اشترى الخليفة الثاني عُمر بن الخطاب في عهده داراً في مكة، وجعلها سجناً يُحبس فيه، وهو التقليد الذي حافظ عليه علي بن أبي طالب حين أقام سجناً من القصب في الكوفة أُطلق عليه اسم "نافع" أو "مخيس".
وفي زمن بني أمية، كثرت الحركات المعارضة لحُكمهم، ما تطلّب وأداً لحركات التمرد تلك، فانتشرت السجون في كثيرٍ من البقاع الأموية، التي استضافت الكثير من المعارضين السياسيين لدولتهم، وعلى رأسهم العباسيون والعلويون، عرفنا من هذه السجون: "المخيس" بالعراق، و"الخضراء" في دمشق، و"دوار" باليمامة.
ورثت هذه الثقافة الدولة العباسية التي أطاحت بالأمويين ونقلت دفّة الحُكم من الشام إلى العراق، وخلال أعمال بناء الخليفة المؤسس أبي جعفر المنصور عاصمتَه بغداد، أمر بإنشاء واحدٍ من أشهر السجون التي عرفتها الدولة العباسية وهو "سجن المطبق".
مطامير تحت الأرض
ينقل أبو يوسف في كتابه "الخراج" عن اليعقوبي تطرُّقه لذِكر ذلك السجن في روايته لبناء المنصور لمدينة بغداد؛ قال اليعقوبي: "سكة المطبق فيها الحبس الأعظم الذي يُسمى المطبق، وثيق البناء مُحكم السور".
في زمن بني أمية، كثرت الحركات المعارضة لحُكمهم ما تطلّب وأداً لحركات التمرد تلك، فانتشرت السجون في كثيرٍ من البقاع الأموية، التي استضافت الكثير من المعارضين السياسيين لدولتهم، وعلى رأسهم العباسيون والعلويون
وصفه محمد الجريوي في كتابه "السجن وموجباته في الشريعة الإسلامية" بأنه "حبس كبير مظلم بناه المنصور بين طريق البصرة وطريق باب الكوفة"، ظلَّ أهم سجنٍ في بغداد حتى عهد المتوكل.
منحنا عبدالله السوداني في بحثه عن "أسوار بغداد"، المزيد من التفصيل عن هذا البناء سيئ الذِكر، فأكد أن السجن بُني بين سورين، وأن المنطقة التي يقع فيها سُميت بـ"سكة المطبق".
اهتمَّ المنصور ببناء سجنٍ قوي من طوابق متكررة، له تحصينات قوية وعليه حراسة شديدة بعدما تهالكت معظم السجون القديمة بسبب الفيضانات والزلازل، وهي الأمور التي تسببت في حالات من الهروب الجماعي للمساجين من معارضي العباسيين.
ويضيف الجريوي: "كان متين البناء، متين الأساس، اسمه مشتق من مطامير الفرس" (الحفرة المطمورة تحت الأرض). بينما قال عبود الشالجي في "موسوعة العذاب" إن السجن حمل هذا الاسم لأنه كان يُطبق على السجين فيحول بينه وبين رؤية النور. وبعيداً عن هذا الخلاف، فإن أكثر ما اشتهر به هذا السجن هو أنه في منتهى الظلمة بحيث لا يُرى فيه ضوء النهار، ولا يُمكن تمييز الأوقات بداخله.
وحسبما ذكرت هالة الرفاعي في دراستها "السجون في مصر في العصر المملوكي"، فإن تشبيه السجن بالمطامير لم يكن مجازاً بل حقيقة، إذ حوى مبنى السجن على غرفٍ تحت الأرض، أسفل منها آبار وفوقها قباب، يُدلّى فيها مَن يرُاد التضييق عليهم.
وهو ما يتّسق مع شكاوى الظلام التام وانعدام الرؤية التي حكاها السُّجناء عقب خروجهم، مثلما قال موسى بن عبدالله الكامل، حفيد الإمام علي بن أبي طالب: "سُجنّا في المطبق، فما كنّا نعرف أوقات الصلاة إلا بأجزاءٍ يقرؤها علي بن الحسن".
وفي كتابه "الفرج بعد الشدة"، أورد التنوخي قصة رجلٍ قُيّد ظهره بـ60 رطلاً من الحديد، يحكي الرجل: "إني والله مظلوم، اتهموني بقتل رجلٍ لم أقتل، فأخذني صاحب الشرطة وضُربت ضرباً شديداً"، وبحسب رواية السجين فإنه بعد تدخل أهله وشفاعة أصحاب الجاه عنه أُعفي من القتل ونُقل إلى المطبق حيث قضى 16 عاماً محبوساً في الحديد.
مقر المعارضين
يقول عادل محيي الدين الألوسي في كتابه "الرأي العام في القرن الثالث الهجري" إن المطبق كان من أكثر أماكن تجمّع الرأي العام في العصر العباسي لكثرة ما فيه من السجناء الذين ضاق بهم السجن في بعض الفترات رغم سعته.
وبرغم ما عُرف عن متانته وصلابته وكثافة حراسته، فإن هذا لم يمنع وقوع أحداث شغب من وقتٍ لآخر. يقول الألوسي إن بعض معارضي المأمون نفذوا أعمال شغب داخل السجن، ونجحوا في سدِّ بابه ليمنعوا أي أحد من الدخول عليهم، وهو ما استدعى تدخلاً من المأمون بنفسه، الذي حاصر السجن بفرقة عسكرية انتهت بوأد التمرد وإعدام قادة المشاغبين وصلب جثثهم في الشوارع.
بشكلٍ عام كان المبطق هو المقر الرئيسي للسجناء من قادة العلويين في أغلب فترات الحُكم العباسي.
كما سجّلت كُتب التاريخ محاولة هروب ناجحة نفّذها بعض السجناء العلويين بعدما تمكّنوا من فتح ثغرة في حصونه والهرب منه عام 272هـ/789م، في عهد الخليفة المعتمد. يقول ابن الأثير في "الكامل" إن المساجين بعدما ثقبوا الجدران ركبوا دواباً أُعدّت لهم وهربوا، لكن السُلطات نجحت في القبض عليهم، فعُذّبوا بشدة، أما قائدهم فلقد قُطعت يده ورجله من خِلاف.
بعد تلك الواقعة بست سنوات، كرّر عددٌ من السجناء المحاولة ونجحوا في في ثقب جدران السجن والهروب منه، حسبما أورد السيوطي في كتابه "تاريخ الخلفاء.
وفي دراسته "تأثير الفيضانات على سجون بغداد في العصر العباسي"، أكد أن المطبق امتلأ بالماء إثر تعرُّضه لفيضان دجلة والفرات سنة 654هـ/1256م الذي أغرق المساجد ودار الخليفة المستعصم بالله، ووصل إلى شرفات المنازل وهدم في بغداد 183 داراً، دون أن يذكر مزيداً من التفاصيل عن مصير هؤلاء المساجين المُحاصرين بماء الفيضان.
أشهر زوّاره
استضاف سجن المطبق عدداً كبيراً من معارضي العباسيين من آل البيت والوزراء وكبار رجال الدولة. وشهد عهد هارون الرشيد سَجن الشاعر أبي العتاهية في المطبق عندما بلغ الخليفة أنه أنشد قائلاً: "ألا إن ظبياً للخليفة صادني/ومالي عن ظبي الخليفة من عُذرٍ"، وكذلك سَجن أبي نواس بعد اتهامه بالزندقة، إلا أنه سرعان ما عفا عنه بعدما استعطفه بشعره.
"السجن حمل هذا الاسم لأنه كان يُطبق على السجين فيحول بينه وبين رؤية النور".
أيضاً دخل المطلقَ عبدُ الملك بن صالح العباسي، والي الرشيد على المدينة والطائف، والذي ظلَّ مسجوناً حتى عفا عنه الأمين، وأيضاً ثمامة بن أشرس، أحد كبار المعتزلة، والذي استعطف الرشيد بالشعر، فأفرج عنه.
وحينما وقعت نكبة البرامكة، أمر الرشيد بإيداعهم في المطبق، وفيه توفّى يحيى ثم الفضل سنة 193هـ.
ومن قبل الرشيد، انقلب والده الخليفة المهدي على مستشاره وصديقه يعقوب بن داود بعدما اعتقد أنه يُوالي الأمويين، فأمر بحبسه في المطبق ومصادرة أمواله سنة 166هـ، وظلَّ حبيساً حتى مات المهدي، ولم يخرج إلا في عهد هارون.
أيضاً في عهد المتوكل بالله (232هـ-247هـ)، اتبع هذا الخليفة سياساتٍ غليظة بحق العلويين، حتى أنه كان يُعاقَب كلُّ مَن يزور قبرَ الحسين بن علي بالسجن في المطبق.
وبشكلٍ عام كان المبطق هو المقر الرئيسي للسجناء من قادة العلويين أغلب فترات الحُكم العباسي.
أكثر من مُطبق
بحسب الجريوي فقد أطلق المنصور لقب "مطبق" على أكثر من سجن في العراق مثل "مُطبق سامراء"، أيضاً عرفت مصر خلال العهد الطولوني، حينما كانت تابعة للعباسيين، وجود سجنٍ عُرف بالمطبق أيضاً.
كما ورد ذِكر سجن مُطبق آخر في المغرب، سُجن فيه عبيد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية لاحقاً، كما أورد صالح الحاج في كتابه "دراسات في تاريخ المغرب الإسلامي".
كذلك استعمل الأندلسيون ذات الاسم عند الإشارة لسجنٍ مخيف آخر في مدينة الزهراء. تقول زينب الكنعاني في أطروحتها "مؤسسات الرعاية الاجتماعية في الأندلس ودورها في الحياة العامة" إن هذا السجن بُني تحت أرض أحد القصور ليكون قريباً من مقر الخلافة، ليُشرف عليه الخليفة بنفسه، وكان مخصصاً لعتاة المجرمين المحكوم عليهم بالإعدام أو السجن مدى الحياة، وخُصَّص كذلك لقمع "السجناء المهمين" مثل المعارضين السياسيين وأسرى الممالك الأوروبية المتاخمة لحدودهم.
وتتابع أنه كان يحتوي على مجموعة من الغرف التي تُشبه السجن الانفرادي، اختلفت مسمياتها وفقاً لنوع العقوبة وشدّتها، وعُرف عنه أن الذي يدخله كان لا يخرج منه إلا ميتاً، لذا اعتاد السجين فيه أن يودّع عائلته قبل دخوله.
يبدو أن "مُطبق الزهراء" لم يقل وحشة عن "مُطبق بغداد"، بعدما قال عنه الشاعر محمد بن مسعود التجاني: "في منزلٍ مثل ضيقِ القبر أوسعه/دخلتُه فحسبتُ الأرضَ تهوي بي". كما وصفه الوزير هاشم إلى جاريته شِعراً، فقال: "وإني عداني أن أزورك مطبق/وباب منيع بالحديد مضبّبُ". ومن فرط ما عُرف المكان بضيقه كتب أحد المسجونين فيه إلى جعفر بن عثمان المصحفي، حاجب الخليفتين الحكم المستنصر بالله وابنه هشام المؤيد بالله، قائلاً: "دعوت الله أن يُميتك في أضيق السجون كما أعمرتنيه حقبة".
مرّت الأيام وتحققت دعوى السجين، وبات المصحفي واحداً من أشهر زواره، بعدما عزله الخليفة من منصبه وسجنه مع أهله في المطبق، حيث تعرضوا للتعذيب والإهانة حتى مات أغلبهم خلف أسواره سنة 372هـ/983م.
استضاف سجن المطبق عدداً كبيراً من معارضي العباسيين من آل البيت والوزراء وكبار رجال الدولة. وشهد عهد هارون الرشيد سَجن الشاعر أبي العتاهية، وكذلك سَجن أبي نواس بعد اتهامه بالزندقة
وهو ذات ما جرى مع الوزير عبدالملك بن إدريس الجزيري، الذي أمر الخليفة المنصور بسجنه، استجابةً لطلب حاجبه ومستشاره ابن أبي عامر، فصُودرت أموال الجزيري وسُجن في المطبق. وخلف الأسوار قرض عدداً من الأبيات التي تصف فيه سجنه، قال فيها: "في رأس أرجد شاق عالي الذُرى/ما بعده لموحدٍ من معمّر... يأوي إليه كلّ أعور ناعبٍ/وتهبُّ فيه كل ريحٍ صرصر... ويكاد من يرقى إليه مرّة/في عمره يشكو انقطاع الأبهر).
لم يفُق هذين الوزيرين شهرة من ضمن "مساجين المطبق" إلا الأمير مروان بن عبد الرحمن الحفيد الرابع لعبد الرحمن الناصر، ثامن حكّام الدولة الأموية، الذي طمع في الزواج من جارية أبيه، فقتله كي يتزوجها. بعدها سُجن في المطبق، وفيه التقى بـ"جماعة من رؤساء الأدباء" على حد وصف الكنعاني للمساجين حينها، ما تسبّب في تطور موهبته ونبوغه في الشعر.
لاحقاً، استغلَّ مروان هذه الموهبة ليصف لنا جزءاً من معاناته خلف الأسوار، فقال: "في منزلٍ كالليل أسود فاحم/داجي النواحي مظلم الأشباج... يسود والزهراء تزهر حوله/كالحبر أودع في دواة العاج".
وحينما هجى ابن غصن الحجاري، المأمون بن ذي نون، حاكم طليطلة ما بين عامي 435هـ و467هـ، أودعه في سجن المطبق، ومن خلال أسواره ناشده الإفراج عنه قائلاً: "فديتك هل لي منك رحمى لعلّني/ أفارق قبراً في الحياة فأُنشرُ"، وفي قصيدة أخرى: "وها أنا في بطن الثرى وهو حاملُ/فيسّر على رقبي الشفاعة مولدي" وأيضاً: " في محلٍّ كأنه ظِلف شاةٍ/ليس فيه لذي دبيبٍ دبيبُ".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...