قبل "جنود الرب"، لمحاربة أي مطلب حقوقي بحجة الخوف الذي سيدخل منازلهم وهو "الشذوذ الجنسي" كما وصفوه.
ومحاربة "الشذوذ"، بات الشعار الجاهز لمحاربة أي تجمع أو مطلب ينادي بالحرية سواء للمعتقد أو الدين أو السياسة والفكر، وهذا الواقع نجح في فرضه مع الوقت زعماء السلطة لشد العصب الطائفي والمذهبي بوجه هذه المطالب، إضافة لصرف النظر عن الانهيار الحاصل في لبنان وعن سنوات من فساد وسرقات بمليارات الدولارات.
انتهى يوم السبت. كانت تجربة لم أعتقد أنني سأعيشها في تظاهرة تطالب بالحريات وبصفتي صحافي. خرجت من الساحة إلى بيتي، أحاول أن أستوعب الذي جرى. أتخيّل وجوه الحاقدين الذين تركوا كل ما يعانونه، وأتوا يفرغون ما تراكم لديهم من أسى، في مجموعة من الناس، تريد الحرية وتريد المحاسبة، وتحاول بلحمها الحي أن تقول لا. أو على الأقل أن تحافظ على حق اللبنانيين في قول لا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...