هذا التقرير أُنتج بدعم من منظمة Civil Rights Defenders.
خلال احتجاجات 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وبعدها، تعززت صياغة خطاب حقوقي في البلد عماده عبارة: "القضايا لا تتجزأ"، من قضايا العمال إلى المحاكم الدينية والأحوال الشخصية، وصولاً إلى حقوق النساء، والمثليين، واللاجئين، والعدالة الاجتماعية. لكن الأمور مع الوقت بدأت تأخذ منحى مغايراً، فخفت الخطاب الحقوقي لصالح خطاب الكراهية، وموجات التحريض المستمرة في حق العديد من الفئات المهمّشة وغيرها.
مؤخراً، شهد البلد المأزوم موجة تحريض ضد اللاجئين السوريين أفرزت تضييقاً متصاعداً ضدهم، وقبلها وبعدها حملات كثيرةً ضد أفراد مجتمع الميم-عين، تتوالى فصولها منذ عام ونيف فيما تستمر الاعتقالات والملاحقات الأمنية في قضايا الرأي والتعبير. ووسط قوة أدوات التحريض، وثقل المتورطين فيها، نرى ونتابع تخبطاً ملحميّاً يعيشه نواب كثر، لعل أبرزهم بعض من طرحوا أنفسهم ممثلين لـ"17 تشرين" وخطابها الحقوقي في مختلف القضايا. وقد انتقينا هاتين القضيتين لسبب بسيط، هو أن خطاب السلطة فيها هو الأشرس، وخطاب معارضيها هنا هو الأخفت، حيث يخاف كثيرون الاقتراب منها.
يعود هذا الخوف جزئيّاً إلى حملات الترهيب التي ترعاها السلطة السياسية والدينية ضد من يقترب من هذه القضايا، والتي قد تصل إلى حد التكفير والتخوين والنبذ من الطائفة.
دوافع الخوف والبيئة القاسية
وسط صمت مطبق من سياسيي البلد ونوابه، عدا قلة خجولة من نواب قوى "التغيير"، تُهدّد مجموعة تطلق على نفسها اسم "جنود الفيحاء" الكوميديّ نور حجّار بالقتل علنًا هذه الأيام، وهو الذي حُقِق معه واعتقل على خلفية دعوى من دار الفتوى بسبب نكتة مجتزأة من عرض قدمه قبل سنوات. وقبل أسبوع، اعتدت مجموعة "جنود الرب" على مقهى "أم بار روم" في مار مخايل، وهو مقهى صديق لأفراد مجتمع الميم-عين، وضُرب بعض رواده بعد أن حاصرتهم لمدة ساعة، بحضور القوى الأمنية التي لعبت دور المتفرجة الراضية بما يحصل، دون أي تحرك رسمي لملاحقة المعتدين أو مساءلة النواب للوزارات المعنية، عن تقصيرها في هذا الملف.
على ضوء تصاعد الخطاب التحريضي ضد اللاجئين السوريين في لبنان، على ألسنة مسؤولي النظام السياسي القائم في البلاد ووجوهه، وثّق تقرير لهيومن رايتس ووتش في تموز/ يوليو الماضي، ترحيل الجيش اللبناني آلاف السوريين بإجراءات موجزة، وبينهم أطفال غير مصحوبين ومنفصلون عن ذويهم، كاشفاً عن أن "السوريين يعيشون في لبنان في خوف دائم من إمكانية اعتقالهم وإعادتهم إلى ظروف مروعة، بغض النظر عن وضعهم كلاجئين".
ومرت هذه الموجة، التي لا يزال يعيش السوريون في لبنان تبعاتها المستمرة، دون أي تحرك جدي في مواجهتها من الشخصيات التي ترفع لواء معارضة هذا النظام. لقد "أكل القط لسانهم".
يتم التركيز على النواب الـ12 الذين فازوا في انتخابات 2022، فيما خص دفاعهم عن الحريات العامة، لسبب بسيط، هو أنهم ترشحوا تحت عنوان واضح: "التغيير"
كذلك، انطلقت حملة التحريض ضد أفراد مجتمع الميم-عين، في حزيران/ يونيو 2022، بموقف لمفتي الجمهورية اللبنانية عبد اللطيف دريان، تبعه قرار لوزير الداخلية بسام المولوي، يقضي بمنع التجمعات المعنية بقضيتهم، وهي حملة تصاعدت وخفتت قبل أن يتوّجها الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، بخطاب عاشورائي في أواخر تموز/ يوليو 2023، خصصه للقضية، كانت خلاصته "مواجهةً دون سقف" مع المثليين، مؤكداً أن الفرد "في حالة اللواط من المرة الأولى، وحتى لو كان عزباً، يُقتل". أمر عمليات تلقفه أركان النظام اللبناني، وتكرر معناه في اجتماع وزاري في مقر البطريركية المارونية، ومواقف بالجملة عبّر عنها رئيس الوزراء نجيب ميقاتي ووزير الثقافة محمد مرتضى، ونواب ورجال دين من مختلف الطوائف.
خلال موجة التحريض الأخيرة ضد المثليين، تراجع النائب اللبناني أديب عبد المسيح، عن اقتراح قانون يقضي بإلغاء المادة 543 من قانون العقوبات اللبنانية، التي تُستخدم لتجريم العلاقات المثلية، قائلاً: "أسحب توقيعي وأنا أرفض أيّة دعوة لممارسة أو ترويج الشّذوذ الجنسي". بالتزامن، كان النائب السابق سامي فتفت، وبعد موقف تلفزيوني شجاع وواضح دعا فيه إلى تقبّل المثليين في المجتمع، رافضاً أي مسّ بهم، يُصدر بياناً تبريرياً إلى حدود التراجع، تحت ضغط حملة تنديد بمواقفه وصلت إلى حد تهديده في حال زيارته مدينة طرابلس. كذلك، حُكي عن طرد للنائب مارك ضو من مدينة الشويفات خلال تقديمه واجب عزاء بسبب مواقف تدعم عدم تجريم أفراد مجتمع الميم-عين.
وعلى ضفة النواب الـ12 الذين فازوا في انتخابات 2022 عن لوائح "التغيير"، لم تُرصد سوى مواقف للنواب حليمة القعقور، بولا يعقوبيان، سينتيا زرازير ومارك ضو، تراوحت بين رفض خطاب نصر الله ورفض تجريم المثلية، فيما يستمر صمت 8 آخرين. ويتم التركيز على مواقف هؤلاء النواب لسبب بسيط، هو أنهم ترشحوا على هذه اللوائح وتحت هذا العنوان تحديداً: "التغيير".
وبسبب قلة المواقف، يصعب تبيان الآراء الحقيقية للنواب الـ12 الذين وصلوا تحت ضغط حملة إعلامية تقدمهم كممثلين عن انتفاضة 17 تشرين، لكن النائب وضاح الصادق أعلن صراحة قبيل انتخابه أنه "شخصيا ضدّ إظهار المثلية"، بدوره النائب ياسين ياسين أعلن رفضه للزواج المدني وأي تشريع يناقض الشريعة الإسلامية، فيما أحد الفائزين عن هذه اللوائح، حيدر ناصر، تبين أنه في موقع سياسي آخر من الأساس. ومؤخراً، قدّم النائب الياس جرادة اقتراح قانون لإعادة النازحين السوريين قسراً إلى سوريا أو إلزام الأمم المتحدة بتوطينهم في بلد ثالث. وبالتالي، أن الاعتقاد بأن كل الفائزين على هذه اللوائح يؤمنون بالخطاب الحقوقي الشامل لـ17 تشرين، كما قدموا أنفسهم قبيل انتخابات 2022، ليس دقيقًا.
خلال إعداد هذا التقرير، تواصلنا مع عدد من هؤلاء النوّاب الذين التزموا الصمت في ظل موجات التحريض في الفترة الأخيرة. قال مساعد أحد النوّاب، الذي نلتزم حماية اسمه بسبب طبيعة تصريحاته غير الرسمية: "إننا نحاول عدم التعليق على هذه القضايا، برغم إيماننا العميق بها"، في إشارة إلى قضايا اللاجئين والمثليين، مشيراً إلى أن "نائبنا يرى أن الحملة ضد المثليين هي من أجل إحراجنا ودفعنا إلى الكلام وتالياً تقليب الرأي العام ضدنا".
تكمن المفارقة في هذه المقاربة، في أن الشخص هنا يجعل نفسه الهدف، وتصير حماية اسمه أولويةً، فيما على أرض الواقع حملات التحريض هذه تترجم عنفاً متعدد الأبعاد ضد الفئات التي تتعرض لها، وليس "سعادته".
نستطيع أن نخصص هذا التقرير لشرح الضغوط الاجتماعية والطائفية على هؤلاء النواب، أو ربما لجلدهم بسبب استمرار رضوخهم لها بعد 15 شهراً من عرس الديمقراطية في أيّار/ مايو 2022، لكننا لن نفعل، بل سنسأل: ما الذي يدفع الأشخاص إلى تغيير مواقفهم، أو تلطيفها، أو تقنينها، أو الامتناع عنها، بعد أن كانوا "أسود" الساحات ومتصدري التظاهرات وأبطال الكاميرات قبل وصولهم إلى مواقعهم النيابية؟
التحريض صوته عالٍ وقاتل
يقول عالم النفس السياسي رمزي إسماعيل، بشأن مواقف بعض نواب التغيير حول الهجمة على أفراد الميم-عين مؤخراً إن "المواقف أصلاً لا تصنع تغييراً داخل المجتمع، بل هي في حدها الأقصى تعبّر عن "حالة اعتراضية". وفيما بخص صمت باقي نواب التغيير، والمواقف الناعمة أو المتخبطة لبعض من تناول الموضوع، يقول المتخصص في سلوكيات السياسيين إن "هؤلاء قد يكونون فعلاً مؤمنين بهذه القضايا كما عبر بعضهم قبل انتخابهم، لكن تناقض المواقف مع المبادئ يعود إلى رغبة لدى السياسيين في تبني السردية العامة في المجتمع، وميل عندهم إلى التمسك بالسلطة مهما كان الثمن".
تواصلنا مع عدد من هؤلاء النوّاب الذين التزموا الصمت في ظل موجات التحريض في الفترة الأخيرة. قال مساعد أحد النوّاب: "نحاول عدم التعليق على هذه القضايا، برغم إيماننا العميق بها"
ويشرح كيف أن "الأشخاص في الشأن العام يواجهون تحديين رئيسيين: أوّلاً، هم كبشر يبحثون بطبيعتهم عن المطابقة الاجتماعية، فيلجؤون إلى تنعيم أفكارهم إلى أقصى حد عندما تتصادم مع الأفكار السائدة في المجتمع، بالإضافة إلى أن الأشخاص في السلطة عادةً ما يسعون إلى البقاء فيها، وتالياً يحسبون حساب أصوات الناخبين في كل خطوة وموقف، فيصبح الهم الأكبر كيف أبقى في السلطة؟ فلكي أبقى في السلطة يجب أن أتعايش مع الأفكار السائدة".
يشير إسماعيل هنا إلى "ورطة" نواب التغيير، بين الأفكار التقدمية التي يحملونها والمزاج العام للناخبين، والتي يختصرها بالجملة التالية: "من انتخبوني لا يشبهونني".
صورة السياسي أم قضاياه؟
ترى الباحثة السياسية زينة الحلو، أن السياسي يجب أن "يكون حكماً صانع رأي عام، فهو طبعاً يعبّر عن الناس الذين يدّعي تمثيلهم، لكن لديه واجباً تجاههم في أن يلعب دوره القيادي"، من هنا ترفض "الورطة" التي يشير إليها إسماعيل، مؤكدة أن صانع السياسات "يواجه المجتمع بالقيادة، ويخلق رأي عام مؤيد، ولا يكتفي بالرضوخ له".
تشدِّد الحلو على وجود مقاربتين رئيسيتين في المجال السياسي، حيث تُسهم كلٌّ منهما في تحقيق أهداف مختلفة وفقاً لما يسعى إليه النائب في موقع المسؤولية. تتمثل المقاربة الأولى في صناعة سياسات تعطي الأولوية لمجموعة متنوّعة من القضايا التي يرى هذا النائب أنها تعوق تطور المجتمع. أما المقاربة الثانية، فتتجلى في تقديم السياسي لشخصه على حساب قضاياه، فتصبح صورة النائب ومصلحته المحور الرئيسي لأدائه، حيث تدور حوله الأمور وتتجلى التفاصيل. يصبح هدفاً مستقلاً بحد ذاته، بعيداً عن كونه وسيلةً لتحقيق أهداف أو قضايا معينة.
مع ذلك، إذا عددنا الحقوق والقضايا هي الهدف النهائي، تصبح نيابة هذا السياسي مثلاً، وموقع المسؤولية الذي يشغله وسيلةً أساسيةً توضع في خدمة تحقيق هذا الهدف، وليست هي الهدف، بحسب الحلو. تعكس هذه المقاربة التفرغ للقضايا والاهتمام بتحقيق تقدم ملموس من خلال المساهمة الشخصية وتوظيف موارد السلطة وتوجيه الجهود نحو تطوير الواقع.
تذكرنا مقاربة الحلو بالمقاربات التي طالعتنا لدى تواصلنا مع بعض النواب للحديث عن هذه القضايا بالذات، والصمت الذي واجهناه، والذي لم نستخلص منه رفضاً أو قبولاً، بل صمتاً فقط، ومقاربات من مساعدين لهم تشخصن الأزمة، تغمض عيونها عن الضحايا الحقيقيين، وتركب نظرية مؤامرة مفادها أن المستهدف من إطلاق النار على المثليين/ ات أو اللاجئين/ ات هو النائب الجالس في مكتبه، لإجباره على الخروج بموقف وتقليب الرأي العام الرافض لهذه القضايا ضده.
يقدّم الناشط السياسيّ ضوميط القزي دريبي، شهادةً تسلط الضوء على الأخطار التي يخلقها خطاب التحريض على أفراد هذه الفئات، موثقاً إدخال أحد الأفراد المثليين إلى المستشفى بجروح بليغة، نتيجة استدراجه من قبل شبان مؤيدين لحزب الله من خلال تطبيق مواعدة بحساب وهمي على إثر خطاب نصر الله ضد هذه الفئة المهمّشة من المجتمع.
أيضاً، يروي الناشط السياسي لرصيف22، عن تعرّض أحد الأفراد المثليين مؤخراً للطرد من عمله بسبب تعابيره الجندرية في ظل الموجة عينها من التحريض.
بدورها تتحدث سحر، وهي من الجنسية السورية وتقيم في بيروت، عن "حياة من القلق" تعيشها منذ الحملة الأخيرة ضد اللاجئين وتشديد الأمن العام اللبناني قيوده على إقامة السوريين، "حيث لا أزال أكافح لتجديد إقامتي وأخاف من التوقيف في أي لحظة".
كيف يواجه بالسردية الثالثة؟
مأزق هؤلاء النواب وإن كان قد لخصه إسماعيل بالميل إلى التطابق الاجتماعي والرغبة في التمسك بالسلطة، إلا أنه يؤكد أن هناك "انفصالاً عن الواقع نراه في ما يخرج من تصريحاتهم، انفصالاً يجعلهم إما عاجزين عن مخاطبته فيختارون الصمت وإما يخاطبونه من حيث يقفون هم، وليس حيث يقف الجمهور؛ وأنت كي تقود جمهوراً، يجب أن تذهب إليه لتقوده، لا أن تقف في قوقعتك وتنادي له أو تنظّر عليه".
يعطي إسماعيل أمثلةً عن عبارات نسمعها تتردد على ألسنة بعض نواب التغيير، مثل: "الشعب كله ثار"، و"الشعب اللبناني غير طائفي"، و"الشعب غير عنصري بل السياسيون فقط"، وهي عبارات إن كانت تعكس شيئاً فهو جهل هؤلاء بالشعب.
صانع السياسات لا يهمه من يحب ومن يكره الفرد، بل ما يهمه هو عدم التمييز، وأن لا يتعرض أي فرد للتمييز في بيته ومكان عمله أو في مدرسته أو في الشارع
من جهتها، تشرح الحلو، التي قادت حملات انتخابيةً في السابق، وشغلت قبلها منصب الأمينة العامة للجمعية اللبنانية لديمقراطية الانتخابات بين عامي 2016 و 2018، أن "الميدان السياسي مفتوح لسياسيين يتصدون لدور قيادي في بناء رأي عام مساند للقضايا الحقوقية، حتى في ظل الخطاب التحريضي المسيطر، شرط أن يفهموا الناس، وأن يفهموا الشعب، فهماً علمياً يستند إلى تقييمات خبراء ودراسات نوعية وميدانية تضعهم بتماس مع الواقع، وبنتيجة هذا الفهم، يتمكن صانع السياسات الجيد من خلق سردية بديلة، تخاطب مخاوف الناس وتفكك أسبابها وتكسر القطبية وتحفزهم على التفكير خارجها".
وبرأيها، تتجلى القطبية في الخطاب العام بين سرديتين متضادتين تجمعهما المبالغة والاستناد إلى العاطفة، عادةً ما يكون اختيار إحداهما هو الخيار الأسهل، مثلاً: "نحن ضد اللاجئين ويجب أن نكرههم وأن نطردهم، مقابل خطاب مضاد: نحن مع اللاجئين ويجب أن نحبهم وأنتم يجب طردكم".
تشدد الباحثة السياسة على أهمية فهم صانعي السياسات لموقف الرأي العام، والقطبية تأثيرها كبير في توجيه الآراء، حيث يفسر الناس الأمور بناءً على ذلك، دون مراعاة التعقيدات، وتُؤكد على أهمية تقديم سرديات بديلة تتجاوز القطبية وتحث الناس على التفكير خارج الإطار التقليدي، وتقترح تبنّي رؤى مبتكرة، على سبيل المثال الخروج من قطبية الضد والمع، والحب والكراهية، وتبني خطاباً على أساس تبادل المصالح ومعالجة تضاربها، من خلال الدفع نحو تبني سياسات من أجل نقل خبرات اللاجئين في تعزيز الاقتصاد المحلي: "صانع السياسات هنا لا يبني خطابه على العاطفة، بل يفهم الواقع جيداً من خلال دراسات وإحصاءات، ويحتضن مواقف الناس وآراءهم ولا يجرّمها، مهما كانت، ثم يلجأ إلى مؤسسات بحثية وخبراء، ليضع سياسات تقوم على استثمار الخبرات المهنية التي يملكها السوريون لا سيما في مجالات لا يبرع فيها اللبنانيون".
تقدم الحلو مثالاً على هذه المجالات، قطاع صناعات السكاكر الذي يتميز به السوريون، وتقول: "هنا فرصة لنبني قطاعاً غير موجود في البلد، وتالياً لا منافسة فيه لليد العاملة اللبنانية، ويشغل السوريين ليكونوا منتجين بدل تقديمهم على أنهم عبء اقتصادي، وننظمه بما يسمح لهم بنقل خبراتهم إلى اليد العاملة اللبنانية".
وتشرح أن دور السياسي هو وضع هكذا سياسات، ومن ثم تسويقها ضمن خطاب ينطلق من مصلحة البلد ومواطنيه، ويجعل اليد العاملة السورية منتجة ودافعة للضرائب من خلال قوننتها، ومساهمة في الاقتصاد ومكملة لليد العاملة اللبنانية لا منافسة لها، وفرصة لا أزمة؛ "إذ لا يكفي وضع السياسات، بل ينبغي بناء خطاب محكم وسردية متينة وعلى أساس الأرقام والحقائق"، مشددةً على دور الأرقام في دحض أية سردية تحريضية قائمة على الأوهام والأخبار الكاذبة.
مثال آخر على ذلك هو الخروج من قطبية كراهية المثليين مقابل حب المثليين، وكراهية الحجاب مقابل حب الحجاب، وكراهية المايو مقابل حب المايو: "فصانع السياسات لا يهمه من يحب ومن يكره الفرد، بل ما يهمه هو عدم التمييز، وأن لا يتعرض أي فرد للتمييز في بيته ومكان عمله أو في مدرسته أو في الشارع"، بحسب الحلو، التي تقول إنها وخلال حملة انتخابية في طرابلس، كان قادة الرأي أو ما يسمى بالمفاتيح الانتخابية أول ما يسألون عنه هو: ما موقفكم من المثلية الجنسية؟ وكانوا يقولون "الشذوذ الجنسي". تتابع الحلو: "كنت لا أدخل في نقاش المفردة، بل أسأل السائل: هل تقبل بالتمييز ضد مثلي لأنه مثلي؟ هل ترضى بحجب الخدمات الصحية عنه؟ طرده من العمل؟ ضربه؟ الاعتداء عليه؟ فكان يأتي الجواب لا لا، وأحدهم قال: لا فقطع الأرزاق من قطع الأعناق. هذا في طرابلس". ويعد هذا مثالًا عن أهمية تفكيك الموقف في سبيل تغييره.
كيف تسوّق لخطابك السياسي؟
يحتاج بناء السردية إلى تسويقها، كي تصل إلى الجمهور المستهدف. ويُعتبر السرد القصصي الوسيلة الأكثر فاعلية لتسويق ونقل الخطاب السياسي بشكل مؤثر وقوي. فعندما يقدّم السياسيون خطاباتهم باستخدام القصص، يتيحون للجمهور فهماً أعمق للرؤى والمبادئ التي يسعون إلى توجيهها. يتيح السرد القصصي توضيح المفاهيم البعيدة والجافة عن طريق تقديمها بشكل تجسيدي وشيّق، مما يجذب انتباه الجمهور ويخلق تأثيراً أكبر.
من خلال استخدام القصص، يمكن للقادة السياسيين توجيه الانتباه إلى قضايا محددة والتأثير على مشاعر الناس. على سبيل المثال، يمكن استخدام قصة حقيقية عن معاناة أسرة لإبراز أهمية سياسات عادلة في توفير حماية وفرص للأفراد الذين يحتاجونها. هذا النوع من القصص يخلق اتصالاً عاطفياً بين من يعدّون أنفسهم صنّاع تغيير والجمهور، مما يعزز التأثير الإيجابي للرسالة.
وسط التحريض ضد كل ما هو تطور وتقدم في المجتمع، يمكن أن يكون الخطاب ببساطة وذكاء، تذكير الأفراد بالتطور الذي شهده مجتمعهم خلال الجيلين الأخيرين فقط
يؤكد إسماعيل أهمية السرد القصصي في تقريب الفكرة إلى الجمهور، معطياً مثالاً قابلاً للاستخدام: "وسط التحريض ضد كل ما هو تطور وتقدم في المجتمع، يمكن أن يكون الخطاب ببساطة وذكاء، تذكير الأفراد بالتطور الذي شهده مجتمعهم خلال الجيلين الأخيرين فقط".
ويقول: "فلنحكي قصة الطربوش الأحمر على رأس أبي مصطفى وهو جالس في قهوة الحي 10 ساعات في اليوم بينما زوجته ممنوعة من المرور أمامها، وهي جالسة في المنزل ليلاً نهاراً، وكيف تطورت الحياة والتزاماتها ومتطلباتها المادية، وتطورت معها المفاهيم والعادات، لنوصل رسالةً ضروريةً بأن المفاهيم الاجتماعية تتطور وتتغير، وهذا أمر حسن ومطلوب، ومن يرفضون ما يعدّونها قيماً حداثية اليوم، غير مستعدين للعودة إلى قيم كانت هي السائدة قبل 50 عاماً".
لا نريد "سوبرمان"
يؤكد المتخصص في فهم سلوكيات السياسيين، أن التقدّم المجتمعي لا يجلبه أشخاص بل عمل جماعي، وعلى هؤلاء مسؤولية القبول بهذه الحقيقة، وعدم النظر إلى أنفسهم على أنهم "سوبرمان". لكنه يوضح أن المقصود بالعمل الجماعي هو الذي يشترك فيه أشخاص متعددو وجهات النظر أو على الأقل قادرون على التعبير عن وجهات نظر موضوعية، محذراً من أن السياسيين كأي إنسان "يميلون إلى أن يجمعوا حولهم أشخاصاً يشبهونهم ويتفقون معهم، وبغياب حس نقدي لدى هؤلاء، ينشأ لدينا ما نسميه الفقاعة، حيث ينفصل السياسي عن الواقع، ويظن أن كل الناس هم هؤلاء الذين حوله. من هنا نسمع الخطابات الجامدة والمواقف المنفصلة عن الواقع، أو الصمت المطبق بسبب الخوف من مواجهة الواقع".
وترى الباحثة الحلو أن العمل السياسي في لبنان لم يتخطَّ بعد المقاربة القائمة على الشخص بعد، حيث يصبح الهدف هو الشخص: "وللإنصاف، هذا يعود أيضاً إلى أن ثقافة المجتمع قائمة على الاستزلام لأنها ثقافة نظرياً حداثية لكن مقومات المجتمع تقليدية مرتبطة بالعشائرية والعائلية، وثقافة المجتمع هذه ترسخت بسبب النظام القائم على التحاصص بين الطوائف، فاستنسخنا نموذج القبائلية في ظل مجتمع حديث بما أن النظام لم يرنا خارج هذا الإطار".
وتؤكد على أنه ومن أجل انتقال الأشخاص موضوع التحقيق من حالة "نصمت أم نغرد؟"، نحو صنع السياسات والدفع لها بخطاب يحمل السردية الثالثة، لا مجال سوى استعمال الأدوات العلمية من أجل فهم الواقع، وتحليله، والحصول على الوقائع والبيانات والأرقام الموضوعية منه، ووضع السياسات العادلة، وبناء السردية والتسويق لها من خلال الأدوات المتوفرة الإعلامية والتسويقية المتوافرة مع إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع قادة الرأي المحليين والناس.
"غياب النقاش حول السياسات في البلد، ووجود سياسات مبطنة للقوى الأقوى في المجتمع، واقع تدفع ثمنه الفئات الأكثر فقراً والأكثر تهميشاً والأقل وزناً في ميزان القوى، هؤلاء يتم سحقهم في ظل غياب صنّاع سياسات وشراكات وتنظيمات تناقش هذه السياسات، ولعل هذه الحقيقة تجعل الحمل أثقل على كل شخص يتقدّم إلى الشأن العام غير جاهز لتحمّل مسؤوليته فيه، يقول القزي دريبي.
لعل هذه الحقيقة تجعل الحمل أثقل على كل شخص يتقدم إلى الشأن العام غير جاهز لتحمل مسؤوليته فيه. في الخلاصة، وبين الصمت عن القضايا الحقوقية، وبين الاكتفاء بإصدار المواقف، باختلاف أسقفها، دون أي عمل حقيقي لصياغة خطاب عام وسياسات واضحة، سنبقى نتابع ونقيّم أداء أشخاص، فيما الحاجة ملحة إلى قيادات وفرق عمل ببرامج تقدّميّة تواجه وتوجّه من أجل تغيير ما، نراه واقعاً أمامنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.