شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
باع مصحفاً ورثه عن أبيه واشترى بثمنه طنبوراً... الشاعر سَلْم الخاسر

باع مصحفاً ورثه عن أبيه واشترى بثمنه طنبوراً... الشاعر سَلْم الخاسر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الجمعة 29 سبتمبر 202312:49 م

إبان القرن الثاني للهجرة في العصر العباسي، انبلج فجر أجود شعراء تلك الحقبة، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، بشار بن برد وأبو النواس وأبو العتاهية ومسلم بن الوليد الملقّب بـ"صريع الغواني" وسَلم الخاسر، تلميذ بشار بن برد.

وبما أن سَلم الخاسر هو أقلّهم حظاً في الحديث عن شاعريته وحياته بين الكُتّاب، سنتطرق إلى أبرز حوادث حياته، كسبب تلقيبه بالخاسر، وسرقته بيت شعر من بشار بن برد "من راقب الناس مات غمّاً"، ومساجلاته مع أبي العتاهية التي تفوّق فيها سَلم وكانت له الغلبة، وأشعاره الجميلة وكأنها مقطوفة من خميلة، خاصةً التي مدح بها الخلفاء والوزراء.

لماذا لُقِّب بالخاسر

سَلم بن عمرو بن حمّاد بن عطاء (ت 186 هـ)، من موالي آل أبي بكر الصديق. كان تلميذاً ملازماً للشاعر بشار بن برد، يأخذ عنه روائع الكلِم ويتقن بفضله النَظم، وقد أورد ترجمته ابن كثير (تـ774 هـ)، في الجزء العاشر من كتابه "البداية والنهاية"، والخليفة العباسي ابن المعتز (قُتِل 296 هـ)، في كتابه "طبقات الشّعراء"، وأبو الفرج الأصفهاني (ت 356 هـ)، في الجزء الثالث من "الأغاني".

تتعدد الروايات عن سبب تلقيبه بالخاسر، فابن كثير يقول إنّه ورِث عن والده مصحفاً فباعه واشترى بثمنه ديوان شعر لامرئ القيس، أو أنه أنفق مائتي ألف في صناعة الأدب

تتعدد الروايات عن سبب تلقيبه بالخاسر، فابن كثير يقول إنّه ورِث عن والده مصحفاً فباعه واشترى بثمنه ديوان شعر لامرئ القيس، أو أنه أنفق مائتي ألف في صناعة الأدب. أمّا ابن المعتز فينقل حديثاً حدّثه به اليزيدي عن الشّاعر أبي عبد الله الجمّاز، ابن أخت سَلم الخاسر، مفاده أنه لُقّب بالخاسر لأنه تنسّك فترةً يسيرةً فرقّت حاله واغتمّ وحزن لذلك، فرجع إلى شيء من الفسق والمجون الذي كان عليه، وباع مصحفاً كان قد ورثه من أبيه فاشترى بثمنه طنبوراً (آلة موسيقية)، أو دفتر شعر، فشاع خبره بين الناس فسُمّي بالخاسر لهذا السبب.

وقيل له: ويلك، في الدنيا أحد فعل ما فعلت؟ تبيع مصحفاً وتشتري بثمنه طنبوراً؟ فقال: ما تقرّب أحد إلى إبليس بمثل ما تقربت إليه، فإني أقررتُ عينه. ولحقه هذا اللقب كما يلحق الفاعل المفعول، وذاع لقبه بين البلاد، فكلما يذكر الشاعر سَلم يتبعه الخسران، فصار اسمه قرين الخسارة لا الربح والفوز. وبسبب مدحه للخلفاء العباسيين ووزراء بني بَرمَك، اكتسب الكثير من المال، وتذكر الروايات التاريخية أنه أخذ من البرامكة ما يربو على ثلاثين ألف دينار. فذهب وقال لأهله: أنا الرابح ولست بالخاسر، وقد قرأت أنه هو الشاعر الذي حُشي فمه ذهباً، لكنني لم أجد أصلاً لهذه القصة الغريبة عند الكُتّاب الثقات.

التلميذ الذي تفوّق على أستاذه

عُني سَلم بثقافته أيّما عناية، فكان صديقاً مقرّباً من الشّاعر والمغنّي إبراهيم الموصلي (وهو من ورثه بعد وفاته) ونديم الخليفة هارون الرشيد، ومن أبي نواس وأبي العتاهية وتلميذاً نجيباً لبشار بن برد، لكن هذه العلاقة بينهما لم تستقم، فشابها الكثير من الخلل والزلل، ولعل أشهرها قصة البيت المعروف لابن بُرد، والذي قام سَلم بسرقة فكرته وتحسين ألفاظه، وهذه الواقعة تطرق إليها الكثير من الكتّاب، ولكن أقربهم زمنياً هو ابن المعتز ولذلك تكون روايته هي الأدق بطبيعة الحال. فعندما قال بشار بن برد: "من راقبَ النّاس لم يظفر بحاجته/ وفازَ بالطيباتِ الفاتكُ اللهجُ"، راح يتفاخر بين الشّعراء بأنه لم يسبقه أحد من قبل إلى هذا المعنى. ولكن سَلم الخاسر التلميذ النجيب والكاتب الأريب، جوّد ألفاظه وأضافَ إليه الفصاحة مع رقة المعنى والمفردات، فقال هذا البيت الذي أصبح مثلاً يتناقله الناس حتى يومنا هذا: "من راقب الناس مات غمّا/وفاز باللذّة الجسورُ".

ولما بلغ البيت بشار بن برد، جنّ جنونه وأرعد وأزبد، وقال: "أخذ معاني كلامي فكساها أَلْفَاظاً أَخَفَّ مِنْ أَلْفَاظِي". لكنه أقصر عن هجاء سَلم الخاسر وأهله لأنه من موالي أبي بكر الصديق، وهنا تظهر النّفس السّمحة العالية للشّاعر بشار بن برد.

وفي حادثة مختلفة بين أبي العتاهية وسَلم الخاسر، قال أبو العتاهية أبياتاً عرّض بها بسَلم، واتهمه بالشح والبخل، قال فيها:

تعالى الله يا سلم ابن عمرو/ أذلّ الحرصُ أعناق الرجالِ

هب الدنيا تساق إليك عفواً/ أليس مصير ذلك إلى الزوالِ؟

فما ترجو بشيء ليس يبقى/ وشيكاً ما تغيّره الليالي

فقال سلم: ويلي على ابن الفاعلة قد كنز في بيته البدور (مفردها بَدرة وهي صرّة المال الكبيرة)، وأنا في ثوبيّ هذين، وليس عندي غيرهما. هو ينسبني إلى الحرص. فقام سَلم بقصف جبهته حين قال فيه:

ما أقبَحَ التَزهيدَ مِن واعِظٍ/ يُزَهِّدُ الناسَ وَلا يَزهَدُ

لَو كانَ في تَزهيدِهِ صادِقاً/ أَضحى وَأَمسى بَيتَهُ المَسجد

وَرَفَضَ الدُنيا وَلَم يَلقَها/ وَلَم يَكُن يَسعى وَيَستَرفِدُ

يَخافُ أَن تَنفَدَ أرزاقُهُ/ وَالرِزقُ عِندَ اللَهِ لا يَنفَدُ

الرِزقُ مَقسومٌ عَلى مَن تَرى/ يَنالُهُ الأَبيَضُ وَالأَسوَدُ

كُلٌّ يُوَفّى رِزقَهُ كامِلاً/ من كَفَّ عَن جَهدٍ وَمَن يَجهَدُ.

وفي هذه الأبيات، نجد بعض الأشعار التي أصبحت حكماً وأمثالاً متداولةً بين الناس.

أشعاره في الوزراء والخلفاء

تُجمع غالبية المصادر التاريخية التي استقيت منها معلوماتي عن سلم الخاسر ("الأغاني" و"البداية والنهاية" و"طبقات الشعراء" و"المصون في الأدب")، على أن سلم كان أعرف الشعراء بالأشعار الجاهلية، وهو من المطبوعين المحسنين، وكان كثير البدائع والروائع في شعره، وهو شاعر منطقي، له قدرة عظيمة على الإنشاء على حرف واحد، كما قال في موسى الهادي:

مُوسَى الْمَطَرْ، غَيْثُ بَكَرْ، ثُمَّ انْهَمَرْ، كم اعتبر، ثم فتر، وَكَمْ قَدَرْ، ثُمَّ غَفَرْ، عَدْلُ السِّيَرْ، بَاقِي الْأَثَرْ، خَيْرُ الْبَشَرْ، فَرْعُ مُضَرْ، بَدْرٌ بَدَرْ، لِمَنْ نَظَرْ، هُوَ الْوَزَرْ، لِمَنْ حَضَرْ، وَالْمُفْتَخَرْ، لمن غبر.

كما كانت لِسَلم المقدرة الشعرية على الإتيان بالأفكار الشّعرية السّابقة بحلّة لغوية جديدة، كما في قصته مع بشار بن برد. ويذكر الحسن العسكري (ت 382 هـ)، في كتابه "المصون في الأدب"، مقطوعةً لسلم الخاسر كتبها في المهدي وكان الأخير يتوعّده، يقول فيها سَلم:

وأنت كالدّهر مبثوثاً حبائله/ والدّهر لا ملجأ منه ولا مهربُ

لو ملكتُ عنانَ الريح أصرِفه/ في كل ناحيةٍ ما فاتكَ الطّلبُ

وقد أخذ سَلم البيتَ الأوّل من الأخطل، الذي يقول:

فإن أمير المؤمنين وفِعله/ كالدّهرِ، لا عارٌ بما فعل الدهرُ

تُجمع غالبية المصادر التاريخية على أن سَلم كان أعرف الشعراء بالأشعار الجاهلية، وهو من المطبوعين المحسنين

والثاني من الفرزدق، الذي يقول:

فلو حملتني الريح ثم طلبتني/ لكنت كشيء أدركته مقادره

تُوفي سَلم الخاسر في العام 186 هـ، ويذكر ابن كثير أنه لما مات لم يكن له ورثة وقد ترك خلفه خمسين ألف دينار، وديعةً عند أبي الشّمر الغساني، وكان يعرف بها صديقه المغنّي إبراهيم الموصلي.

فغنّى الموصلي يوماً في حضرة هارون الرشيد وأطربهُ فقال له: سَل (اطلب ما تشاء)، فقال: يا أمير المؤمنين أسألك شيئاً ليس فيه من مالك شيء، ولا أرزؤك شيئاً سواه (آخذ من مالك). فقال: ما هو؟ فذكر له وديعة سَلم الخاسر، وأنّه لم يترك وارثاً، فأمر له بها وكانت لحسن حظه من نصيبه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image