شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
ظاهرها الفكر وباطنها القتل… ألاعيب السياسة في المناظرات الدينية

ظاهرها الفكر وباطنها القتل… ألاعيب السياسة في المناظرات الدينية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!


تحتل "المناظرات" مكانة مهمة في التاريخ الإسلامي، فمن خلالها تتخذ الاختلافات الفكرية والسياسية صيغة "المحاججة الفكرية"، لا المبارزة الدموية بالسلاح وإن انتهت تلك المحاجاة الفكرية تلك إلى إراقة الدم، كما في مناظرات أزمة خلق القرآن الشهيرة في التاريخ الإسلامي، والتي أريقت فيها دماء فقهاء وعلماء لأغراض ظاهرها فكري وعمقها سياسي.

عربة المناظرات سارت على طول التاريخ الإسلامي ولم تنقطع العودة إليها لأداء الغرض نفسه "السياسي ذو الرداء الديني"، إلى جانب أغراض أخرى؛ فمن خلالها تأتي الثقة بالنفس، ويُبسط الفقهاء نفوذهم الديني ويُصبحون موضع ثقة "علمية" وشعبية، ومن خلالها أيضاً تجري شيطنة الخصوم والمخالفين وابتزازهم أحياناً.

ومن ذلك حصل بعض رجال الدين على شعبية هائلة ونفوذ ديني وضعهم موضع ترحيب وثقة بين عوام المسلمين، كأمثال الشيخين "أحمد ديدات وذاكر نايك" وغيرهما، فالمسلم حينها يتبنى رأي شيخه ويتعصب له ويصعد معه ويهبط ويدور معه حيث ذهب، ومن تلك الزاوية؛ يصبح المسلم عرضة لتشكيل وعيه من الشيخ أثناء المناظرة، وتشكل نقطة بداية لاستحواذ ذاك الشيخ على عقل ووجدان المريد/ المشجع، فنفوذ الشيخ لا ينتهي بانتهاء المناظرة، ولا يهم فيها نجاحه في حسم تلك المناظرة لصالحه، فكما فرق الكرة، لا ينتهي ولاء المشجع لفريقه بهزيمة ذلك الفريق. ومن هنا يمتد نفوذ الشيخ لجوانب أخرى قد تكون سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، فيصبح رأي الشيخ علمياً صحيحاً في السياسة، ويصبح بمقدوره جمع الناس وحشدهم لأي حزب متى شاء وأين ذهب.

في كل المناظرات المسجلة في كتب الشيوخ والفقهاء المسلمين، تنتهي المناظرة بانتصار ساحق للشيخ وإسلام الخصم إن كان من غير المسلمين؛ أو انتقاله لمذهب الشيخ إن كانت المناظرة بين مذهبين، فيعلو نفوذ الشيخ دينياً ويصبح موضع ترحيب وثقة من الأعيان والسلطات وجموع الناس

جذور المناظرات في التاريخ

وعلى هذا النحو جرت بعض المناظرات بين المسلمين والمسيحيين في الفكر الإسلامي، حتى حصل شيوخ الدين على شعبية كبيرة مكّنتهم من التوسع الأفقي والحصول على امتيازات معنوية ومادية.

ينقل القاسمي في كتابه "محاسن التأويل"، حكاية يقال إنها وقعت في عهد الرشيد فيقول: "ومن ذلك يُحكَى أن طبيباً نصرانياً لهارون الرشيد ناظر علي بن حسين الواقدي المروزي ذات يوم، فقال له: إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه [الله] تعالى، وتلا هذه الآية، فقرأ الواقدي: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} [ الجاثية: 13]، فقال: إذن يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزءاً منه، تعالى علواً كبيراً، فانقطع النصراني وأسلم، وفرح الرشيد فرحاً شديداً، ووصل الواقدي بصلة فاخرة (أي منحه منحة فاخرة)".

في كل المناظرات المسجلة في كتب الشيوخ والفقهاء المسلمين، تنتهي المناظرة بانتصار ساحق للشيخ وإسلام الخصم إن كان من غير المسلمين؛ أو انتقاله لمذهب الشيخ إن كانت المبارزة (المناظرة) بين مذهبين، فيعلو نفوذ الشيخ دينياً ويصبح موضع ترحيب وثقة من الأعيان والسلطات وجموع الناس.

نفوذ الشيخ لا ينتهي بانتهاء المناظرة، ولا يهم فيها نجاحه في حسم تلك المناظرة لصالحه، فكما فرق الكرة، لا ينتهي ولاء المشجع لفريقه بهزيمة ذلك الفريق. ومن هنا يمتد نفوذ الشيخ لجوانب أخرى قد تكون سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية
جذور المناظرات في الفكر الإسلامي كانت تجريبية أكثر منها نظرية، ومنها ما وقع بين النبي موسى وسحرة فرعون، حيث تناظرا في مجلس الملك وأكلت حية موسى حيات السحرة، وقد أخرج موسى يده من جيبه لتخرج بيضاء من غير سوء، فكان ذلك برهانا عمليا بتفوق موسى وصدق كراماته

جلسة علم

استثناءات "موضوعية"

لا يعني هذا أن كل المناظرات المعروفة في تاريخ الإسلام قُدمت أو سارت على نفس النهج؛ فهناك نوع من المناظرات تحققت فيه شروط الموضوعية بشكل كبير، حيث عرض الإمام أبو بكر بن العربي المالكي مناظرة إمام الحنفية "الزوزني" مع بعض الشافعية والمالكية حول حديث البخاري "لا يُقتَل مسلم بكافر" ضمن فصول كتابه (أحكام القرآن) سنة 487 هـ، وقد وعرض أدلة الزوزني كاملة، حيث كان يقول بأن دماء المسلم كدماء الكافر وأن المسلم يقتل بالكافر خلافاً لمذهب الجمهور، وعرض مناظرة أخرى بين طالب علم والقاضي الزنجاني الشافعي حول مسألة "هل يقتل الكافر إذا لجأ للحرم أم لا؟" وقد انتصر لحجة طالب العلم الذي يقول (لا يقتل) رغم مخالفة ذلك للمذهبين المالكي والشافعي.

وقد يُعذَر لأبي بكر المالكي من تلك الناحية، أن هذه النقاط لم تشكل صراعاً عقائدياً وسياسياً بين المذاهب، لذا فكان عرضها كاملة لا شيء فيه يضر المالكي ومذهبه، حتى لو انتهى بنصرة مذهب خصومه، انطلاقاً من حقيقة تعصب أبو بكر المالكي طائفياً كما ظهر في كتابه "العواصم من القواصم" الذي خصصه للرد على الشيعة والحنابلة لدرجة تكفيرهم بعبارات واضحة. ولكنه هنا صار شخصاً مختلفاً ذا أفق موضوعي وإنصاف.

الجانب التجريبي في قصة موسى مناظرته مع فرعون حيث سلك أسلوب الفلاسفة المتدبرين في استقراء الظواهر الكونية لاستنتاج مبدأ وجود الإله الواحد، وقد عززت تلك المناظرة توجهات الفقهاء لعقد المناظرات كي يصلوا لنفس النتيجة، لكنهم تفرعوا عنها إلى قضايا نظرية وعقائدية تافهة ومعقدة

جذور المناظرات في الفكر الإسلامي كانت تجريبية أكثر منها نظرية، ومنها ما وقع بين النبي موسى وسحرة فرعون، حيث تناظرا في مجلس الملك وأكلت حية موسى حيات السحرة، وقد أخرج موسى يده من جيبه لتخرج بيضاء من غير سوء، فكان ذلك برهانا عمليا بتفوق موسى وصدق كراماته.

ولأهمية وفاعلية تلك المناظرات فقد ذكرها القرآن في عشرات من الآيات وكررت في العديد من السور، منها "واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى" [طه: 22] "وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء" [النمل: 12] "اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء" [القصص: 32]

والجانب التجريبي الآخر في قصة موسى مناظرته مع فرعون المذكورة بسورتي القصص (28:38) وسورة طه (20،49: 50) حيث سلك موسى أسلوب الفلاسفة المتدبرين في استقراء الظواهر الكونية لاستنتاج مبدأ وجود الإله الواحد، وقد عززت تلك المناظرة توجهات الفقهاء لعقد المناظرات كي يصلوا لنفس النتيجة، لكنهم انتقلوا من تجريبية مناظرات القرآن والتي كانت تتشكل حول قضية العقيدة الأكبر "الوحدانية"، ليتفرعوا عنها إلى قضايا نظرية وعقائدية تافهة ومعقدة شابها التعصب والبغي.

جلسة علم

شكوك حول المناظرات

من قواعد وضع المناظرات أن يكون السؤال فيها قصيراً لكن الجواب مُفصّلاً، والغرض من ذلك نُصرة مذهب معين، بحيث ترى أن راوي المناظرة على هذا النحو يكون على مذهب المُجيب المفصل؛ لا على مذهب السائل المقتضب، أو على مذهب السائل المفصل لا على المجيب المقتضب.

ومن أمثلة تلك المناظرات ما حدث بين الأشعري وأبو علي الجبائي لنصرة الأشعرية، ومناظرة غيلان الدمشقي والأوزاعي لنصرة مذهب أهل الحديث وغيرها، حيث اتصفت هذه المناظرات بأمرين اثنين:

الأول: مساحة كلام الخصم ضئيلة للغاية وسؤاله مقتضب وجوابه موجز، بينما كلام الشيخ الناقل للمناظرة واسع وأسئلته مفصلة وجواباته كذلك مفصلة، وظهرت هذه الصفة في مناظرات الجبائي مع الأشعري والأوزاعي مع غيلان الدمشقي.

الثاني: الحدة والتهديد والعنف حيث كان الحوار بين الرأي والرأي الآخر في هذا الزمن معدوماً، وتسود فكرة قهر وإلزام الآخرين بالقوة، فلم تكن ثقافة احترام الخصم معروفة رغم تضمن القرآن عديد من الآيات لاحترام الخصم ومناقشته بطريقة مهذبة بعيدة عن التكفير والإلزام، لكن ما نقرأه عن المناظرات في عصور الإسلام المتقدمة والمتأخرة يشهد بأنها تمثل إنعكاساً للصراع السياسي والتاريخي بين السلطات والمجموعات العقائدية.

المُنشغلين بالتناظر والرد على الخصوم وقعوا في التحريض على العنف والكراهية، مثلما حدث في مصنفات "الرد على الجهمية للدارمي" و"فضائح الباطنية" لأبي حامد الغزالي، وعشرات من أعمال ابن تيمية المشهورة بالردود على الفرق والأديان المختلفة

لذلك نلاحظ أن هذه المناظرات خرجت لنصرة السلطة السياسية في الواقع عن طريق إظهار خصومها الفكريين ضعافاً، ولتثبيت المُلك ونشر أفكاره ومذهب رجال بلاطه بين العامة.

وقد ورث المعاصرون هذه المناظرات ونشروها بغرض تحقير وازدراء خصومهم ومخالفيهم، ولها دور رئيسي في نشر التعصب المذهبي بين الناس، إضافة لذلك لها دور في نشر الجهل والعزلة لأن المناظرة بالأساس مكذوبة وحكيت على طريقة رجل القش، أي هي مجرد تصور وهمي عند الفقيه لمذهب خصمه من دون التحقق من صدقية أقواله أو البحث في حقيقة انتساب هذا المعتقد لمخالفيه.

وفي الحقيقة أن المُنشغلين بالتناظر والرد على الخصوم وقعوا في التحريض على العنف والكراهية، مثلما حدث في مصنفات "الرد على الجهمية للدارمي" و"فضائح الباطنية" لأبي حامد الغزالي، وعشرات من أعمال ابن تيمية المشهورة بالردود على الفرق والأديان المختلفة.

بينما من يهتم بالتسامح والتعايش لا يهتم بالمناظرات أصلا، وانشغاله كان منصبا في البحث والمعارف والكلام في السلوكيات والفقه. ومنهم من كان مشغولا بمحاسبة نفسه، وللشيخ محيي الدين بن عربي مناظرة مع نفسه ذكرها في كتابه "روح القدس" قال فيها إنه في أثناء مجاورته للحرم بمكة المكرمة حدث لنفسه من الإعجاب بعبادتها ومعرفتها ما دعاه إلى مناظرتها وإقامة الحجة عليها بغرورها، ومحي الدين بن عربي من أقطاب التصوف والحب في الفكر الإسلامي، فليس غريباً عليه أن يسلك التناظر الإيجابي المبني على محاسبة الذات لا محاسبة الآخرين.

بينما على النقيض من ذلك عرض أبو حامد الغزالي في كتابه "القسطاس المستقيم" مناظرة دارت بينه وبين أحد الباطنية القائلين بأنه لا بد في كل زمن من إمام معصوم يرجع إليه ويطاع طاعة عمياء، والغزالي مشهور بكراهية المذهب الباطني؛ فكان مشغولا بالرد على هذه الفرقة لاعتبارات سياسية ذكرها في مقدمة كتابه فضائح الباطنية؛ ومنها أنه كان مأموراً من الخليفة العباسي "المستظهر بالله" أن يرد على الباطنيين لصراع الدولة العباسية آنذاك مع الدولة الفاطمية التي تبنت الإسماعيلية الباطنية مذهباً.

الأمر ربما له بعد فلسفي. فالذات التي لا تستجيب للآخر في المناظرة وتصر على إفحام الخصم مهما حدث، حتى لو تبين أنها مخطئة؛ تملك في داخلها كماً كبيراً من التمرد والعناد والرفض. يؤثر هذا على مقاربتها للدين ومن ثم يدفعها إلى التكفير وربما التحريض. والسبب أنها تضطر للتفكير من داخل الصندوق لصناعة التمييز. ولمزيد من اﻹثارة تستعين بحشد القطيع والدهماء كإجراء دفاعي لإثبات هذا التميز. والسبب؛ أن رأي القطيع دائماً من داخل الصندوق فيأتي رأي المناظر في العادة موافقاً لرأي القطيع.

فمن آفات التناظر الكبرى هي العصبية، فكل إنسان يملك بداخله طاقة هائلة من الغرور تخرج بعد تهديد الإنسان أو إظهاره بمظهر الضعيف، لذا فقد اصطلحت للمناظرات المثمرة والجيدة شروطاً أهمها (عدم الشخصنة) وتقدير كل طرف للآخر والحرص على النقاش الهادئ الملتزم فقط بموضوع الخلاف. وذكاء المتناظر يظهر في قدرته على رؤية منظور الطرف الآخر وفهم وجهة نظره ومناقشة مخاوفه، أي يجب عليك اختراق عقل الآخر والغوص في أعماقه النفسية ثم وبهجمة مرتدة سريعة تخرج بمجموعة أدلة وحجج تنسف هذه الرؤية للخصم دون تجريح أو شخصنة، مع الالتزام التام بموضوع الحوار.

مآسي المناظرات المعاصرة

شهدت الفترة من عام 2011 حتى عام 2018 موجة تناظرات في الإعلام المصري، حيث كان المجتمع يمر بحالة تحول معرفي وسياسي لا بد وأن يصاحبها تحولا دينيا، فكثرت مناظرات المؤمنين والملحدين، والسنة والشيعة، والسلفية والعلمانية، والأصوليين والتنويريين، وقد مثلت هذه الحقبة أسوأ ما لدى المسلمين والعرب من أمراض فكرية ونفسية منها العنف والتكفير والسباب والشتائم والتهديد.


ومن تلك المناظرات ما وضعت عناوين مهينة لأحد الضيوف لإثارة عاطفة الجماهير والتزلف للأغلبية دينيا، ومن أمثلة ذلك ما فعله أحد الإعلاميين المصريين على قناته الخاصة باستضافة الشيخ الأزهري محمد عبدالله نصر لكن بعنوان (الشيخ ميزو) قاصداً إهانة الشيخ غير ملتفت لكونه لقباً أطلقه عليه الإخوان المسلمون والسلفيون الذين كان نصر معارضاً لسياساتهم كما كان معارضاً للحكم العسكري خلال فترة العامين الأولين للثورة. وأن ضيفه نفسه يرفض هذه التسمية ويعتبرها مهينة باعتبارها صدرت لغرض السب من قبل التيار السلفي إبان تكوينه لحركة "أزهريون بلا حدود" المناهضة للتيارين السلفي والإخواني.

هذه الممارسة تكررت قبلها في قنوات مثل "دريم" والمحور" في مناظرات قدمتها تلك القنوات وقصدت من خلالها إهانة ضيوفها لتوجهاتهم السياسية.

وللعواطف دور كبير في المناظرات، كون السيطرة على العواطف تجعل المُشاهد أكثر قدرة على تقييم الموقف والتصرف من خلال نتائج هذا التقييم، فلو رأيت أن كلامك سيزيد من حدة التعصب وارتفاع الصوت؛ انهج طريقاً آخر أكثر هدوءاً وذكراً لبعض المشتركات ليطمئن الخصم ولا يشعر بالقلق تجاهك

مناظرات معاصرة

من الشروط الرئيسية للتناظر أن تكون منفتحا ومتسامحا؛ ما يعني التخلي عن منطق الدفاع والهجوم الذي هو أكبر آفة في التناظر إلا أنه كذلك ما يحقق للمناظرات جانبها الترفيهي الجذاب إعلامياً.

من شروط التناظر السليم أيضاً اكتفاء المُناظر بعرض حجته، دون الحرص على إقناع الآخر بها من عدمه، وأظن أن هذه كانت مشكلة نوال السعداوي مع خصومها فقد سمعت لها عدة مناظرات، فرأيتها تكتفي بعرض حجتها وأدلتها ولا تحرص على إرضاء القطيع والجمهور كما يحرص الخصم، وكذلك دكتور فرج فودة فقد كان على نفس النمط.


وللعواطف دور كبير في المناظرات، كون السيطرة على العواطف تجعل المُشاهد أكثر قدرة على تقييم الموقف والتصرف من خلال نتائج هذا التقييم، فلو رأيت أن كلامك سيزيد من حدة التعصب وارتفاع الصوت؛ انهج طريقاً آخر أكثر هدوءاً وذكراً لبعض المشتركات ليطمئن الخصم ولا يشعر بالقلق تجاهك.

والسر في ذلك بوجود فارق كبير بين الكتابة والتأليف وبين المناظرات، فالأولى يلزمها حجج وأدلة ومنطق، لكن الثانية يلزمها كل هذا إضافة لطريقة عرض مناسبة لظروف التناظر، وهذا ما يجعل المناظرات غالبا تحدث بطريقة لا أخلاقية ولا عقلانية، حيث يضطر أحد الأطراف للكذب والتحايل والتهجم والشخصنة والصوت العالي بغرض استغلال أجواء النقاش لصالحه.

وفي الحقيقة أن للمناظرات فائدة كبيرة هي عرض الفكر الشخصي على المحك التجريبي وإخضاعه للرأي الآخر ومحاكمته إذا لزم الأمر، لكن هذه الفوائد لا تتحصل في مجتمعاتنا بسبب أن مناظرات العرب والمسلمين الآن لا تقوم على أساس علمي كونه يشترط وجود تكافؤ عقلي واستدلالي؛ ومن هنا لا يليق مناظرة شيخ يؤمن بـ"حدثنا فلان وأخبرنا آخر" لعاقل يؤمن بالدليل والتجربة، وفي ذات الوقت لا يدرك آفات التناظر الأساسية وهي (الكِبر والغرور وحظوظ النفس) مما يؤدي للتعصب والصدام والعنف. كذلك لا ندرك أن المتشدد دينيا يستفيد من توجه دولته وعاطفة الأغلبية، فطبيعي أنه عندما يخوض سلفيا مناظرة مع شيعي في مصر يكسب لأن الشيعي خائف من القوانين وانحياز القناة وعاطفة المجتمع، بينما لو عقدت المناظرة في العراق سيخسر لأن السلفي وقتها سيكون خائفا لنفس الأسباب.

ومن ذلك يمكن استخلاص شروط المناظرات الأساسية التي ينبغي أن تكون معياراً لسلامة الحوار في الإعلام وهي:

1- قناة محايدة وبرنامج محايد

2- مذيع متخصص يفهم مادة الحوار وله تاريخ فيها

3- حرية رأي وقوانين محايدة غير منحازة لأي طرف منهم

4- عدم تدخل أي طرف ثالث في المناظرة

5- عناوين محايدة وموضوعية مهذبة في اليوتيوب

عدم تحقق تلك الشروط يسمح للجاهل والأعلى صوتا بالفوز، لأن الحكيم يتحدث بصوتٍ منخفض في غالب أحواله، وتحليله قائم على الأدلة والبراهين العقلية والعلمية، وتلك أمور لا يفهمها رجل الشارع، لذا ففي مجتمعاتنا فإن الجاهل والأعلى صوتاً يؤثر في المستمع فيظنه الناس منتصراً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image