كنت طفلة ابنة مدينة لا تعي ما يعنيه ارتباط جذورها ببلاد غارقة، أغلب عائلتي نزحوا إلى القاهرة منذ أجيال، وما يمكن أن تراه عيناي لا يختلف كثيراً عما يراه أطفال يشبهونني ببشرة سمراء وجذور من الريف أو الصعيد أو مدن القناة. لكن شريط الصوت الذي التقطته أذناي في طفولتي، ربما يكون مختلفاً بعض الشيء، فإلى جانب الموسيقى التي تتصاعد عبر مسجل صوت أخي الأكبر لفرق مصرية وأجنبية، كان صوت محمد منير وأحمد منيب يكشف جزءاً من هذا الاختلاف، وصوت آلات موسيقية وأغان مختلفة تتصاعد من الأفراح النوبية، تملأ مناطق أخرى لتتشبع بذلك الاختلاف.
كنت دوماً أنجذب لصوت الدف، وأنفر من صوت الأورغ، وأشعر أن نغماته دخيلة على هذا الإيقاع، وربما شريط الصوت هو ما كان يمكن تتبعه لإيقاظ مخيلة طفولتي تجاه تلك البلاد البعيدة التي لم يعد لها وجود، فكتبت قصتي الأولى في طفولتي عنها، وفي أذني موسيقى مختلفة عن السائد، كأني قد ألفتها بنفسي. لم أكن أعرف آنذاك، أنها حملت سمات موسيقى قدمها موسيقي عالمي، حمل عوده على كتفه وجاب قارات خمس؛ أوتار عوده مسكونة بأصوات الطبيعة التي سمعها في طفولته بقريته النوبية التي غرقت بعد أن غادرها ولم تغادره، وأبقت في مخيلته تلك الأصوات الرائقة والصور الملونة. بل اجتذب إلى أوتاره كل الأصوات الشبيهه في مواطن ارتحاله الطويل، لتأتي موسيقاه ذات حساسية متجاوزة الحدود، وكأني سمعت موسيقى حمزة علاء الدين منذ طفولتي رغم كوني لم أعِ قيمة هذا الاسم إلا بعد سنوات من كتابة قصتي الأولى.
حمل عوده على كتفه وجاب قارات خمس؛ أوتار عوده مسكونة بأصوات الطبيعة التي سمعها في طفولته بقريته النوبية التي غرقت بعد أن غادرها ولم تغادره، وأبقت في مخيلته تلك الأصوات الرائقة والصور الملونة
صدرت ألبومات حمزة الموسيقية في كبريات شركات الإنتاج الأمريكية، واتخذت موسيقاه موقعاً مهماً في عدد من الأفلام العالمية، ودرَّس الموسيقى في أكبر جامعات أمريكا واليابان، وأقام حفلاته على أشهر مسارح العالم، واستطاع بفنه أن يجعل الإيقاعات النوبية ضمن مناهج التدريس في مختلف المعاهد الموسيقيّة والجامعات العالميّة، وسار في جنازته في كاليفورنيا أكثر من ألف وخمسمائة أمريكي من أصول مختلفة، كما نشر في الصحف الأجنبية آنذاك، بينما في مصر، لا يعرفه الكثيرون.
الطريق من توشكى إلى القاهرة
حكايات حمزة عن نشأته لابن شقيقته الفنان أكرم مراد تنقل لنا مشاهد من حياته في مسقط رأسه، حيث ولد حمزة في قرية توشكى في النوبة القديمة، في 10 يوليو/ تموز 1929، وعاش في لوحة عناصرها جبل ونيل وأرض زراعية، وظل يبحث طوال مشواره الفني عما يعبر عن هذا الهارموني الداخلي، فكان يصعد تلة عالية، ويدندن على علبة صفيح يقربها من إحدى أذنيه، ويسمع الرنين وصدى الصوت في المكان المفتوح، فتفتنه الأصوات وترددها في السكون. لم يكن يعي تأثير ألعابه الطفولية على وجدانه، ولم يكن يعرف أن تلك الأصوات، ومعها صوت حركة الماء، ودوران السواقي، وغيرها من أصوات الطبيعة، ستتبع عمره كله.
أدى بناء خزان أسوان، الذي تمت تعليته الثانية قبل ميلاد حمزة بثلاثة أعوام، إلى تقلص مساحة الأراضي الزراعية، وسعى النوبيون وراء رزقهم في العاصمة تاركين عائلاتهم في قراهم الأصلية، وكان علاء الدين الأب قد وجد فرصة عمل في النادي السويسري بالقاهرة وترك عائلته في توشكى، وما أن بلغ حمزة الخامسة عشرة وأتم مرحلته الدراسية الأولى في النوبة، حتى لحق بوالده، ليبدأ مرحلة جديدة في القاهرة، وعبر حمزة عن علاقته بالقاهرة في وقت لاحق قائلاً: “القاهرة صدمتني ولم تصدمني أبراج نيويورك".
يشير حمزة في كتاب عنه قدمه كين هارت، وترجمه صديقه بانقا إلياس، إلى تصادم مبكر مع العاصمة، ربما في زيارة لوالده الذي عمل بها، إذ يقول: "عندما كنت ولداً صغيراً، جئت إلى القاهرة وتعرضتُ للحياة الحديثة بكاملها. حيث ولدت لم تكن لدينا حتى عجلة نلعب بها. وفجأة اكتشفت أن صندوقاً رمادياً له زر أصفر يقبع في زواية المقهى الموجود في أسفل العمارة التي كنا نسكن فيها، يصدر أصواتاً عجيبة. كان ذلك هو الراديو، وكانت تلك أول مرة أشاهد فيها واحداً. سمعت هذا الصوت، كان شيئاً لم أسمعه من قبل، وكانت تلك أول مرة أسمع فيها موسيقى. كان ذلك في الخامسة أو السادسة من عمري... فيما بعد أصبحت الثقافة الموسيقية المصرية بالنسبة إليّ مألوفة".
دفعه والده لدراسة الهندسة في جامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً)، إلا أن "حمزة الدين" كما أصبح اسمه بين تلاميذه ومستمعيه الغربيين، كان متعلقاً بالموسيقى إلى حد أنه قرر دراسة الموشحات في معهد إبراهيم شفيق للموسيقى
حكى حمزة لابن أخته أكرم مراد أن الجرائد كانت تصل لقريته متأخرة أسبوعاً كاملاً، إذ تخوض رحلة ليوم في القطار ثم ثلاثة أيام في "البوسطة"، وهي وسيلة مواصلات نهرية كانت تمر بالقرى كل أسبوع، وتسير بعرض النيل لتنتقل من قرية لأخرى، فكانت العاصمة بعيدة وغامضة بالنسبة له، وشعر بصدمة أكبر حين بدأ السير في الشوارع ببشرته السمراء، وملامحه البارزة كأنها منحوتة في الصخر، فيعامله المارة كأنه "غريب قادم من أفريقيا"، فعرف حمزة أن قوانين العاصمة تحتم التحرك في تجمعات مع أهله وأصدقائه، وانتقل من سكنه في مصر الجديدة إلى المنيرة، وعرف تجمعات النوبيين في عابدين، وتردد على الأندية الاجتماعية التي أقامها النوبيون في القاهرة، وبدأت علاقته بالموسيقى تتكشف أكثر، لكنه مع ذلك رضخ لرغبة والده ودرس هندسة الكهرباء في جامعة الملك فؤاد الأول (القاهرة حالياً)، ليعمل بعدها في سكك حديد مصر، حتى يستطيع الحياة في العاصمة الصادمة والغامضة بمستقبل مضمون.
لكن "حمزة الدين" كما أصبح اسمه بين تلاميذه ومستمعيه الغربيين، كان متعلقاً بالموسيقى إلى حد أنه قرر دراسة الموشحات في معهد إبراهيم شفيق للموسيقى، ثم التحق بعده بمعهد الملك فؤاد للموسيقى الشرقية (معهد الموسيقى العربية الآن) لدراسة آلة العود والموسيقى العربية.
في حوار نشرته مجلة الكواكب (أغلقت مؤخراً في إطار سياسات التقشف الحكومية في مصر) في العام 1997، قال علاء الدين للصحافي السوداني القيم في مصر مصطفى حمزة إن بدايته الحقيقة كانت بعد لقائه مصادفة مع الملحن المخضرم زكريا أحمد عند سور معهد الموسيقى العربية (وسط القاهرة)، كان حمزة مهموماً باستخدام العود وإدخاله على الموسيقى النوبية لأول مرة، وصنع عوداً وكان يعزف عليه بشكل "غير احترافي" على حد وصفه في الحوار. بحسب رواية حمزة، فإن زكريا أحمد لفته شكل الآلة، فسأله: "بتعرف تعزف عود؟"، رد حمزة بالايجاب، فسأله: "بتعرف تضبطه؟" فأجابه بـ"لا"، فبدأ زكريا أحمد يعلمه ضبط الأوتار، ومن هنا اتنقل لمرحلة جديدة؛ مرحلة دراسة الموسيقى من خلال معهد الموسيقى العربية، بينما يحكى أكرم مراد أنه حتى يستطيع علاء الدين شراء آلة عود، اضطر للعمل في محل لصناعة الأعواد، وكانت مهمته بعد انتهاء صانع العود من عمله، أن يجففه ويركب الأوتار ويشدها ويضبطها، حتى التقى بالشاعر النوبي محي الدين شريف، وتشاركا في الاهتمام بالتراث والموسيقى النوبية.
من عنيبة إلى السودان
كان حمزة هو أول نوبي يعزف على آلة العود، وقبله، كانت الموسيقى النوبية لا تعرف سوى الدُف أو الطار النوبي، الذي قال عنه حمزة علاء الدين: "نحن نعتقد أن الطار يحتوي على أربعة أصوات: الماء، والهواء، والنار، والتراب. إذا ما لعبت أو عزفت على الطار؛ يمكنك الشعور بكل هذه العناصر".
يقول أكرم مراد عن هذه المرحلة من حياة حمزة، أن الأخير بعد انتهائه من دراسته الموسيقية في القاهرة، بدأ مرحلة من "العراك" مع الآلة الموسيقية الشرقية، ليخرج منها الإحساس النوبي.
بعد انتهائه من دراسته الموسيقية في القاهرة، بدأ حمزة علاء الدين مرحلة من "العراك" مع العود، ليخرج منه "الإحساس النوبي"
في هذه الفترة حصل على وظيفة مدرس موسيقى في مدرسة عنيبة الثانوية، ليعود إلى النوبة ويقضى عاماً ونصف منذ العام 1954 متنقلاً بين النجوع، يعمل صباحاً في مدرسته، ويتجول مستمعاً لفنون قرى النوبة في الليل، رفيقه في رحلاته حمار قوي، لأن البيوت متناثرة على جانبي النيل وتستغرق ما يقرب من نصف ساعة سيراً بين كل قرية وأخرى، واضعاً أمامه تحدي إخراج هذا الإحساس الجنوبي المتفرد من آلة العود الشرقية.
جمع حمزة أغاني الرجال من "السلم الخماسي"، وكان عنده مشكله مع الأغاني الخاصة بالنساء، مثل أغنية "أسمر اللونا"، وينقل عنه أكرم أنه أضطر إلى التنكر في زى سيدة ليغطي وجهه ويجلس وسط النساء ويستمع إلى أغانيهن، إلا أنه كان لا يزال حائراً في إيجاد سبيل إلى الإيقاعات النوبية على العود الشرقي.
إلى أن جاء الفرج ذات ليلة، يحكي أكرم مراد، أنه في إحدى الليالي كان حمزة يتجول على حماره سانداً عوده بيده اليسرى ويدندن، فمر هواء ما بين الأوتار فسمع نغمة مختلفة لأول مرة، فأمسك العود وعزف النغمة وصرخ: وجدتها، وبعدها بأسبوع ذهب لشريكه في التجربة الكاتب النوبي محي الدين شريف، ليسمعه آلة العود بإحساس السلم الخماسي، وبدآ تجربتهما الموسيقية مع توثيق حياة النوبيين بالفن.
يروي أكرم، نقلاً عن حمزة، عن تأثير حالة مصر في الخمسينيات عليه، حين كان في كل بيت آلة موسيقية حتى لو كانت دفاً. يسير حمزة مع أصدقائه ليلاً في شوارع عابدين والمنيرة، ويتسامرون وهم في طريق عودتهم بالعزف والغناء في الشارع، فتُفتح الشبابيك ليستمتع الناس معهم بحالة السَمَر، وكأنه تدريب يومي على الأداء أمام جمهور، وكان من بين أصدقائه عازف ناي في الفرقة المصاحبة لأم كلثوم، تجمعه به جلسات في جمعية توشكى، ولما توفي القصبجي رشح هذا الصديق حمزة للعزف مع أم كلثوم، لكن حمزة رفض العرض الذي قد لا يرفضه غيره، لأن طموح مشروعه الموسيقي كان أكبر من العزف، حتى لو كان وراء أكبر قامة غنائية في عصرها.
بعد مشادة مع مدير الإذاعة المصرية، مُنع علاء الدين من دخول الإذاعة التي كان يسجل فيها التراث الموسيقي النوبي، وارتحل إلى السودان براً ومن هناك سافر العالم حاملاً الجنسية السودانية بعد أن لفظته مصر
في هذه الفترة وجد الفرصة، هو وشاب نوبي آخر كان غير معروف وقتها، وهو أحمد منيب، لتسجيل الأغاني النوبية في الإذاعة المصرية، وسجلا بعضها مع أوركسترا الإذاعة، حتى حدثت مشكلة بين حمزة ومدير الإذاعة مُنع على إثره من دخولها مرة أخرى، فأدى شعوره بالظلم لاتخاذ قراره بالسفر إلى السودان على ظهر جمل وعبر الحدود من دون أوراق رسمية. وحين علم المسؤولون السودانيون – والرواية لا تزال لابن شقيقته- أنه خريج معهد موسيقي في مصر، تم تعيينه في الإذاعة السودانية وعمل فيها لمدة عامين حتى حصل على منحة لدراسة الموسيقى في أكاديمية Nazionale di Santa Cecilia بإيطاليا، وأنهى أوراقه باعتباره سودانياً، لا مصرياً.
من إيطاليا إلى أمريكا
يشير صديق حمزة، السفير عبد المجيد على حسن ممثل الأمين العام للامم المتحدة سابقاً، وسفير السودان الأسبق بالولايات المتحده الأمريكية، في مقالة كتبها في ذكرى وفاة حمزة، أن سفر الفنان النوبي عام 1959 إلى إيطاليا كان ثمرة تواصله مع معهد ليوناردو دافنشي "المركز الثقافي الإيطالي بالقاهرة" فحصل على منحة حكومية إيطالية للالتحاق بمعاهدها الموسيقية لدراسة الموسيقى الغربية من خلال آلة الغيتار، وخلال إقامته للدراسة في إيطاليا، سعى حمزة للاحتكاك والتفاعل مع الوسط الفني العالمي، حتى أنه لم يأنف من العمل كأحد أفراد المجاميع السينمائية عند تصوير فيلم "كليوباترا" الشهير، وهو من بطولة اليزابيث تايلور وريتشارد بيرتون في روما في أوائل الستينيات.
أدت دراسته للغيتار إلى تفكيره في إضافة وتر سادس للعود، وكانت نقطة انطلاقه الجديدة من خلال التعرف إلى العديد من الموسيقيين المشاهير، وعلى رأسهم المغنية والناشطة السياسية الأمريكية "جون باييز" التي تولت تقديمه إلى شركة فانغارد ريكوردز في عام 1964، التي اصدرت أول ألبومين لحمزة وهما موسيقى النوبة (Music of Nubia) وإسكاليه Escalay التي تعني ساقية المياه، وفى نفس العام قدم أول حفلة موسيقية له على مسرح بالولايات المتحدة الأمريكية من خلال مهرجان نيوبورت للموسيقى الفلكلورية. وحقق ألبومه الثاني "إسكاليه" الصادر في 1968 شهرة كبيرة في الغرب، واختيرت موسيقاه ضمن شريط صوت فيلم الحصان الأسود The black stallion للمخرج فرانسيس فورد كوبولا.
ووصلت ألبوماته حتى وفاته إلى أربعة عشر ألبوما، ما بين 30 أغنية وسبع مقطوعات موسيقية، وانطلقت شهرته إلى خارج أمريكا فشارك بالأداء في مهرجانات موسيقية عالمية عدة، وأقام حفلاته في أنحاء أمريكا في ساحاتها المفتوحة ومسارحها، مرتدياً جلبابه، وحاملاً عوده ودفه.
موسيقى النوبة في أوستن
عمل حمزة أستاذاً للموسيقى في جامعة أوستن بولاية تكساس، وتنقل لنا تلميذته "كاثرين براسلافسكي" في مقالها عنه لصحيفة الغاردين البريطانية، صورة لحمزة الأستاذ الجامعي قائلة: "نظرت حولي كان الجو يحمل الكثير من ملامح الستينيات. بعض الطلاب يدخنون في زاوية الفصل. كانت مجموعة متنوعة جداً. قوس قزح تجمع معاني الانتماء العرقي ولون البشرة. كثير منهم من دول البحر الابيض المتوسط. كثير من الرجال ، والعديد من النساء أيضاً. وتبدو غالبيتهن من إيران. كانت المجموعة عنقوداً صغيراً مرتبك المظهر، كنا نطلق عليهم الهيبيز. جذب انتباهي شخص أسود يجلس إلى يميني. يبدو هيبياً جداً، يدخن في استرخاء ويرتدي زياً زاهياً: قميصاً أنيقاً شديد البياض، وينتعل صندلاً لامعاً. شعره أجعد وطويل، وكث اللحية، لكنه مختلف عن السحنة الأفريقية العادية. صعب تحديد عمره، أكبر مني بقليل ( كنت وقتها في الثامنة والعشرين) ،ربما يراوح عمره ما بين الخامسة والثلاثين والأربعين. ربما يكون من فناني الجاز الظرفاء، قلت ذلك بقناعة تامة (كنت وقتها من المعحبين بموسيقى الجاز). وعندما حضر كل الطلاب، نهض ذلك الشخص من مكانه وسار بهدوء نحو الباب وأغلقه، ثم رّحب بنا، وقدّم نفسه بلكنة إيقاعية مرحة. وجلس خلف منضدة المعلم. نظرت لأول مرة بعمق في عينيه. لم أر عينين مثلهما من قبل؛ كأنهما شبابيك تطل على نفق من ضياء وظلال، في مسافة ماضيها بعيد عن التصور. غريبة، ومروعة الألفة. شعرت بقوة عظيمة. وأذكر أني تمنيت لو كنت رسامة، حتى يمكنني أن أحاول رسم بروفايل له".
لم يتوقف حمزة عند تدريس الموسيقى الإثنية في أمريكا، بل خاض تجربة جديدة بعد أن حصل على منحة دراسية لدراسة أوجه الشبه بين آلة العود الشرقية وآلة بيوا اليابانية، وهي آلة تشبه العود، ليثبت نظريته بأن العود أصل الآلات التي تنقر بالريشة، كانت المنحة لمدة عام واحد، إلا أن حياته في اليابان استمرت ثلاثة عشر عاماً.
من اليابان إلى أمريكا من جديد
في فيلم أنتجه عنه التلفزيون الياباني، زار حمزة علاء الدين قرية يابانية تشبه قرى النوبة، وقضى يوماً مع أقدم عازف وأستاذ لآلة البيوا وزوجته الصماء، وقام كلاهما بالعزف على آلته الموسيقية للآخر، وتحليل الموسيقى التي سمعاها، تحدث حمزة عن أن موسيقى آلة البيوا أقرب لأصوات الحشرات والعصافير، أي قريبة من أصوات الطبيعة مثل الموسيقى النوبية، ولاحظ أن اللغة التي يتعامل بها عازف البيوا مع زوجته تعتمد على الذبذبة، وهى لغة تعمل على توافق وتنافر ذبذبات أصوات البشر والجماد، وبنى حمزة علي هذا اللقاء نظريات جديده في الموسيقى. ومثلما كانت الموسيقى الإثنية ودراستها مدخلاً لنشر الموسيقى النوبية في أمريكا، كانت جوانب التشابه بين الموسيقى اليابانية والنوبية مدخلاً آخر لنجاح حمزة علاء الدين في اليابان.
ظل حمزة بعيداً عن مصر وشاعراً بعدم تقدير وطنه له، حتى بعثت إليه وزارة الثقافة رسمياً بدعوة للغناء في افتتاح متحف النوبة عام 1997، وقال حمزة للمقربين له وهو داخل المتحف: "اليوم فقط شعرت أن رسالتي قد وصلت للعالم، فهذا ما كنت أشرحه للأجانب وأتمنى أن يدركه أهل بلدي، وكان يشعر أنه قد أخذ حقه لأول مرة في مصر"
خلال إقامته، تعرف حمزة على الفنانة اليابانية "نبرا" عازفة الفلوت، ونبرا "الذهب الخام" هو الاسم النوبي الذي أطلقه عليها حمزة قبل أن يتزوجها في منتصف التسعينيات وكان قد تجاوز الستين من عمره.
زياراته إلى مصر
عام 1978 دعته فرقة غريتفول ديد لمشاركتها في الغناء بحفلة عند سفح الهرم كضيف شرف، واهتم الإعلام المصري به للمرة الأولى، تاثراً باهتمام الأجانب به وحرصهم على مشاركته، ولكن ما أن غادر مصر حتى انتهى الأمر كأنه لم يكن.
ظل حمزة بعيداً عن مصر وشاعراً بعدم تقدير وطنه له، حتى بعثت إليه وزارة الثقافة رسمياً بدعوة للغناء في افتتاح متحف النوبة عام 1997، وقال حمزة للمقربين له وهو داخل المتحف: "اليوم فقط شعرت أن رسالتي قد وصلت للعالم، فهذا ما كنت أشرحه للأجانب وأتمنى أن يدركه أهل بلدي، وكان يشعر أنه قد أخذ حقه لأول مرة في مصر".
ويعلق الصحافي مصطفى حمزة الذي أجرى معه حواراً وقتها، أن حمزة كان لديه مرارة من غيابه عن المشهد في مصر رغم نجاحه بالخارج، فكل ألبوماته لم توزع في مصر، وبحسب حمزة: "هذا كان يجعله يشعر بغصة لأنه معروف ويقدر بالخارج من شركات كبرى مثل سوني ويونيفيرسال، وهذا لا يحدث في مصر التي لا يعرفه فيها سوى النخبة، وكان يود أن ينطلق خارج هذا الإطار، مما أثر فيه خصوصاً في آخر مرحلة له في حياته بعد إحياء حفل متحف النوبة وحفل آخر بمركز الهناجر للفنون برئاسة هدى وصفي – وقتها-. وكان عنده أمل بأن يصل للمصريين، لكن لم يستطع إقناع المنتجين والموزعين بتقديم أعماله، حتى الناجح منها في الخارج، وهذا دعاه للسفر من جديد".
الواقعة الثانية التي أثارت غضب علاء الدين، كانت حين أعلن التلفزيون المصري وفاته وهو ما زال على قيد الحياة، وهذا جعله يأتي لمصر لكي يؤكد إنه ما زال على قيد الحياة لكن في نفس الوقت قرر أن يظل في تغريبته المقدرة له بعيداً عن وطنه حتى وفاته في بيركلي بكاليفورنيا.
يروى أكرم واقعة تؤكد ما ذكره مصطفى. ففي عام 1966 غنت أم كلثوم فكروني واستعان عبد الوهاب بالغيتار، معتبراً أن العود لا يصلح في توزيع هذه الأغنية، ولأن حمزة عاشق للعود فقد عزف مقدمة الأغنية على العود وبارتجالات ووضعها في ألبوم الساقية، ولم يكن حمزة يعرف أن أسطوانته قد وصلت لعبد الوهاب، وبعد ثلاثين عاماً، وفي إحدى زياراته القصيرة إلى مصر، زار حمزة عبد الوهاب في بيته، ولمح اسطوانة الساقية، وضحكا معاً حين تذكرا الواقعة، وانبهر عبد الوهاب بعود حمزة وعزفه وعرض عليه أن يعينه أستاذاً في الكونسرفتوار لكن حمزة قال: "أنا اتكتب عليا اشيل شنطة هدومي، والموضوع مش علم بس فيه رساله بوصلها للعالم كله".
مات عبد الوهاب بعدها بعام واحد وظل حمزة في حالة ترحال حتى وفاته.
أمريكا محطة أخيرة
عاد حمزة مع زوجته نبرا إلى أمريكا قبل وفاته بخمس سنوات، وتوفي في 22 مايو/ أيار 2006 لتنقل نبرا لأهله في مصر وصيته الأخيرة، وهي رغبته في أن يدفن في مجمع الأديان في ضاحية "نافاتو"، أحد الأطراف الشمالية لمدينة سان فرانسيسكو، وشيعه جمهور يزيد عن الألف وخمسمائة من عشاق فنه ومريديه على امتداد ولاية كاليفورنيا من الأمريكيين البيض والسود وذوي الأصول الآسيوية وبالذات اليابانية والشباب النوبي المقيم في تلك المنطقة. فكات مشهد جنازته أشبه بموسيقاه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...