في عام 1993، نشر الكاتب الصحافي إبراهيم عيسى كتاباً بعنوان "أفكار مهددة بالقتل... من الشعراوي إلى سلمان رشدي" من إصدار مكتبة مدبولي الصغير. وقال في المقدمة: "إذا كان الشعراوي لا يتمتع بهذه المساحة من القداسة لدى الناس، لم أكن لأجعل منه هدفاً لكتاباتي وهجماتي"، وتابع "لم أر شيخاً يمثل مجموعة من الأفكار الرجعية المناهضة للعلم والتقدم إلا الشعراوي". وبعد نحو 30 سنة عاد إبراهيم عيسى لينضم إلى حملة تستهدف الشعراوي مجدداً، فهل ينطلق هذا الاشتباك عفواً وكأن الأحداث تحرك نفسها؟ أم أن هناك تناغماً مع الدولة في هذه المسعى؟
حي الجمالية
في عام 2014... أجرى وزير الدفاع المصري، المشير عبد الفتاح السيسي، أول حوار تلفزيوني موسع، قبل ترشحه لانتخابات الرئاسة للمرة الأولى. وسأله مضيفه، إبراهيم عيسى نفسه، قائلاً إنه يريد أن يتعرف أكثر على الأسرة والعائلة التي نشأ وسطها القائد العسكري ذي الشعبية الطاغية. لكن السيسي اختار أن يتحدث عن حي الجمالية حيث وُلِد، قائلاً إن الشيخين محمد متولي الشعراوي وإسماعيل صادق العدوي كانا ضمن من شكلوا فهمه للدين.
لم يبد الانزعاج على ملامح الكاتب الصحفي الذي هاجم الشيخ الشعراوي كثيراً قبل إجراء هذا الحوار مع السيسي. وفي المقابل ربما قال السيسي عبارته وهو يعلم أن مضيفه معاد لشيخه، إذ كان إبراهيم عيسى قريباً من السيسي قبل إجراء هذا اللقاء التلفزيوني، حتى أنه كشف في حوار شهير مع الإعلامي خيري رمضان: "كنت أجلس مع السيسي حين كان مديراً للمخابرات الحربية أسبوعياً، كل يوم إثنين، من الساعة السادسة أو السابعة مساء حتى الحادية عشر أو الثانية عشر ليلاً، لمدة ستة أشهر". هل يمكن لشخصين أن يعقدا جلسات مطولة بهذا الشكل دون أن يشتعل الخلاف حول شخصية الشعراوي؟ السيسي يقدم نفسه للجماهير بأنه أحد محبي الشيخ الراحل، وعلى مدار السنوات التالية، لم يتبدل موقف إبراهيم عيسى من الشعراوي... فهل هي أجواء من التسامح جمعت الطرفين، أم أن هناك توافقاً آخر صنع تلك الحالة؟
يقول السيسي في حواره مع إبراهيم عيسى: "كنت بشوف الشيخ العدوي والشيخ الشعراوي... وده شكل فهمي... وأعتقد أنه فيه كتير من الرشد وقرأت الكثير عشان أعرف ليه إحنا في الدين كده".
في 2019، شبّه إبراهيم عيسى نهج الشيخ الشعراوي بأسلوب الجماعات الإرهابية، وقال في برنامجه الذي حمل اسم "مُختَلَف عليه"، أن هناك "حالة فصامية وعزلة شعورية، تظهر في هتافات المريدين التي يطلقونها أثناء الدرس"
قد يبدو الأمر مفهوماً حين ننظر للسيسي كرجل من حي الجمالية، مرتبط برمزين من هذا الحي، فالشيخ العدوي كان خطيب الأزهر ويلقي دروسه أحياناً في جامع الحسين، كما أنه من سكان الدرب الأحمر ناحية منطقة الباطنية. أما الشعراوي فكان يقطن في جوار جامع الحسين، وظل مرتبطاً بالمكان حتى بعد انتقاله إلى منطقة بعيدة في محافظة الجيزة.
لكن إبراهيم عيسى يسأل الرئيس المُقبل – وقتها- في حواره عام 2014: "الحاكم المفروض يبقى داعية؟"، في استفسار منه عن دور الحاكم في القضايا الدينية المثارة على الساحة.
يجيب السيسي في عدة عبارات: "الحاكم مسؤول... والدين الحقيقي في تقديري ليس ما نراه الآن... ولم تكن هناك دولة دينية في الإسلام... إسلام الدولة غير إسلام الفرد". وأضاف "الدولة بتتعامل مع الواقع... ماينفعش أبقى بأقود الناس، وشايف قيادة تانية بتقول أمر مختلف وأقف ساكت".
يقول السيسي هذه الكلمات بعد خروج مصر من أزمة تولي جماعة دينية للحكم (الإخوان المسلمون)، وتظهر بين كلماته محاولة لإزالة تأثير الجماعات والقيادات الدينية على القرار السياسي وتوجيه الرأي العام، وربما يكون هذا أحد الأشياء التي مارسها الشعراوي نفسه عبر دروسه، رغم كونه منذ صعود نجمه جزءاً من كيان الدولة، إلا أنه كان يجد في درسه الديني الشهير على شاشة التلفزيون المصري فرصة لإعطاء رسائل وإشارات، قد تبدو على غير وفاق مع مساعيها.
تحدث إبراهيم عيسى بشكل مباشر عن أن الشيخ الشعراوي سخّر جماهيريته وسيطرته على مريديه في تكريس عزلتهم الشعورية عن الدولة. وهي من المرات القليلة التي يتحدث فيها الكاتب عن "أزمة الشعراوي" مع فكرة الدولة، دون أن يقتصر على نقد أسلوب الشيخ ومواقفه المتناقضة
جماهيرية الشيخ
في عام 2019، شبّه إبراهيم عيسى نهج الشيخ الشعراوي بأسلوب الجماعات الإرهابية، وقال في برنامجه الذي حمل اسم "مُختَلَف عليه"، أن هناك "حالة فصامية وعزلة شعورية، تظهر في هتافات المريدين التي يطلقونها أثناء الدرس"، ويرى عيسى أن أسلوب الشعراوي ورسائله إلى الجمهور تقول: "انسوا القرارات التي تأخذها الدولة... فلكم ديانة أخرى... ولكن في الوقت الحاضر لا نستطيع إيقاف ذلك في الدولة، ولكن في داخلنا نعرف أن ذلك حرام وخطأ"، على حد عبارة عيسى.
في هذه الحلقة، يتحدث عيسى أيضا بشكل مباشر عن أن الشعراوي سخّر جماهيريته وسيطرته على مريديه في تكريس عزلتهم الشعورية عن الدولة. وهي من المرات القليلة التي يتحدث فيها الكاتب عن "أزمة الشعراوي" مع فكرة الدولة، دون أن يقتصر على نقد أسلوب الشيخ ومواقفه المتناقضة.
وهكذا تصبح "الدولة" وقراراتها ومسارها، منطقة مشتركة بين كاتب مثل إبراهيم عيسى، وخطاب السيسي الذي أعلن عنه في أول ظهور. "ماينفعش أبقى بأقود الناس، وشايف قيادة تانية بتقول أمر مختلف وأقف ساكت".
تحول الجدل حول الشعراوي إلى ما يشبه التدريب الشعبي على قبول أن يكون الشيوخ خارج التأثير على قرارات الدولة. في خطوة تالية لنجاح الدولة في الاستحواذ على خطاب المنابر والدروس، منذ خوضها "الحرب على الإرهاب والتطرف"
يفصل السيسي بين "إسلام الفرد" الذي يخص المرء، و"إسلام الدولة" الذي بدأت تتضح معالمه بعد قرابة 9 سنين من الحكم، على سبيل المثال، قال السيسي، خلال افتتاح أحد المشروعات في شهر ديسمبر / كانون الأول الماضي: "الناس فاهمة إن الدين بيخاطب الضماير بس؛ لا لا... الدين الحقيقي ليه نظم. والدولة اللي ما تخليش بالها وتعمل نظم تحقق مقاصد الدين، يبقى عندها يعني شكل من أشكال القصور". جاء ذلك في تعليق على قانون الأحوال الشخصية الجديد. وحين ظهر مأذون مزعوم في فيديو حقق مشاهدات كثيفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي يدعو فيه الشباب إلى الزواج قبل صدور قانون الأحوال الشخصية الجديد، كي يتهرّبوا من دفع مبلغ يقره القانون لصندوق دعم الأسرة. انتهى الأمر بهذا الشخص إلى السجن، بتهمة إشاعة أخبار كاذبة وانتحال صفة مأذون شرعي. هذه الزوبعة حول القانون الجديد المشتبك مع الشريعة أثارها شخص مغمور في فيديو حقق تفاعلاً كبيراً، فما بالنا بتأثير أراء شخصيات من نوعية الشعراوي أو حتى أقل قليلا؟
ما أفترضه هنا، هو أن الهجوم على الشعراوي، يتناغم مع خط مختار بعناية، لإزاحة هالة القداسة عن أي شخصية قد تستغل شعبيتها في التأثير على قرارات الدولة المشتبكة مع الدين. فبينما أعلن السيسي مبكراً أن الدولة تتعامل مع "الواقع"، فمن الصعب تقبل ظهور شيخ في المستقبل يعادي قانوناً جديدا للأحوال الشخصية أو يحض الناس – على سبيل المثال- على التكاثر والإنجاب، في وقت يرفض فيه رئيس الدولة استمرار الزيادة السكانية بمعدلات عالية.
أما إذا عدنا إلى الموجة الحالية ضد نهج الشيخ الشعراوي، فإنه على رغم التوافق النظري بين قادتها من كتاب ومثقفين وعلى رأسهم الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى، مع مساعي الدولة لعزل أي تدخلات لقادة دينيين في خطط الدولة. إلا أن مستشار الرئيس للشؤون الدينية علّق مدافعاً عن الشعراوي. وكتبت دار الإفتاء منشوراً على فيسبوك، مقتبس عن أقوال الشعراوي، وكلها ردود فعل جاءت مقتضبة وعلى استحياء، ولم تتحول "الرئاسة" أو مؤسسات الدولة مثل "دار الإفتاء" إلى طرف مشتبك مع النزاع الحالي. وعلى ما يبدو كذلك، أن السيسي نفسه الذي استمع طويلا إلى دروس الشيخ الشعراوي لم يقطع الطريق ولا مرة أمام إبراهيم عيسى، أحد أبرز من هاجموا الشيخ.
وهنا يتحول الجدل حول الشعراوي إلى ما يشبه التدريب الشعبي على قبول أن يكون الشيوخ خارج التأثير على قرارات الدولة. في خطوة تالية لنجاح الدولة في الاستحواذ على خطاب المنابر والدروس منذ خوضها "الحرب على الإرهاب والتطرف". ما يعزز قدرتها على إدارة الشأن العام و"الواقع" و"نظم الدين" التي تحدث عنها السيسي، من دون الخضوع لتأثير كاريزما شيخ أو عالم.
وهكذا... لنا أن نتوقع استمرار هذه الموجة من الانتقادات لأسلوب شخصية مثل محمد متولي الشعراوي، في الوقت الذي تخوض فيه الدولة في قضايا متداخلة مع الدين وفق ما يفرضه "الواقع".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 17 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت